ToGoTea

الأرشيف

إلى بدر السماري.

كيف هو الإدرينالين في دمك يا بدر؟ بعد المقلب العاطفي الذي قام به الهلال خلال مباراة الإياب مع الغرافة!. عمومًا، أنا لم أتمكن من مشاهدة المباراة في وقتها، كل ما شاهدته هو الأهداف على اليوتيوب.

أكتب لك الآن يا بدر والبخار جوار الشاشة يتصاعد من كوب شايٍ أحمر. نثرتُ عليه قليلاً من الحبق، النادلة راقبت المشهد ولم تستغرب، لم تسألني عن هذه العشبة، ربما لم يعد الأمر غريبًا كما كنت أعتقد. ثمة حركة هيبية جديدة تدفع الكثير من أفراد المجتمع لاستخدام الأعشاب، لو سألَتني، لربما أخبرتها أن الحبق يخفف من حساسيتي ضد القطط، وقد تعتبر هي أن إجابتي هذه أكثر منطقيّة من مجرد أن الحبق يساعدني على الكتابة!.

أجلس الآن في مقهى أرغوتي، على يميني حاجز زجاجي مطل على شارع راندولف، وأمامي قفا امرأةٍ سمينة جدًا تجلس إلى الطاولة المقابلة، نجحت في حجب كل ما يدور في الأمام، إنها مثل منديل الساحر، يغطي به ما يظهر من القبعة، المنديل كبير جدًا، القبعة باب المقهى، والأرانب ملونة وكثيرة. في الجوار مدرسة فنية، لذلك ثمة الكثير من الأرانب الغريبة بشعر وردي وأخضر وملابس لافتة للانتباه. هذه الزاوية من الداون تاون تقع بين مسرحين سنمائيين، أحدهما “راندولف ثاييتور” والآخر “جين سيسكل فيلم سنتر” وما يهم هنا هو الثاني لأنه غالبًا ما يعرض أفلامًا أجنبية، هذا الشهر، أكتوبر، هو مهرجان الأفلام الإيرانية.

أشعر بالأسى على الشاب الذي يقف على بعد عشرة أمتار تقريبًا خلف الزجاج، حاملاً ملفًا كُتب عليه “Children International” معترضًا طريق المارّة، ويلقي على أسماعهم هذه الجملة بشكلٍ رتيب ومتكرر:”هل تسمح بدقيقة من وقتك لإنقاذ أطفال العالم؟” ربما لم تلتق بأحد هؤلاء الأشخاص مسبقًا يا بدر، موظفون في الشوارع، يعملون لمنظمات ذات شعارات رنانة مختلفة على جمع التبرعات. مندوبو مبيعات إن صحّت تسميتي، ولكن سِلعهم هي القضايا الإنسانية، البيئة، حقوق الحيوان أو منظمات تروّج أيديولوجيات مختلفة. يتوزعون على أرصفة الداون تاون وما جاورها بشكلٍ منظّم. تصادف الكثير منهم وأنت تسير. تشاهدهم على نهاية الرصيف جوار محطة باص، أو علامات عبور المشاة، فتحاول التملّص والانتقال إلى الرصيف المقابل، لتجد شخصًا آخر يحمل ملفًا مختلفًا بانتظارك هناك، ويلقي على مسمعك: “هل لديك دقيقة لإنقاذ الأرض؟” فتقول له: “إنني أعمل حاليًا على إنقاذ نفسي من التأخر عن المحاضرة!” وتسير على خطٍّ متقوّس حوله مبتعدًا، وكأنك تحاول ألاّ تسقط في بركة ماء. وتشعرُ بخيبته التي يواجهها ألف مرة في كل يوم، حتى يصبح وقع الخيبة على نفسه كسماع التحيّة، لا تأثير لها، ويواصل ممارسة عمله، أفكر أحيانًا كيف ستكون حياته مستقبلاً، كيف سيتمكن من صنع ردة فعل مناسبة لدى سماع خبر سيئ!. لا أستطيع أن أتخيّل نفسي في مكان أحدهم، أحترم شعاراتهم وقضاياهم، ولكني لا أتقبل فكرة ممارسة الاستجداء، لذلك أشعر بالأسى والخيبة من مجرّد متابعتي لهذا المُلَقَن الذي يقف الآن خلف الزجاجة مباشرة، حاملاً ملفًا كُتب عليه “Children International”.

لنعد مجددًا إلى الهلال، لست متأكدًا إذا ما كان تشجيعي له جاء بقرار، أي أنني لم أستيقظ يومًا ما وأقرر أنني هلالي، لقد تشكل الهلال بي على مراحل. ربما، عندما بدأ أخي الأكبر سلمان بالكلام سألَ والدي عن حقيقتها فقال له أنها “هلال” ثم تبرع بتعليمي ذلك، أما الشيء الأكيد هو أنني وأخي سمينا الكرة “هلال” ونحن نركلها بين الحجرات وعلى سطوح بيتنا الشعبي، حتى تعلمنا الخروج إلى الشارع واللعب بها والالتقاء بأطفال جدد يسمونها “كورة”! ثم أذكر أول فوز شاهدته كاملاً بعد ذلك، وراقبت والدي يتفاعل معه بحماسة وعاطفة مثيرتين، حين فاز الهلال ببطولة الأندية الآسيوية بمنتصف الثمانينيات، حصل الشاب العشريني يوسف الثنيان على جائزة أفضل لاعب، وبدأ الهلال بالتشكل في ذاكرتي بصورته الجديدة. وعندما تعلمتُ التعليق أثناء اللعب، كنتُ أردد عبارة “ويعدي يوسف الثنيان، من الأول، من الثاني”، ورغم أنّه لا وجود لأشخاصٍ أتعداهم!! مسألة ابتكار ثالث ورابع مسألة سهلة، إلاّ أن حوش بيتنا لم يكن طويلاً لدرجة تسمح لي بأن “يعدّي يوسف الثنيان من الثالث والرابع” كما فعل كثيرًا.

إذن كان الأمر مجرد مغالطة لغوية، ومشكلة تلك المغالطات في مراحل عمرية مبكرة أنها تتركُ أثرًا بالغًا في مؤخرة الرأس أكثر مما تخلفه حجارة أولاد الجيران. تبقى كحقائق صغيرة لم يتح لها الواقع فرصة للنمو، ولكنها لا تزال هناك، وتعني الكثير. أعرف شخصًا كان يظن أن لون “الأعمال” بُني لأنه سمع حديث “إنما الأعمال بالنيات” من خطيب الجمعة، وظنّ أنّ لون الأعمال بنّي، فحرفي الألف واللام غير منطوقين، والمسكين ظنّها “الأعمال بنيّات” حتى قرأها في أحد واجبات الحديث صف الثاني متوسط!. قد تقودني الثقة إلى المقامرة على أنه، ولحد الآن، كلما سمع كلمة “أعمال” يتشكل اللون البني في مخيلته. تمامًا كما أنني أفكر في الهلال ثم سحبات أبو يعقوب، كلما شاهدت كرة.

رغم أنّ والدي قادمُ من قريةٍ فادحة الجنوب، إلاّ أنه جاءَ هلاليًا بالفطرة فلا أبواه نصّرَواه أو أهلواه، ولا تأثر بمجتمع، حيث الأهلي والنصر يسيطران على غريزة التشجيع لدى أفراده، ثم يأتي الاتفاق الذي امتلك أسهمًا أفضل من الهلال في الجنوب حينذاك. لا أعرف لماذا ارتبط الهلال، بدًا عن بقية الأندية، بالسُلطة، الأمر الذي جعل تقبله يختلف عن تقبل الفرق الأخرى التي بالتأكيد ستمثل الشعب بعمّاله وكادحيه، رغم أن النصر والأهلي أندية مُدارة من قبل شخصيات تنتمي، بشكلٍ أو بآخر، للسُلطة أيضًا. أنا لا أعرف السبب، ولكنه حتمًا سيكون سببًا من تلك التي تقوم بالتأثير الجمعي، كما حمل هؤلاء ذاكرة جمعية أيضًا، وحقيقة أن يصلهم سبب يقنعهم بأن الهلال يمثل السلطة، أمر كفيل بأن يجعل من عملية الإعجاب بهِ رضوخًا في مجتمعٍ ثائرٍ لم تكن جراحه قد برأت بعد.

رغم البعد والحياة القرويّة، هم يملكون ثقافة كرويّة هائلة، فلا زلتُ أذكر حجرة أحد أقربائي، الذي يشاهد الآن بملل بلنتيات سنوات عقده السادس، أتذكر شكلها جيدًا، فلو دخلتها الآن لقلت أنها حجرة قروي من إحدى الدول اللاتينية ربما. أذكر شكل الكؤوس –رغم أنها كؤوس بلاستيكية خفيفة مطلية بلون ذهبي يلمع بتواضع طاقية زري- والميداليات على جدران بدون دهان، ورفوف خشبية لا تزال تحكي عمر أشجارها بتلك الحلقات الظاهرة على سطوحها، وصور من مجلات للاعبين من دول لم تعبرها رحلات الشتاء والصيف، تلك الدول التي أجزم أن قريبي القروي لم يهتم بمعرفة شيء عن طقوسها عملاتها وأعداد سكانها ومدى اهتمام شعوبها باتجاه القبلة، فما يهمه هو أرقام وأسماء لاعبيها وألوان قمصانهم، وفي وسط الحجرة بوستر كبير لبيليه وإلى جواره صورة ماجد عبدالله وهو يجري رافعًا ذراعه اليمنى، وتتوزع في براويز صغيرة صورهم، هو وأفراد فريق القرية، ربما تعرف تلك الصور يا بدر، التي ظننتُ وأنا أشاهد أمثالها في مراحل مختلفة في الحياة أنها الطريقة الوحيدة المسموحة لالتقاط صورة في ملعب، وهم يترتبون في صفين بسراويلهم القصيرة جدًا وابتساماتهم المفرطة في تعبيراتها، الموجهة للرجل المحظوظ صاحب الكاميرا -فأنا أعتقد أن من يمتلك كاميرا في ذلك الوقت يعد رجلاً محظوظًا وذا حظوةٍ اجتماعيّةٍ مرموقة، إذن فهو يتفضل بالصورة عليهم، ولذلك فإن ابتسامة المتموضع أمام الكاميرا في الصور القديمة تحمل نوعًا من الامتنان إضافة إلى السعادة- يجلس صفّ في الأمام على أطراف أصابع أقدامهم، ويدٌ تتخلل الركبتين وتتكئ على الأرض والثانية على باطن كوع الأولى ما عدا الحارس، فهو يحتضن بها الكرة، صفٌ آخر يقف خلفهم، محملين أذرعتهم أكتافَ مجاوريهم، ينظرون جميعًا إلى الكاميرا بشعورهم الجعدة والطويلة كطول سلسلة أجنة أسلافهم الذين تبعثرت جدائلهم على رقابهم وفي الفضاء حول رؤوسهم وتخللتها أغصان الحبق والريحان لمئات السنوات.
ثم جاء والدي الهلالي من هناك..
وأشهرتُ هلاليتي على يده. أنا أكن لوالدي الكثير من الاحترام لأسباب كثيرة، أحدها تأثيره غير المباشر في قرار تشجيعي للهلال. ثمة أمور لا تستطيع تقريرها وأنتَ صغير، قد تخطئ، ويكون من الصعب التراجع. التشجيع أحدها. والحمدلله إني هلالي :).

أشعر بالأسى على جماهير الأهلي. لدي الكثير من الأصدقاء الأهلاويين، الحقيقة، أن رفيقي في السكن، موسى، أهلاوي حتى النخاع، ولا أعرف سببًا لتشجيعه للأهلي سوى العامل الوراثي، كما حصل معي بالإضافة إلى عاملَي لعبة اللغة وأبو يعقوب. قلت لموسى قبل يومين “أعتقد أنك لو تشجع الهلال ستحل جميع مشاكلك”. الحياة في بلدنا صعبة وقاسية، بدءًا بقساوة طقسها وانتهاءً بقساوة المجتمع، السعادة عنصر غائب في كثير من مراحلنا العمرية، والأهلي لم يحقق أي بطولة خلال سنوات طفولته ومراهقته، أعني موسى، وهذا أمرٌ محزن جدًا، لذلك لن أتوانى أو أتردد في التوقف إذا ما رأيت شخصًا على الرصيف يسأل: “هل تسمح بدقيقة من وقتك لإنقاذ جماهير الأهلي؟” حينها سأقف وأبذل قدر استطاعتي، لأنني أعرف الكثير منهم ويهمني أمرهم جدًا.

Be Sociable, Share!

19 تعليق على الحبق الحافي. (15)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *