ToGoTea

الأرشيف

 

بعيداً عن أفلام الحروب الأمريكيّة ذات النهايات المنتصرة والسعيدة وعن الطابور الطويل من السوبرمانات ذوي القوى الخارقة الذين يؤدون أدوار البطولة فيها. بعيداً عن أيّ فيلمٍ يروّج لفكرة رجل المارينز الذي يخوض حرباً ويقارع جيشاً كاملاً، يفجر الطائرات والمباني والسيارات ومن ثم يعود إلى بلاده منتصراً حاملاً الشريحة الالكترونية المسروقة، أو الفتاة الرهينة، يعود ومعه كل الأشياء المطلوبة والمبهجة، ثم يحتفل ويتزوج الرهينة التي أنقذها وإلى آخره من المشاهد المتكررة في هذه النوعية من الأفلام! بعيداً عن كلّ ما سبق، يأتي فيلم (JARHEAD) حقيقياً ومنطقياً، يأتي مختلفاً ويركزُ على تلك التفاصيل والزوايا السيكولوجية الغامضة بداخل البيادق البشريّة في الحروب، تفاصيل المأساة التي تتكون ليس بالضرورة من الألم أو الدماء بل تلك التي تخلقها منظومةٌ متتاليةٌ من تقنيةٍ عسكرية مجحفة وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ مضطربة وغربةٍ وتناقضاتٍ وحياة كاملة كأيّ حياة، هذا الفيلم يسلط الضوء على الاعتراك الانساني داخل الفرد بالزيّ العسكريّ. الفيلم من إخراج الفائز بجائزة الأوسكار، الذي يعرف كيف يصنع الدهشة من تفاصيل الصور والأحداث، المخرج “سام ميندز” وهو فيلمه الثالث بعد أن أبهرنا بفلميه السابقين فيلم “آميركان بيوتي” الذي رُشّح لثمان جوائز أوسكار، وفيلم “رود تو باردتشن”.
 الجميل والمحرّض لمشاهدة فيلم “جارهد” هو أنه مقتبسٌ من قصة حقيقيّة، فقد استند على كتاب مذكرات الجندي سوافرد، جندي قنّاص من قوات البحرية الأمريكية الذين شاركوا في حرب الخليج الأولى عاصفة الصحراء، فقد سرد في كتابه الذي نشر في 2003 قصته أثناء الحرب، والملفت أن الكتاب قضى تسعة أسابيع على قائمة النيويورك تايمز ضمن الكتب الأكثر رواجاً، ولازال إلى الآن من أكثر الكتبِ رواجاً في أمريكا. (القصة؛ رجلٌ يطلق النار من بندقيتهِ عدة سنوات، ثم يذهب للحرب، وبعد انتهائها؛ يعيد بندقيته للجيش ويعتقد أنه تخلص منها، ولكن مهما كان ما يفعله.. يحبّ امرأةً.. يؤسس منزلاً.. يغيّر حفاظات ابنه.. فإن يداه لا تتذكران.. غير البندقيّة!) هكذا يبدأ الفيلم بالمنولوج السابق بصوت الممثل الشاب بطل هذا الفيلم “جاك جايلنهال” الذي يذهلنا دائماً بأدائه المتقن للأدوار، وهنا يلعب دور “سوافرد”  جندي في العشرين من عمره في قوات المارينز.
 تطلق كلمة “جارهد” على جندي البحرية ومعناها “الرأس الجرّة” لأنهم يحلقون رؤسهم على شكل شفة مزمومة، هذه الجرار البشريّة تُفرّغ من مكتسباتها الإنسانية الماضية وتعبّأ من جديد بمفهومٍ عسكري. يقول سوافرد بداخل الفيلم: (تشير المضامين إلى أن رأس جندي المارينز تشبه الجرّة، وعاء فارغ!) وهكذا تسير أحداث الفيلم متتاليةً على هذا الغرار من المنولوجات الداخلية للبطل سوافرد، هذا الشاب الذي يحب القراءة والتأمل وجد نفسه جندي قنّاص في السرية الثانية فصيل الخليج، وجد نفسه يتعرّق في الصحراء ببزّةٍ عسكريةٍ ثقيلة، ويمارسُ تقنياتٍ مقترحةٍ محاولاً تجنّب الوحدة المملّة.  برز في الفيلم أيضاً، الممثل الحائز على الأوسكار “جيمي فوكس” حيث أدّى دور الرقيب أول Sykes ذلك الذي يقضي حياته في تدريب الجنود وفي المهمات الحربية مع البنادق والنار والنظام العسكري الصارم في الحروب، يقوم بإعداد المستجدين من الجنود كي يعرفوا حقيقة الحرب، يخاطبهم قائلاً: (في الحرب إذا ضحكتم ستموتون، إذا قمتم بحك أنوفكم ستموتون، إذا ذهبتم لقضاء حاجتكم ستموتون فلتفعلوها في بناطيلكم. سيكون تمويهكم كاملاً، ستكونون شجراً، أو صخراً، ستصبحون وحلاً أو رملاً، أو حتّى غباراً.) لكن تتضح الحقيقة المرهفة لهذا الرقيب القاسي، عندما يكونون على الحدود، بعد قصفٍ خاطئ من طائرات تابعة لهم، وبعد حالاتٍ من الهستيريا ألمّت بأحد الجنود، تتضح حقيقة هذا الرقيب وهو يتحدث للجندي سوافرد: (كان بإمكاني أن أعمل مع أخي آلن في الديار، كان بإمكاني أن أكون شريكه، فقد قال أنه سيعطيني تلك السيارة الدودج الجديدة) قال هذا وهو يستعيدُ ذكريات، ويتحدث كطفل. هذا الفيلم تصويرٌ حقيقيّ للحالة الإنسانية المتاهلكة في الحرب، دون النظر إلى الفوارق الآيدلوجية أو الإنتماءات السياسية، إنه يركز على حالةٍ لم يتم تصويرها كثيراً، إنه يظهر الأزمات النفسية التي يمر بها الجنود، ويظهر تلك الفكرة الصغيرة التي تبدأ كرغبة في إطلاق النار، حتى تتأزم وتصبح هماً وطموحاً وحالةً هستيرية وجنونية، ويظهر الدمار الذي يرتكبه البشر في حقّ أنفسهم، وفي حقّ الطبيعة والمخلوقات الأخرى، وتتجلى هذه الصورة بالذات عندما كان الجندي سوافرد يسير بين آبار النفط المشتعلة، والسماء السوداء تمطر نفطاً، وفجأة ظهر ذلك الحصان المتهالك من بين الأدخنة، كان مغطىً بالنفط ويتنفس بصعوبة، عندما تشاهد تلك اللقطة لن تتساءل حينها من جاء هذا الحصان؟ أو كيف وصل إلى هنا؟ بل ستنسى كلّ شيء، وتتجاهل جميع الاستفهامات الطارئة، وتتماهى مع مشهدٍ يختزلُ كثيراً من الكلام، حيث يقف سوافرد وهو يربّتُ على رأس الحصان ويقول (أنا آسف) وكأنه يعتذر للحصان نيابةً عن البشريّة كلها؛ لما ترتكبه من جرمٍ بحقّ الطبيعة والحياة.  إن الحديث عن جارهِد كثير ومغري، ولكني سأقف، كي لا أُنقص لذة المشاهدة الأولى لمن لم يشاهده. بقي لدي شيء وحيد أود قوله: صحيح أنّهم يعودون إلى منازلهم عندما تنتهي الحرب، ثمة حقيقة يكتشفونها فيما بعد؛ أنهم خلفوا وتركوا وراءهم الكثير، عادوا بأجسادهم فقط. قال سوافرد في نهاية الفيلم: (القصّة.. رجلٌ يطلق النار من بندقيته عدة سنوات، ثم يذهب للحرب، وبعد فترة يعود للديار.. ويكتشف أنه مهما فعل في حياته.. يبني منزلاً.. يحبّ امرأةً.. يغيّر حفاظات ابنه.. سيبقى دائماً.. أحمق! وكل الحمقى الذين يقتلون ويموتون سيكونون أنا.. فنحن ما زلنا في الصحراء!)

 سبتمبر 2006

إضافة:
بعد أن كتبت المقال وتم نشرهُ في مجلة لايف ستايل، شاهدتُ فيلم “ذي ثِن رِد لاين” الذي عُرض عام 98، اكتشفت أن فكرة “جارهد” طُرقت مسبقاً، ولكن بحربٍ أخرى، وبمعالجةٍ أخرى. شعرتُ أنه  أجدر بالكتابة عنه.عموماً مثل هذه الأفكار بشكلٍ عام تجذبني.  لذا فهذا المقال ليس عن جارهد فقط، بل عن الفكرة التي تسلط الضوء على إنسانية الجندي وصراعه النفسي وكلّ ما يعترك بداخله وهو في ساحة حرب، عن الفكرة التي تظهر الوجه الحقيقي للحرب، الوجه الذي لن يختلف، سواء انتصار أو هزيمة، يبقى مسخاً مشوّها.

Be Sociable, Share!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *