ToGoTea

الأرشيف

The Story of a Murderer

قبل بضع سنوات مضت، قرأتُ رواية [العطر] التي بمجرد أن تنهي قراءتها تجد نفسك مشدوهاً وغارقاً بالتفكير تمعن النظر إلى الفراغ. تركت لديّ الرواية انطباعاً مبهجاً، البهجة المصاحبة لقراءة الكتب التي نندم عندما لا نقرأها. لم أحرّك ساكناً على مدى ساعتين أو أكثر، شعرتُ في تلك اللحظات بامتلاءٍ واكتفاءٍ من كلّ ضرورة. كل ما كنتُ أفعلهُ هو مواصلة النظر إلى اللاشيء، التفكير بالحكاية التي كنت قد أنهيتها للتوّ، التفكير بشخصيّة البطل غريب الأطوار وصاحب حاسة الشّم الدقيقة والمدهشة، بطل الرواية [غرنوِي]!

 قليلة تلك الروايات التي نقرأها فتُشعرنا بالرضا المُفرط عن الوقت الذي قضيناه في قراءتها. ونادرة تلك الروايات التي توصلني للحظات انتشاء وسعادة إلى درجةٍ أتحدث خلالها بصوتٍ مرتفع موجهاً كلامي إلى اللا أحد. والعطر واحدة من تلك الروايات الثريّة والعميقة والنادرة، لقد أمتعتني بحقّ، وللآن أشعرُ بامتنان تجاه كاتبها، Patrick Suskind باتريك زوسكيند، أجزم بأنني لستُ وحيداً، امتنان القارئ مستمّر تجاه أي كاتبٍ عبقريّ يتمكن من إمتاعنا وإقناعنا دون رأيٍ أو تلقينٍ أو نقاش، يقنعنا ببساطةٍ يرتبها في كتابةٍ صعبةٍ، ومجنونة بذات الوقت!.

العطر هي قصّة قاتل، هذا ما وضّحه زوسكيند على غلاف روايته. ورغم أنه قاتل إلاّ أن شخصيته وحياته تجبرك على التعاطف معه بشكلٍ أكبر من التعاطف مع المجني عليه!. هذه هي الحقيقة، وهذه هي شخصية غرنوي الشاب اليتيم، الذي ولدته أمه على عجل وبخوفٍ وسط ضجّة العابرين، قذفت به على أرضٍ نتنةٍ مغطاة بالقاذورات والدماء والماء الآسن والدبق وجمهور من الذباب، حانت ولادته وهي تعمل في السوق، جرت الولادة بسرعة، قطعت حبله السرّي وركلته دافعةً إياه تحت طاولة ترتص فوقها الأسماك الرطبة حديثة الصيد، بعد ولادته حاولت التسلل والهرب، لكن حظها العاثر أنطق الجامد، تلك الكومة من اللحم بدأت تبكي بعد دقائق، ليتم الامساك بالأم الولود التي اعتادت على ممارسة الحمل والإجهاد لتسعة أشهر، كما اعتادت على دلق أطفالها على الأرصفة وفي زوايا الأزقة الملتويّة. وبنفس سرعة ولادتها الأخيرة؛ جرى إعدامها الأول والأخير بطبيعة الحال. هكذا بدأت طفولة القاتل غرنوي.

ذكر زوسكيند في الرواية أنّ أولّ كلمةٍ نطق بها غرنوي كانت سمكة.
سمكة!! أليست كلمة مناسبة لأن تكون أول [نطق] ذو [معنى] لإنسان لن يحتاج إلى [النطق] كثيراً في حياته، و[المعنى] بالنسبة له غير مفهوم ولا حاجة له، مقارنة بأهميةّ [الرائحةِ]! لم يكن أنف غرنوِي مجرّد أداة لممارسة حاسة الشّم، بل كان أنفه بطريقة أو بأخرى هو العقل، المحرّك، القائد، المُسيّر لجسده، أفعاله، ردّات فعله، وحياته الشابة بكلّ تفاصيلها إلى أن انتهت، وبإرادته!

إنه شخص يجهل طرق التواصل مع الناس، ليس اجتماعياً ولا يكترث بعلم الاجتماع إلاّ إذا كان الحديث عن رائحة هذا العلم! شخص لا يعرف العاطفة، لا الندم، لا الخير و لا الشر، كل ما يعرفه أنّ ثمة روائح عديدة، وما نطلق عليه رائحة نتنة ولا نستطيع تحملها، هي بالنسبة له مجرد روائح لعدة أشياء محددة يعرفها ويستطيع تصنيفها وعدّها وتحديد نِسَبها ببساطةٍ ودون جهد أو تفكير!.العالم بالنسبة لغرنوي مجموعة من الروائح، وهو الوحيد الذي يتقن التعامل معها، والوحيد الذي استطاع بأنفه أن يملك العالم من حوله!

هذا باختصار هو بطل رواية العطر، و-حالياً- فيلم العطر، الفيلم الذي ظهر بعد تنافس طويل من قبل العديد من المنتجين للحصول على حقوقه، في مقابل رفض استمرّ لعدّة سنوات من قبل الكاتب زوسكيند، وأخيراً تم الإتفاق وأُنتج الفيلم على يد المنتج برند إيشينجر، الذي يقول أنه قرأ الرواية منذ نشرت لأول مرة، وأنه أيقن منذ ذلك الحين أنه يرغب ويسعى نحو تحويلها إلى فيلم. قال أيضاً: [العطر رواية لا تُقارن بأي قطعةٍ أدبيّة أخرى]. الألماني توم تيكر الذي فاز بعدة جوائز سينمائية على عدّةِ أفلامٍ معروفةٍ ومميزةٍ من أفلامه، قام بإخراج هذا الفيلم بجدارة ملفته، وبطريقةٍ أظهر خلالها أنه لم يقرأ الرواية وحسب، بل يبدو أنه قضى العامين الفائتين وهو يتوسّدها، يعيش بداخلها، يدرسها، يحللها ويفهمها جيّداً.

 أما الدور الأهم في الفيلم ككل، الشخصيّة المعقّدة والصعبه للبطل جان بابتسيت غرنوي، قام بتمثيلها بإتقانٍ ودقّة؛ ممثل بريطاني شاب غير معروف “بِن ويشاو”، ممثل حديث التخرج من الأكاديمية الملكية للفنِّ الدرامي، صحيح أن ويشاو لم يكن معروفاً، لكنه أصبح كذلك الآن، وأتوقّع أنه سيستمرّ بالصعود والتميّز. لقد كان أداؤه مقنعاً، حركاته ونظراته وهيئته مناسبة للشخصيّة، كان اختياراً موفقاً.قرأتُ قبل عامين وأنا في مسافر في رحلةٍ جويّة خبراً بإحدى الصحف المحليّة؛ عن بدء توقيع العقود والعمل على تمثيل العطر، أذكر مما جاء أيضاً في الخبر أن الممثل “داستن هوفمن” سيؤدي دور البطل غرنوِي، لكن الحقيقة التي اتضحت مع الفيلم، أنه قام بلعب دور العطّار “بالديني”، لا أقول أنه أدّى الدور بتميّزٍ وإتقان، لكنه تمكن من الظهور بشكلٍ مُرضي خصوصاً إذا وضعنا في الحسبان قُصر وقت تواجد الشخصيّة في الفيلم. كما لعب الممثل “ألن ريكمان”، دور التاجر المترمّل “أنتوين ريشيز”، والد الفتاة لورا التي استخلص منها غرنوي آخر العطور، مكملاً مجموعته العطرية المقدسة، ومنتجاً خلطته السحرية، عطر العذريّة بشكله النهائي.

إضافة إلى جمالية ظهور صوت الراوي بين مشهدٍ وآخر خلال الفيلم، فإن من أكثر ما شدّ انتباهي بشكلٍ مستمر أثناء المتابعة هو التطابق الكبير بين البيئة المصورّة، الطريقة الإخراجيّة، الـBackground بشكلٍ عام، وبين الوصف في السرد الروائي وما تخيّلناه أثناء قراءتها. وبحقّ لقد شاهدتُ العطر بشهيّة مفتوحة، أشاهد واستعيد من ذاكرتي صوراً سابقة لازلت أحتفظ بها من الرواية.  في العمل الروائي ثمة وقت ونَفَسٍ طويلين يمتلكهما الكاتب، وله حرّيّة استخدامهما، وأمامه مساحة شاسعة مُتاحةٌ للسرد والاسترسال الوصفي والحكائي، ذلك بعكس صناعة الأفلام، حيث يضطر السنمائي إلى العمل بداخل إطارٍ محدد وهي أمور تتحكم بها عدة أولويات، منها ما يتعلق بالمتلقي ونوعية وطريقة التلقّي ومنها ما يتعلق بالفكرة والوقت ومدى أهمية التفاصيل والإيحاءات في المقطع الواحد. هذا هو سبب غياب تفاصيل متفرقة كان أحدها حدثاً طويلاً في النصف الثاني من الرواية. على أيّ حال، أشعرُ أنّ فهم ومتعة مشاهدة الفيلم تكون مضاعفة أكثر من مرة لدى من سبق لهم قراءة الرواية، فلا تفوتوا ذلك، المتعة مع الرواية، المتعة بعدها، ومن ثم المتعة بمشاهدة الفيلم كمتلقي يكتشف نفسه كناقد، وسيشعر البعض، بشعور طالبٍ يقوم أخيراً بتطبيق درسٍ نظريّ عرفه وفهمه جيداً.
December 12, 2006

Be Sociable, Share!

15 تعليق على THE PERFUME

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *