ToGoTea

الأرشيف

 

البومة، التي كان صوتها يرتطم بجدران البنايات ويتلوى ليلاً على أسماعنا، تم حبسها. إنها المرأة ذات الصوت الساخر. الصارخة وهي تتحدثُ حديثاً عابرًا مع المرأة الأخرى التي تسكنُ في زاوية شارعنا، أو مع المُسن الذي يدخن أعقاب السجائر ويسكن بنفس العمارة التي تسكنها، أو ضحكاتها الرنانة مع موصل البيتزا بدراجته، أو حتى نقاشاتها الساخنة مع نفسها. كان صوتها يرافقنا ونحن نتابع التلفاز ليلاً منذ أن انتقلتُ أنا وصديقي إلى هذا الحيّ الذي يبعد عن وسط المدينة مسافةَ خمس صفحاتٍ من روايةٍ ما وأنت تستقل القطار.

كنّا نتأففُ. نتضايقُ نوعًا ما. كان صوتها مزعجاً إلى حدٍّ منطقي. ولكن، وبلا أي تدرّج، بلا أيّ تحرّكٍ تنازلي في نوعيّة ما يشكلهُ صوتها حينما نسمعه، وبسرعة التأقلم، تحوّل صوتها إلى عادة سمعيّة، خلفيّة صوتيّة تبدأ الساعة التاسعة مساءً وتنتهي في وقتٍ مجهول ونحنُ نيام. أصبحَ صوتًا لا يلفتُ الانتباه. كتلك الأصوات التي تُروّض نفسها، وتصبح جزءًا من الروتين السمعي غير المُلاحظ. كطقطقة قطرات الماء المتتالية من ماسورة القرية بجوار منزل جبران عندما ترتطم بقعر علبة حليب نيدو أكلها الصدأ. كأنين مُكيّف حجرتي بالرياض، المكيّف الذي لا يعني لي صوتهُ شيئًا عندما يعمل، ولكنهُ يعني النقص عندما لا يعمل. إنها الأصوات التي تتبدّل دلالاتها لتحلّ محلّ دلالة الصمت، السكون، الأصوات التي تعني السكون.

نتحدث، نحتسي شايًا بالحبق، نعمل على مشروع دراسي، نشاهدُ فيلمًا محرّضًا على الاندماج معه، تختلف وتستمرّ نشاطاتنا بداخل الشقة بشكلها الطبيعي، وبالخارج يستمرُّ ولا يختلفُ صوتها المتذبذب في الما حول، المقتحم نوافذ الشقّة بخفّةِ الحريص، المشكّل للهدوء الذي نفهم، المترنح في زوايا الحيّ والمقبرة القريبة، الصانعُ دوره كما يجب، طبقًا لسيناريو هذا الحيّ وربما الحيّ المجاور.

اليوم توقفت سيارتا شرطة بجوار العمارة التي تسكنها، نزل أربعة أفراد من الشرطة ثلاثة رجال وامرأة، بقي اثنان بالخارج يتحدث كلّ منهما من خلال راديو الشرطة، ودخلت المرأة والرجل الثالث. تلاشيا بالداخل لدقائق، ثم خرجا يقودان البومة وهي تصرخ وتولول، زجَّا بها على المقعد الخلفي، وأغلقا بابه، فتلاشى صوتها مع لحظة ارتطام الباب بكتف السيارة.

بالنسبة لي في العمارة المقابلة، خلف نافذتي، لم يكن الصوت دقيقًا في تعبيره عن فكرته. أعني أنه لم يوصل لي ما أرادتْ هي إيصاله خلال عملية الصراخ. ببساطة، كان مجرد صوتها الذي أسمعُ كلّ ليلة.

نظرتُ إلى مؤخرة رأسها وهي تجلس في سيارة الشرطة المغادرة، حتى اختفت بعد أن تجاوزوا المقبرة، وتعلق نظري هناك.

للمقابر حياتها، أشكالها. المقابر هنا خضراء، تحوي أشجارًا طويلة، وأحجارًا رخاميّةً نُحتت عليها أسماء أصحابها وتواريخ قدومهم للحياة وخروجهم منها، عدد السنين التي قضوها يمارسون دورهم طبقاً للسيناريو الأكبر، سيناريو الكون. المقبرة القريبة من شقتي الجديدة لها جاذبيّتها الخاصة، تتفرد بترك انطباعٍ حميمٍ جدًا. تختلف كليًّا عن مقبرة القرية، والتي تبعد مسافة اختباء وأنا طفلٌ ألعب “الساري” بجوار عشّة جبران. المقبرة التي دُفن فيها جدّي الذي لا أعرفه، الذي مات قبل أن تولد فكرة الزواج لدى والدي.

أذكرُ أول مرةٍ دخلتها. كنتُ في العاشرة ربما. أذكرُ أننا قضينا أجازة صيف ذلك العام كاملة في القرية كالعادة. وخلال ذلك الصيف كنتُ محظوظًا بحصولي على فرصة دخول المقبرة ثلاث مرات خلال ثلاثة أسابيع. كان أوّلها عندما قادني الفضول ومشيتُ خلفهم من المسجد حاملين جثّة رزّاع أمقحم. أُطلق عليه ذلك للتفريق بينه وبين ابنه رزّاع الابن. لقد عرفتُ أنني سأدخلها منذ عصر ذلك اليوم، فقد شاهدت بوابتها مشرعة. وخلال ما جمعته من ذاكرةٍ بصريةٍ للقرية إلى ذلك الوقت، لم أكن قد رأيتُ سور المقبرة الطويل ببوابةٍ مشرعة، بذلك الفراغ في منتصفه والمساحة الجرداء الممتدّة عمقًا بالداخل. وحينما سألتُ ابن خالتي أجابني وهو يركل الكرة باتجاهي أنهم يحفرون قبرًا لرزّاع أمقحم، وواصل يجري صوب المرمى متوقعًا تمريرةً مني ومتأهبًا لهدف.

كانت أرضاً جرداء إلاّ من حشائش متفرقة هنا وهناك، ونتوءات بنفس لونِ الأرض تغطي ثلثي مساحة المقبرة. لا أحجار رخامية، لا أخشاب، لا أسماء، ولا دلائل تشير لهوية الكائنين أسفلها ولا تواريخَ تشهدُ بعبورهم.

خالد الصامطي
شيكاگو
أبريل 27، 2009

النص في مجلة سين

Be Sociable, Share!

9 تعليق على عن البومة والمقابر وأشياء تتوارد خلف النافذة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *