الرجل الذي سقط من السماء
فكرة استعصت على شرطيّ يطمح بأن يكون كاتبًا
استنفذ العريف “دليم” كل الحيل التي وفرها الجزء التحليلي من مخيلته وهو يسير بحذر في الموقع الصحراوي الذي يبعد بمسافة تتجاوز الكيلو عن الطريق الاسفلتي، بحثًا عن أثرٍ على التراب أو إشارةٍ من السماء أو أي خيط يفسر له طريقة وقوع الحادث بشكلٍ يختلف عن الإفادة المفزعة التي رواها الراعي “مناويشي”، الذي كان يقود مركبته الصدئة من نوع تايوتا هايلوكس موديل 80 بحثًا عن ناقة نأت عن القطيع. أشعل دليم سيجارته الثالثة منذ أن وصل إلى الموقع وهو يفكر بما يمكن كتابته في التقرير الرسمي كوصفٍ للحدث، “هذا الأمر يجب أن يكتب بأسلوب منطقي يتقبله الرؤساء” هكذا كان يفكر. ملامحه الحائرة تعترف بالمفاجأة التي خلّفها المشهد الجديد من نوعه، وهو الذي اعتقد مخطئًا، بعد أن قضى ثلاثين عامًا في السلك العسكري بهذه البلدة النائية، أنه قد شاهد كل شيء.
مسح بِكُمِّ بدلته الضيقة ما خلفته الشمس وسموم الربع الخالي على جبينه المجعّد من عرقٍ وذرات رمل، فبانت بقعة داكنة اللون حول ابطه وقد جفَّ محيطها مخلفًا حدودًا بيضاء، ثم انحنى محاولًا رؤية الجزء السفلي من مقدمة السيارة أو ما يمكن أن يكون تحت محركها، ولكن لا شيء يمكن رؤيته غير كومة الرمل التي تحيط بالصدّام والإطارين الأماميين نتيجة انغراسها بسطح الأرض.
– من السماء؟
بالتفاتةٍ يائسة وجه سؤاله للراعي مستجديًا إجابةٍ لم يسمعها، لكنه لم يجد غير الموافقة بهزة رأس.
– متأكد؟
– آي والله!
أجابه الراعي وهو يلوّح بيديه في الفراغ مؤكدًا حقيقة غياب الأعمدة والأشجار والأشياء المخوَّلة بإسقاط الكُتل من الأعلى. لا شيء حولهما سوى مركبة الراعي و”جيب” الشرطة، والفراغ.
بصعوبة الوصول وهدوء الاعتياد، أخرج العريف دليم جواله من جرابٍ يضعه جوار مسدسه المتصلب زناده دون علمه منذ زمن والمثبت على حزامه المحشور تحت كرشته البارزة أمامه بقدر ذراع، ثم أخذ يلتقط صورًا للجثة الهامدة على غطاء محرك الهايلوكس. لوهلة، بدا وكأنه محقق محترف يعرف جيدًا ما يجب القيام به، وقد شعر بذلك وأُعجب بالفكرة لدرجةٍ جعلته يوسّع دائرة وقوفه ويلتقط عدة صور من زوايا مختلفة. وقبل أن يلقي نظرة أخيرة على الصور ويعيد جواله إلى مكانه، أشار إلى الراعي بأن يقف جوار الجثة، الأمر الذي أربك الثاني وتبدّت قلّة خبرته في التموضع أمام الكاميرا. كيف له أن يعتاد على فعلٍ لم يمارسه سوى ست مرات طيلة حياته: عند استخراجه لبطاقة الهوية السودانية، وصورة لجواز السفر، وأربع مراتٍ مع كل تجديد متأخر لبطاقة المقيم الخاصة به، لذلك وجد العريف نفسه مجبرًا لأن ينتظر الراعي حتى تكفّ ذراعيه المرتبكة عن الحركة اللاإرادية أمام رهبة الكاميرا، ليلتقط الصورة العاشرة والأخيرة لمحضر الحادث، والسابعة لمناويشي.
لم يكن مناويشي يتوقع أنه من الممكن حصول أمر مماثل في الحياة. إذ لم يسبق لمخيلته المنبسطة كصحراء أن تصوّرت سقوط جسد آدميٍ من بطن السماء ولا في أكثر أفكاره غرابةً أو سوداوية رغم كثرتها. فهي تباغته كلما أمعن في تذكّر غربته، وهو يقضي لياليه يخربش على أوراقه وحيدًا في حجرةٍ من الطوب العاري بداخل “حوش” الإبل حيث لا شيء سوى الصحراء من كل جانب، ولا صوت سوى زفزفة الريح وصرير الجنادب، أو خشخشة جسدٍ ناقةٍ، تهرش القمل عن بشرتها المهتاجة بجدار حجرته الخشن.
بالنسبة له، لم يكن مشهد العريف دليم المتكئ على غطاء محرك سيارة الشرطة، يكتب التقرير في نسخته الرابعة بعد أن قام بتقطيع ثلاث ورقات قبلها، كافيًا لإلهائه عن التفكير بناقته التائهة وفي ردة الفعل المحتملة من رب عمله إذا ما سمع بخبر ضياعها! والحق، إن مشاعر كفيله، حاد الطباع، تفقد أهميتها مقارنة بالمصير المجهول الذي ينتظره وهو يقع في دائرة شكّ أمام جثة ترقد فوق غطاء محرك سيارته، إلا أن الأمر الذي يدفعه إلى التفكير بها متمنيًا السماح له بإكمال البحث عنها ليس الخوف المجرد من تاجر مواشٍ مسنّ، بل لعلاقته القديمة والمتينة بتلك الناقة، علاقة لم يحضَ بمثلها مع إنسان منذ أن غادر دياره قبل أكثر من عشرين عام.
– ممكن نعرف من سيادتكم اش الـ ممكن يحصل ليَّه؟
سأل الراعي بنبرة استعطاف وهو ينظر إلى ساعة يده الالكترونية من نوع كاسيو.
– اس، اسسس “والجثةُ ترقد فوق كبوت سيارته المطعوج…”.
قاطعه العريف بصوتٍ عالٍ آمرًا إياه بالصمت خشية أن تسقط من حبل أفكاره الجملة التي تمتم بها بعد ذلك بهدوء وهو يكتبها في التقرير. هكذا هو العريف دليم، من السهل تشتيت أفكاره، وكثيرًا ما يتمنى أن تتشكل حوله فقاعة عازلة للصوت حال الكتابة، فهو يطمح بأن يتقاعد مبكرًا ويتفرغ لكتابة المقالات. رغم أن أحدًا من رؤساء التحرير الذين أرسل لهم مقالاته لم يقم بالرد، ولا تبتعد كتاباته في الواتساب أكثر من خطوة إرسالها إلى المستقبِل الأول.
عندما انخرط بالسلك العسكري برتبة جندي، كان اسمه ومرجعه هو التشكيلة الصوتية الوحيدة التي يتقن رسمها على الورق. هكذا “الجندي دليّم صنوان الشرطة” بلا فواصل وبخطٍ هلامي يتعثر في ذاته. لم تمض سوى سنة من التحاقه بعمله حتى عرف أنه لن يتمكن من الارتقاء خطوة في السلم العسكري إلا بشهادة، لذلك عاد إلى مقاعد الدراسة الليلية، وهناك التقى بالرجل الذي غيّر حياته، معلم اللغة العربية كمال الذي أوقعه في غرام اللغة وزرع فيه بذرة الرغبة في التعبير عن كل ما يراه رغم قلة ما يمكن مشاهدته في بلدته النائية، نبت بداخله شيء لا يعرف كنهه، شيءٌ يشبه الثقة، شيءٌ مكّنَ خطّ يده من الاستقرار على سطر وقلمه من الاستمرار وإكمال صفحة بكلمات كثيرة ومنوعة. لكنه، وفي هذه اللحظة، يكره ذلك الشيء الذي توقف نموه باكرًا، الشيء الذي لم يتمكن من نيل إعجاب رؤساء التحرير، ولم يُمكّن مقالاته على الوتساب من الانتشار لأبعد من قائمة الأسماء المحفوظة، الشيء الذي يفشل في صياغة تقرير لأربع مرات متتالية.
– طب أروح يمكن ألاقي الناقة قبل الظلام يحل؟
قال ذلك مناويشي فيما كان العريف يفرك جبهته متأزمًا محاولاً استنطاق قلمه، ثم سار الراعي مبتعدًا يوزع نظره إلى البعيد عسى أن يرى سنامًا ناتئًا في المدى. وبعد وقتٍ من التفكير، تفاجأ العريف دليم بأنه يقف وحيدًا في الصحراء، صاح العريف دليم وقام بقطع النسخة الرابعة من المحضر وفي حلقة تتحشرج الشتائم، ثم قفز في مشهد درامي راميًا بدفتره في الهواء وملوحًا بذراعيه في جميع الاتجاهات، ثم ارتمى بداخل سيارته تاركًا بابها مشرعًا، وقاد عائدًا نحو الطريق الاسفلتي.
في وقتٍ متأخر من ذلك اليوم، بعد مسير يومٍ طويل، أخذت الناقة تهرش القمل عن بشرتها المهتاجة بجدار الحجرة الخشن، وفي داخلها يجلس مناويشي يخربش على أوراقه عن الرجل الذي، ببساطة، سقط من السماء.
أحدث التعليقات