ToGoTea

الأرشيف

Prain Process

كنت أجلس مع أحد الأصدقاء قبل أيام، والذي بدوره كان يمارس الكتابة بشكلٍ متواصل ثم توقف، وتحدثنا عن غياب هاجس الكتابة. وفي منتصف الحديث لاحظت أننا نعرف المشكلة جيدًا، ولكننا حين تحدثنا عن السبب، كنا ندور في مساحة كبيرة مليئة بالأسباب التي تنطبق على كلينا أو تنطبق على أحدنا دونًا عن الآخر. بعدها بأيام هاتفتُ أحد الأصدقاء لسؤاله عن أمرٍ ما، في نهاية المكالمة سألني عما إذا ما كتبت شيئًا جديدًا، فأخبرته أنني لم أعد أفكر ككاتب. وأنا فعلاً لم أعد أفعل. وما قيامي الآن بمحاولة الكتابة عن مشكلة عدم الكتابة إلا محاولة أخرى لتجاوز هذا المأزق.

المأزق يتلخص في خمول منطقة من الدماغ كانت تقوم بعملية غربلة وتحليل خاصة لجميع المشاهدات والأحداث والتجارب اليومية والتقويم السريع والتلقائي لمدى صلاحيتها للكتابة. وأعني إما كتابتها كفكرة مستقلة أو استخدامها بداخل نص آخر كفكرة داعمة أو كما هي بشكلها المجرد كجملة بهارية لإضافة نكهة معينة على ذلك النص.

خمول هذه المنطقة يوقف القدرة على الكتابة الإبداعية، لكونها المرحلة التي تقوم بجمع كم لا بأس به من الأفكار الصالحة للكتابة وتنتهي بإضافتها إلى جدول أولويات الشخص، لتتحول إلى بند ينتظر التطبيق.

كل بند من مكونات ذلك الجدول الافتراضي في الذاكرة، يستمر كهاجس يحتاج إلى حسم. فتجد الفكرة تقبع على سبيل المثال بين هاجسيّ: لا تنسى أن تحضر ثيابك من المغسلة الليلة، ولابد أن تدفع فاتورة الجوال قبل قطع الخدمة، فتكون بينهما مثلاً كهاجس يخبرك بشكل مستمر:

–        إن فكرة صوت التنسيم من رأس رجل، بحاجة إلى كتابة.

–        يجب التخلص من تلك الفكرة خلال نص حالاً. يمكنك أن تكتب أن الصوت تسسسسس يلفت انتباه كل من يعبر جواره.

–        يا رجل ابدأ بكتابتها على الأقل!

–        ليس بالضرورة أن تنهيها اليلة، المهم أن تبدأ! قل مثلاً أنه يشعر بألفة لا يعرف سرها كلما مر من أمام باب محل البنشري.

ويستمرّ الهاجس بالإلحاح حتى تنفذ طلبه أو يقوم بلخبطة أفكارك ويفقد أصدقاؤك القدرة على فهمك وقد يتجنبون اتصالاتك مستقبلاً!

وكما أنك لن تتمكن من الذهاب إلى عملك بلا ثوب، ولن تتجاهل دفع فاتورة هاتفك أيضًا، فأنت حتمًا لن ترتاح حتى تنجز تلك الفكرة التي لم تعد مجرد حاجة للكتابة، بل أحد البنود التي قام النظام بتصنيفه ضمن قائمة من الأولويات المهمة التي تصدر تنبيها طوال الوقت، حتى عندما تحيل مود رأسك إلى الصامت، فتقض مضجعك، وإن تمكنت من النوم أخيرًا، فهنالك احتمال كبير أن تستيقظ منتصف الليل بشكلٍ مفاجئ وقد حلمت بالفكرة وكيفية البدء بكتابتها، وتجد نفسك تباشر الكتابة حينها على أقرب نوتة أو شاشة.

هذا وصف لآلية عمل تلك المنطقة التي تقوم بأهم إجراء لدى كل من يمارس الكتابة، الإجراء المولد للحافز، وهو ذاته الإجراء الذي اكتشفت أن طبيعة عملي والحياة جعلتني أتجاهله حتى تعرض للخمول الآن. وأصبحت أقود السيارة عائدًا للبيت من العمل وأنا أفكر بالعشاء، أو الاشتراك في نادي وعدم الذهاب، وأحيانًا أفكر بلا شيء تمامًا، فأستفيق من نوبة الخمول الكلية للدماغ أمام باب البيت وأنا أوقف السيارة، وأتساءل: كيف وصلت؟ ربك ستر!!

ثمة الكثير من الأسباب التي أدت إلى تحويل مسار جميع الأفكار المستوعبة وجعلها تتجاوز ذلك الإجراء الذي يشكل الفارق بين الكاتب الإبداعي وكاتب العدل، واكتشفتُ أن هذه الأسباب التي اعتقد بمسؤوليتها تحيط ببعض ممن أعرف من الكتاب ومع ذلك لا زالوا ينتجون ويشاركون في الحراك. وهذا ما يقلقني.

إن من أهم تلك الأسباب المؤدية للخمول، هو نشوء إجراء جديد يقوم بتحليل الأفكار الصالحة لمهام ومشاريع الوظيفة والتزامات العائلة، وكيفية الاستمتاع بنهاية الأسبوع بعيدًا عن شاشة كمبيوتر وأزرار الكيبورد. فالعمل في وظيفة تستهلكك لفترة طويلة من اليوم ولا تغادرك آثارها وتبعاتها حتى وأنت في بيتك، هو أمر يجبرك على إعادة ترتيب قائمة اهتماماتك. فحتى عندما تتفرغ أخيرًا لنفسك وبيتك ومن حولك، تكون في مزاج يستثقل مجرد التفكير بتشغيل اللابتوب أو قراءة كتاب، كل ما ترغب به هو إراحة ظهرك ومدّ قدميك على صوفا طويلة أمام التلفاز، مشاهدة مسلسل كوميدي أو فيلم جديد أو برنامج وثائقي على إحدى قنوات OSN قبل أن تنتقل إلى مباراة كرة قدم لتجهز نفسك لموضوع قد يسألك عنه زملاءك الموظفين غدًا. وإن كان هنالك متسع للخروج تلك الليلة، فلن يكون لحضور أمسية أو اجتماع بنادٍ ثقافي، بل تفضل تناول كوب شاي أخضر مع أقرب الأصدقاء أو الذهاب للعب البولينغ أو الفرفيرة حيث تجتمع الشلّة البعيدة اهتمامات أفرادها عن الكتابة.

لا أخفيكم أنني أشعر بالأسف على ذلك، أعني على غياب هاجس الكتابة، رغم اقتناعي التام بمنطقية وأهمية الأشياء الأخرى التي أمارسها الآن، لأنها السيناريوهات الوحيدة التي تتماشى مع جدول الأولويات الجديد والمفروض علي بسبب الالتزامات القانونية والاجتماعية.

ولكن الحقيقة هي أنني أفتقد الكتابة لأجل الكتابة ولأجل الفن والمتعة، أفتقد اصطياد فكرة نص قصصي، أفتقد طفرة الوقت، وترف الساعات أمام شاشة اللابتوب أو خلف دفتي كتاب. وأتطلع إلى يومٍ أستطيع فيه إدارة الوقت بمدينة لا أستطيع إدارة مدة المشوار فيها بين العمل والبيت أبدًا، رغم التكرار اليومي إلا أن الشوارع لا يمكن التنبؤ بها، وعدم التفكير خلال القيادة حل أفضل من الصراخ على قائد المركبة المجاورة.

أعدت قراءة هذا المقال، ولاحظت مدى تأثير العمل على طريقة الكتابة هنا وعرض الفكرة، ففي هذه المنطقة الجديدة، وخلال هذا الإجراء التحليلي الجديد، تعبر أفكار من يعمل على مشاريع نظم وتقنية المعلومات طوال اليوم. وبعد أن أنهيت الكتابة، فكرت لوهلة أن أجعل العنوان:

Inactive Process in Thoughts’ System Flow

ولكني تراجعت.

Be Sociable, Share!

6 تعليق على التفكير ككاتب: فضفضة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *