إلى شيكاگو.
أول حبقٍ أكتبه من الرياض يا شيكاگو، أوجهه إليكِ كيلا يشذّ عن رتم هذه السلسلة أو أُتّهم بالخيانة. من حجرتي فوق سطح البيت، حيث أطلقتُ اليوم بلبلين، كانا محجوزين في قفصٍ صغير بصالةِ المنزل قبل أن أصل، غُطي القفص بقطعةِ قماش ليظنّا أنه الليل ويكفان عن تغريدهما عالي الصوت. عندما شاهدتهما، شاهدتُ فيكِ طاولات مأهولة، وطيور تأكل نثرًا يتساقط من كعك الجالسين وتعود للتحليق، ثم فكرتُ في إمكانية رسم ببغاء يقرأ جريدةً على صوفا، يرتشف الكيف من غليون، وخلفه يتعلّق قفصٌ صغير، يجلسُ داخلهُ طفلان لا يكفان عن بكائهما عالي الصوت.
ذهبتُ إلى البطحاء صباح اليوم للمرة الثالثة مذ جئت، جلستُ إلى طاولةٍ بلاستيكيةٍ بيضاء بعد أن استلمتُ ثوبي من الخياط، شربت شايًا وأزقةً ملتوية عتيقة، ساحةً كبيرةً، حمامًا كان يلقط نثرًا على أرضها، باعةً يحرِّجون على بضائع بأسعار الفرص التي لا تعوّض، تحدثتُ مع صديقي مطاعن عن اللحظات التي نعبرها ونحنُ نفكر في لحظاتٍ لم تحن بعد، نعبرها دون أن ندرك أن ثمة حمامًا يلتقط نثر الحبوب في ساحة أو باعةً يلحنون بأصواتهم معزوفة “وسط المدينة”، أو لحظات حميمة لم أجدها في قائمةِ لحظاتكِ الجميلة يا شيكاگو.
أتنفسُ الرياض كما لم أفعل، يجففني هواؤها، أتحدثُ للأصدقاء القدامى ويتساقط قشر شفتي مع الكلام، فلا أفهم ما أقول ولا ما أريد. ثم تتبدّين يا شيكاگو كذاكرة الليلة الأخيرة فيك قبل أن أحلق ذقني، أغادرك، أطير لساعاتٍ ثم أصل الرياض وقد نبتت. طويلةٌ هي المسافة بينكما كطول الجدل الدائر في فكري، بقاءٌ فيكِ أجدى أم أتابع الطيور في وسطِ مدينةٍ حميميةُ لحظاتها لا تشبهك.
طار البلبلان، وأخذا يتنقلان فوق سطوح بيوت الحارة، يقف أحدهما على خزان منزل الغُمّد، ويغرد بصوتٍ لم أسمعه من قبلٍ للآخر الذي يقف على سور القحاطين، فيحلقان للأعلى ويخيطان من السماء مسافةً إلى سطح جارٍ جديدٍ لم أجد اسمه في قائمةِ الذاكرة القديمة. أبي يقول أنهما لن يتمكنا من النجاة في المدينة، لن يجدا ما يأكلان. شعرتُ بالأسف، انتظرتهما، علهما يعودان، تركتُ لهما الحبوب والماء والقفص مفتوحًا في مكانه، غابت الشمس، ولم يرجعا. انتصف الليل الآن يا شيكاگو، صمتت الرياض، وجاءت أفكارهما برفقةِ نسمة: ننفقُ في مدينة ولا نحيا في قفص.
أحدث التعليقات