قبل ذلك بيوم، كانَ يشغرُ السّريرَ شخصٌ آخر. عندما ينام “يشخر” كثيراً بشكلٍ مُخيف، بصوتٍ مرتفع، لدرجة أنّه بالإمكان أن يتحوّل إلى “أسد” أو ربما “دَبّاب سِباق” في أيّة لحظة يمكن أن يتخلّق من جديد، وينبت لهُ شعرٌ كثيف حول عنقه ورأسه، أو أطرافٌ من الـ”جنوط” والـ”تواير” -ككلمةٍ مُعرَّبة-. عندما ينام تجتمع الممرضات أمام الحجرة المكوّنة من سريرين، ويضحكن بالـ “تاگالوگ”. ضحكة لغة التاگالوگ غريبة، هي بشكلٍ ما تشبهُ الحديث العادي في لغة الدجاج.
هو شخصٌ سمينٌ جداً، ويعمل كـ”قائِل نكات” لدى أحد الأمراء. لا أدري هل فعلاً مُسمّى وظيفته “قائل نكات”، أو “خويّ” أو “بودي قارد” –فعلاً لا أدري بالضبط- المُهمّ أنهُ رجلٌ في نهايةِ الخمسينات من عمره، ويعملُ لدى أحد الأمراء. ولن نختلف على مسمّى الوظيفة، حتّى لو كانت “مصلّح ساعات” أو “تمرجي”. هذا الرجل الذي كانَ يشغل السّرير قبل ذلك بيوم –كما قلت في بداية النص- لهجته بدويّة قحّة. كانَ يشتكي من ألمٍ ما في “كليته” المزروعة، وبعد أن ظلّ ثلاثة ليالٍ في “الطوارئ” إلى أن فَرَغ هذا السَّرير، جاؤوا به، والمشكلة أنه عندما وصل، لم ينم سوى يومٍ واحد. في اليوم التالي، جئتُ صباحاً وقبّلتُ رأسَ جارهِ في السَّرير، الرجل الكبير الذي يعنيني أمره. المهم أنني اكتشفت أنَّ “قائل النكات” غادر، من الطبيعي أن أكتشف ذلك، لأنه ليس بطلنا على كلّ حال، ولأنّ “أبوفهد” كان نائماً على ذاتِ السرير، كـ حلٍ بديل، وشاغلٍ جديد للسرير ذلك اليوم.
“أبوفهد” بطلنا، رجلٌ في نهايةِ الخمسينات أيضاً. كانَ يعمل “وكيل رقيب” في الجيش. يقول أنّ الرئيس الأمريكي “كتينتون” منحهُ شهادة عندما زار الخفجي بعد حربِ الخليج الثانية. وكما يقول أنّه عندما دخل “الجهرا” شاهدَ فتاةً عمرها ثلاثة أعوام، كانت مذبوحة، حملها وبكى. هو لا يقرأ ولا يكتب، ومُتقاعدٌ حالياً. زرع كليته قبل عام. يقول أنّهُ عندما ركب الطائرة لأوّلِ مرّةٍ قادماً إلى الرياض قبل ثلاثين عام “كنتُ شاباً قوياً” هكذا يتنهّد، قام بوضع الفلفل والملح في الشاي الذي قدّمته المضيفة، لذعه الطعم واندلق الشاي على ثوبه. خلعه في حمّام الطائرة وشطفهُ.
“أبوفهد” لا يُحبّ الصّخب. لذلك هو لم يهتم بسخرية الآخرين في الطائرة عندما عاد إلى مقعده بسروال قصير وفنيلة “علاّقي”، بعد أن نشرَ الغسيل في ممرّ الطائرة لبعض الوقت. ولذلك أيضاً لا يهتمّ بتفسيرات الآخرين. هو يُحبّ أن يرى الحياة بعدستهِ الخاصّة. عدسته المُتخلّية عن قيود المثاليات ووجهات النظر المُخالفة. يصمت كثيراً، وعندما يتحدّث يحكي مواقفَ كثيرة. طبعاً ستكون كثيرة، لأنهُ عاشَ عمرهُ بتفاصيله، منذُ زمن وهو يعيشُ في هذهِ الدنيا، منذُ أن كان هناك شارعٌ في الرياض يُدعى “شارع البرسيم”.
ولنفسِ السّبب -أعني كونهُ لا يُحبّ الصّخب- يُشاهدُ التلفاز بلا صوت. يتأمّل الصور، المشاهد، الأفلام، البرامج الوثائقيّة، والمقاطع الأخباريّة، ويُفسّر كلّ ما يُشاهدُه بمزاجيّة طريفة. بطريقتهِ الخاصّة جداً. ذاتَ يوم كنتُ أشاهد معه التلفاز على طريقته، أشار إليه وقال لي [هذا زعلان عشان الحريري مات] كان مقطعاً إخبارياً يعرضُ أحد المسؤولين العراقيين يتحدّث بغضب وبيده صور وأوراق وأفلام فيديو، وفي الشريط أسفل الشاشة مكتوب [ظهور أدلّة جديدة تُدين القوات الأمريكيّة في جريمة تعذيب سجناء أبوغريب], هززتُ رأسي موافقاً، وسرحتُ بعيداً.
بشرتهُ سمراء داكنة، ووجهه ممتلئ بمرح وسماحة، ولأنهُ لم يحلق ذقنهُ منذُ أن دخل المستشفى. فقد بزغت شعراتهُ البيضاء مغطّيةً ذقنهُ وخدّيه، أعطتهُ هيبةً أخرى، أمسى وجههُ لوحة هوليوديّة. يليقُ بهِ أن يُمثّل دورَ الجدّ في عائلة سوداء. الجدّ الحكيم الذي فهم الحياة جيّداً وعاشَ فترةَ ما قبل النقلة الاجتماعيّة الجذريّة هناك وعاصر مارتن لوثر كينغ، ويتسلى عادةً بشذبِ العشبِ في الحديقة، والكلامِ العميق الممتلئ بالحكمة مع أحفادهِ المتهوّرين. ويبتسم للعابرين.
هو لا يهتمّ بالتسميات الصحيحة للأشياء. ببساطة يُكوّنُ جملةً تُفهم بعدّة اتجاهات. ربما لو كانَ كاتباً لمنح القارئ جميع حقوقه في الخيال، وفي فهم النّص المفتوح كما يشاء. لذلك عندما هبطت تلك الطائرة، قبل ثلاثين عام، كانَ الجوّ بارداً، ولازال ثوبهُ مُبتلاً، هبطتْ في المطار القديم، أوقفَ سيارة أجرة، وطلب منهُ أن يوصلهُ إلى “شارع الحشيش”. ولذلك أيضاً أخذتهُ فرقة من [المباحث] بعد أن أصرّ على أكثر من تاكسي بأن يذهب إلى الشارع الذي يبيعون فيه الحشيش في “برحة” كبيرة، دون أن تُدرك تلك الفرقة -سوى متأخراً- أنّ البرسيم أيضاً من حشائش الأرض. ودونَ أن يُدرك أبو فهد أنّ أهل المُدن يختلفون عن أهل القرى، لم تكن “موضة” النصّوص المفتوحة لأكثر من احتمال قد وصلت المُدن بعد.
في أحد الأيام، كنتُ نائماً على “الصوفا” بجوار سرير الشخص الذي يعنيني أمرهُ كثيراً، أكثر من أيّ شيء, أيقظني “أبوفهد” قال لي أنَّه لم يفهم ما تقوله الممرضة “برتقالة” –لقد منح كلّ موظفٍ في المستشفى مسمىً خاصاً، وبالمجّان أيضاً- بعد أن توجهت إليَّ بالحديث، وغادرتْ، ترجمتُ لهُ أنّها تريدُ منهُ ألاّ يأكل إلى الغدّ حيثُ سيأخذون من كليته عيّنة. والحقّ أنني لم استمتع بالنرجسيّة التي يشعر بها الشخص عادةً عندما يشرحُ للآخر شيئاً لا يفهمه، وهذا الشعور يكونُ مُضاعفاً عندما يتعلّق الأمر بالترجمة، لم استمتع لسببٍ بسيط وهو أنّني لم أُكمل ترجمتي، فقد سمعتُ صوتَ شخير، قادمٍ من خلفِ ستارة “أبوفهد”. عدتُ إلى وضعي على “الصوفا”، ونمتُ على صوتِ سمفونيّةٍ كانَ يؤدّيها جوقةُ موسيقيّين، مكوّنةٌ من حكيمين، قادمين من قرىً جنوبيةٍ متجاورة، قد يختلفان عن بعضهما ويتفقان، ينامانِ على سريرين متجاورين، ويهمّني أمرهما كثيراً.
من مقولات أبو فهد التي التصقت بالذاكرة: [الكلية حيوان ضعيف في جسم الإنسان، والإنسان كـ الآدمي, ما يصيبه إلاّ المكتوب].
منذُ أن قدم “أبوفهد” تحسّنت صحّة جارهِ السّريري الذي يُهمّني أمرهُ كثيراً، أصبح يبتسم، ويتحدث، ويحكي لي قصص طفولتي ويضحك. نفسيتهُ السعيدة أثّرت إيجاباً على وظائف جسدهِ العضويّة، غادر المستشفى بعد أكثر من شهر. ودّعنا “أبوفهد”، وهو بدورهِ وعدنا أنهُ سيخرجُ قريباً، وكأنهُ يحرصُ على رسمِ التفاؤلِ في الطُرقِ بعبثيّتهِ وقراراتهِ ومزاجيّتهِ الطريفة، يحرصُ على ذلك حتّى في الدقيقة الأخيرة. وعدتهُ بالزيارة، وخرجتُ بصحبةِ “والدي”، خرجتُ وبقي “أبوفهد” يُشاهد التلفاز بلا صوت.
إلى أبوفهد, الرجل الأُمّي, الذي باستطاعتهِ أن يقلب مفاهيم وناموس الحياة, دونَ أن يمسّ النظام الكونيّ, كأن يجعل من المستشفى روايةً لم تُكتب بعد, ومن الصوت مادةً غير ضروريّة لاستمرار السّماع. الآن عدتُ مُجدداً, أكتب, وأسمعُ جيداً.
_________________________
كتبتُ هذا النص بتاريخ 28.11.2005
وعلمتُ مؤخرًا، أن أبا فهد، قد تركَ الحياة بصخبها، ودّعها دون أن يمنحها متعة إزعاجه، ودعها مبتسماً، بعد أن أعطى لكلّ شيءٍ فيها اسماً من مخيلته، ولكلّ حدثٍ فيها معنى يفهمه ويعجبه.. رحل، وتركَ غبارهُ النقي في قلبِ الرجل الذي يهمني أمرهُ كثيرًا..
أحدث التعليقات