ToGoTea

الأرشيف

 

مذكرات درّاجة ناريّة، كتبها أحد أشهر الزعماء الثوريين في القرن العشرين، إرنيستو غيفارا، والمشهور بـ غيفارا؛ وهنا أتحدثُ عنها كفيلم سينمائي لا يستطيع المُشاهد أن يتجاوزه دون أن يتحدث عنه، ولو كان همساً عابراً لصديق ما، بل لا يستطيع أن يتجاوز الفيلم دون أن يبقى ويلتصق بذاكرته كحدثٍ تاريخيٍ حقيقيّ، خُلقت خلاله أفكار لن أقول غيرت الحياة البشرية في هذا القرن –مع أنني لن أبالغ إذا قلت ذلك- بل سأكتفي بقول أنها أفكار غيّرت بشكلٍ تام مسار حياة شابٍ في الثالثةِ والعشرين من عمره، وجعلته ينتقل من طالبٍ خريج في كلية الطبّ؛ إلى رمزٍ مناضلٍ ضدّ الاستعمار والظلم والماديّة التي داست على إنسانية شعوب أمريكا اللاتينية حينها.

الفيلم بطبيعة الحال لاتيني، أي أنه مُثل باللغة الأسبانية. وجرت أحداث قصّته في عام 1952م. حيث قرر إرنيستو غيفارا والذي لعب دوره الممثل (غيل غراسيا برنال) وصديقه المتخصص في الكيمياء الحيويّة ألبرتو غراندو 29 سنة وقام بأداء دوره الممثل (رودريغو دي لاسيرنا)، قررا أن يجربا المغامرة في رحلةٍ طويلة، قبل أن ينهمكا في حياتهما العمليّة، غادرا بلدتهما في بوينس آيرس –الأرجنتين، في رحلةٍ على درّاجة ألبرتو الناريّة، بهدف التجوال واكتشاف أمريكا اللاتينية. سارا على طول الساحل التشيلي بمخططٍ مُعدّ مسبقاً، وبدراجةٍ متهالكةٍ محمّلة بأمتعةٍ كثيرةٍ تتجاوز طاقتها بكثير.

وفقاً للمخطط فإن الرحلة تنتهي في فنزولا حيث سيحتفل ألبرتو بعيد ميلاده الثلاثين هناك. خلال الطريق كانا يمرّان بمشاكل وعثرات ومواقف منها الحرج ومنها الحزين ومنها الطريف، كأن تتعطل الدراجة في حين، ويتعرضان للسقوط من عليها في أحيان أخرى، أو حتى الإرتطام ببقرة على الطريق كما حدث فعلاً.

في الطريق، تبدأ الأفكار بالتحوّل تدريجياً، عندما تفاجئمها الحقيقة، الحقيقة التي تظهر على وجوه السكان الأصليين من هنود أمريكا اللاتينية، الحقيقة التي تغطي سحنات الفقراء ممن أُغتصبت أراضيهم من قبل شركات خارجية، الحقيقة التي تلمع في أعين أطفالٍ مشردين، ونساءٍ وعجائز وشيوخ يتوزعون في بيوتٍ بلا أسقف، يخبّئون حنقهم وعجزهم وفاقتهم، يكبتون ذلك في سبيل توفير لقمة عيش لأطفالهم.  تأثّر الصديقان بما شاهداه. غيفارا المرهف والذي كان كثيراً ما يكتبُ خلال الرحلة، غيفارا المرهف كان الأكثر تأثراً بما يجري حوله، أناس يطردون من بيوتهم وأراضيهم، ومن ثم يعودون إليها كعمّال وصبيان تحت رحمة المغتصب، يعودون بدافعِ الجوع والمرض.

بدأ غيفارا -في تلك المرحلة- يعيش صراعاً داخلياً وشعوراً بالمسؤولية ورغبة بالتغيير والمساعدة، تعاطفاً مع كمية التعاسة التي شاهدها، رغم أنه قادم من بلدٍ آخر لا يحتوي على هذا الكم من البؤس، إلاّ أن القضية ليست قضيّة انتماءات، والتعاطف والتفاعل معها غير مرتبطٍ بحدود وجوازات، القضية قبلّ أي شيء؛ هي قضيّة إنسان. قبل نهاية الرحلة وصلا إلى منطقةِ عزلٍ لمرضى الجُذام، على ضفاف نهر الأمازون، وعملا هناك كطبيبين متطوعين، بقيا أياماً في تلك المنطقة، وساهما في تغيير الكثير نحو الأفضل، وهناك كان غيفارا قد عقد العزم، وقررّ مصيره بصمت. بعد رحيلهما عبر النهر في قاربٍ صنعهُ -حباً بهما وبأخلاقهما- الأطباء ومرضى الجذام وأهدوه لهما، افترقا ليواجه كلّ قدره وحياته، ذهب ألبرتو إلى فنزويلاّ، وكان قدر غيفارا أن يرسم تاريخاً جديداً، ويثور في وجه العالم، ضدّ الظلم والاستعمار.

بقي أن أتحدث عن الإخراج، فقد ظهر الفيلم بحلّةٍ عفويّةٍ وطبيعيّةٍ وبتصويرٍ غير معقد، ومن رأيي أنه يتماشى مع واقعية القصّة، كامرتان أو كاميرا متحرّكة فقط، دون الحاجة إلى الكثير من التأثيرات الإخراجية، الأمر الذي يضع المُشاهد بداخل المشهد ويقرّبهُ من الشخصيات ليتفاعل وكأنه يقف معهم، تم ذلك على يد الحائز على عدّة جوائز السنمائية عالمية المخرج [والتر سليس]. الجميل أن قصة الفيلم ليست بغريبةٍ على والتر كما أنها بطبيعة الحال ليست غريبة على المجتمع اللاتيني وعلينا أيضاً بل على العالم ككلّ، فكتاب (مذكرات دراجة نارية) من الكتب المشهورة عالمياً لارتباطها بقضيّة وثورة ووقتٌ بارز في التاريخ.


يقول المخرج والتر سليس في أحد لقاءاته الصحافية (كان للكتاب تأثير حقيقيّ عليّ، ليس فقط لأنها مذكرات غيفارا في رحلته لاكتشاف مكانه في العالم، بل لأنها أيضاً مذكرات في رحلةٍ أوجدت ما يسمّى بالهوية الأمريكية اللاتينية). أعجبتني جملة كُتبت على غلاف الفيلم، وبها أختم هذا المقال المتواضع عن الفيلم:

(دع العالم يُغيّرك، عندها تستطيع أن تُغيّر العالم!)

Be Sociable, Share!

3 تعليق على The Motorcycle Diaries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *