ToGoTea

الأرشيف

لأنه من تلك الأصوات التي تصل، أصوات الفنانين الذين كبرنا وارتبطت ذكرياتنا وأحداثها بأغانيهم، من غاب منهم لم تغب عنّا أعمالهم، ومنهم من لا يزال يصنع الفنّ الذي يمس حياة الناس البسطاء، ويوزّع الذكريات على أسماع هذا الجيل، كما فعل مع الجيل الذي سبقه. إنها الأصوات التي تغني تفاصيل الحياة اليومية، تحكي قصص الكادحين، وتصبّ برد الاطمئنان على قلب المكبوت والمُنهك من حياته، أغانٍ تدوّن أحداث المجتمعات وتُرقّم صفحات كتبُ تاريخنا بالنوتة الموسيقيّة. تلك الأغاني التي تتجاوز ردة فعل سماعها التحرّك العاطفي لتصل إلى درجة التحرّك بفيزيائيته، كما فعلت أغنية الفنان اليمني أيوب طارش “وا مفارق” الأغنية التي نادت الغائب اليمني وهيّجت في ذاكرته صورة الأرض، الوطن، ونكأت جروحًا كان يواريها في غربته وأيوب ينادي: “الحزن بعدكم أطفأ شموع المسرّة، والندى في الحقول يبكي على كل زهرة.” سمعها المغتربون اليمنيّون وعاد الكثير منهم بسببها، مئات الآلاف كما قيل. ورغم تباين أعداد المغتربين العائدين وكثرة الأقوال حولها، وعدم وجود أي معلومة موثقة، إلاّ أنَّ مجرّد فكرة أنْ تُعيد أغنيةً ما ولو عشرة أشخاص، فإن ذلك كافٍ لأن يجبرني على رفع القبّعة احترامًا لفنانين كهؤلاء، تمامًا كما رفعتُ القُبّعة للفنان “حسين الشبيلي” الذي وجدتُ نفسي أكتبُ له هذه الرسالة وأنشرها عوضًا عن إرسالها.

عرفتُ حسين الشبيلي عام 2005 حين جمعتنا العاصمة السودانية الخرطوم، خلال المهرجان الثقافي للشباب العربي العاشر، حيث ذهبت مشاركًا ككاتب قصة، وكان الشبيلي مشاركًا ضمن طاقم فرقة الفنون الشعبية السعودية. عرفتهُ راقصًا شعبيًا مذهلاً، يبتهج بخطواته على الأرضِ مطبطبًا على كتفها، راسمًا بحركاته تفاصيل ريفها وجبالها وأوديتها وصحرائها وبحرها، مؤديًا طقوس امتنانه للحياة عليها، فالأرض لا تفهم من لغة البشر سوى خطوهم، والرقصُ كما يؤمن “زوربا” لغةٌ تفهمها كل الحضارات. وكانت الوفود العربية المشاركة تجتمع مساءات المهرجان الجميلة، خارج إطار الفعاليات، في جلسات غناء، طرب أصيل لفنانين تشترك الذاكرة العربية في حفظ أغانيهم، يؤديها عازفون من دولٍ عربية مختلفة وبآلات موسيقية متنوعة، يعزفون ويغنون بصوتِ الكل، وبصوت الفرد. لم أكن المُفاجَأ الوحيد عندما التقط حسين العود وأخذ يشارك الجمع بالعزف والغنّاء، ولكن، رغم فنية أدائه وروعته، لم يخطر في بالي حينها أبدًا أنني سأتفأجأ به مرةً أخرى عندما أستمع إليه بعد خمس سنواتٍ من وراء بحور وعلى بُعد آلاف الأميال. ذلك يجعلني أفكر: الفنانون الحقيقيون هم الذين يُجيدون صُنع المفاجأة أكثر من مرّة.

خلال ليلة باردة من ليالي شيكاغو وجدتُ الدفء في أغانيه على موقع اليوتيوب عن طريق صدفةٍ أجمل من ألفين وخمسة مواعيد، حيثُ أرفقَ الصديق مصلح جميل في أحد المواقع الاجتماعية رابط أغنية له. الأغنية عُنونت بـ”كلما جاني عريس”، على لسان امرأةٍ أربعينيةٍ تشتكي استغلال والدها الذي أغلق عليها وأخواتها أبواب الزواج كي لا يشاركه أحد في رواتبهن. ثم بدأتُ أستمع إلى أغانيه الموجودة على الموقع واحدةٍ تلو الأخرى، لأٌفاجأ بهذا الفنان الذي يكتب ويلحنّ ويغني هم الإنسان الكادح كوحدة أساسية في أي مجتمع.

لقد غنى حسين التفاصيل المألوفة من حياة مجتمعه، يجاري الشارع في مدينته، يجاري الأب الذي يجلس على همومه الصدئة في دكانه ويستمع إلى مثل هذه الأغاني، والأم التي تقف على كدرها ساعاتٍ في صباحات مليئة بالطبخ والنفخ والتنظيف، غنى الشجر، الوادي، القرية وغنّى الأصحاب. حتى الحبّ غناه ببساطته، بتفاصيله الصغيرة التي نسيناها، فبكاءات المحبين أمست مستهلكةً ولم تعد مقنعة، لقد انحدرت كما انحدر الغناء مع كثرة المغنين لا الفنانين، وطغيان الفكر التجاري والربحي على الفكر الفنّي إلى أن حوّله إلى مسخ آخر في زحام ثقافي يحتاج إلى غربلة. وبعيدًا عن ذلك الزحام، هناك في الحارات الصغيرة، والقرى المترامية، بداخل السيارات التي تسير بفجاجة مسجلات كاسيت ونوافذ تٌفتحُ بالهندل، تصدح أصوات فنانين يغنون ما يحكي تلك الحياة، ويمس أولئك الأشخاص، كلامًا يألفه السامع وصوتًا يطربه، عندما يغنون عن الشتاء والطفولة وطائرات الورق، كما يفعل علي بن محمد ويغني عن المدرسة وطابور الصباح، كما فعل أيوب، وكما يفعل حسين الشبيلي.

ربّما لأنه يرغب أن يمثل لسان مجتمعهِ وثقافته، قدّم حسين الشبيلي أغلب أغانيه بلهجته التهاميّة أو لهجة الكثير من قرى ومحافظات جيزان، وبألحان من المخزون الموسيقي لمنطقته الريفية. هذه هي الأصوات التي تبقى، والكلمات التي تمسّ شيئًا في دواخلنا. فنانون، مطربون وشعراء، يعزفون ويكتبون ذاكراتنا القديمة، وانتماءاتنا البعيدة جدًا، بُعد شيكاگو عن الطرشية. فشكرًا يا حسين الشبيلي، صوتك وصل.
خالد الصامطي

27 يناير 2010

Be Sociable, Share!

4 تعليق على يا حسين، صوتك وصل شيكاگو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *