ليس بسبب البعد عن اللغة والانقطاع، ولا الأحداث الكثيرة والتفاصيل المُلحّة التي تتراكم كلّ يومٍ هنا، ولا السعادة المنتشرة بإفراط، ولا العودة إلى المنزلِ وحيدًا الليلة. ليس بسبب الأحزان القليلة جدًا والطارئة، ولا بسبب الانتشاء المعقول، ولا الأمطار المتتالية بكثافة، ولا تحوّل أوراق الشجرة -الطويلة بجوار البيتِ- إلى الأصفر خلال يومٍ واحد، ولا استمرار تساقطها منذ اليوم التالي. وليس بسبب قراءة “في مديح النساء الأكبر سنًّا”، ولا إصلاح سلسلة الدراجة ظُهر الأمس، ولا بسبب شكل زيت سلسلة الدراجة على أطراف أصابعي الذي يُذكّر بشكل أصابع صغيرة وقديمة. وليس بسبب جورج السحلية، ولا رائحة الهيل في المطبخ، ولا بسبب الأفكار العظيمة أو الأفكار الأعظم. وليس بسبب ضغط الدراسة، ولا السنجاب الذي يحاول التغريد، ولا الخمسة عشر دولارًا التي جلبتها رياح الكارما، ولا الفتاة التي أقابلها في باص 81، ولا بسبب باص 81، أو سائقة باص 81. إنما هي مجرد رغبة في الكتابة، الكتابة عن الأسباب االمختصرة ذات التوابع الشاسعة، الكتابة عن البعد عن اللغة والانقطاع الذي طال، وعن الأحداث الكثيرة والتفاصيل المُلحّة التي تتراكم كلّ يومٍ هنا. عن السعادة، الوحدة، الحزن الطارئ والانتشاء، عن أوراق الشجر الصفراء، والنساء الأكبر سنًّا. عن السحالي والهيل. عن الأفكار، الدراسة، السناجب وقلة المال. عن الفتاة التي أقابلها في باص، وعن الباص وسائقة الباص.
أَنَا أوّلُ الآخَريْن..
أَنَا آخَرٌ فِي الفَضَاءِ البَعِيدْ..
أَنَا أَشْعثٌ، متعبٌ.. غوَايَةُ سَفَرٍ وسَهَر الطَرِيقْ..
بغَضِّ النَظَر عَن قَمِيصِ الجَليدْ..
أَو عَن صِفَاتْ..
فَحَتّى السُبَاتْ.. السِّرْمَدي الأَكِيدْ..
حَتَّى المَمَاتْ…
حَتَّى إذَا مَا اَسْتَمَالَ الهَدَبْ..
وَ لَمْ يَتَشَهَّدْ لِرَفْعِ الصَلَاةْ..
أَنَا فِي الَليَالِيَ لَنْ أَسْتَوي…
لَنْ أَسْتَقِيمْ..
كَـ غُصْنٍ يَتِيمْ..
كـَ سِرّ الحَيَاةْ..
سَأَبْقَى أَنَا.. كَمَا لَمْ أَشَأْ..
جَوَادٌ يَلُوكُ الصَهِيلَ.. وَحِيْدْ
29/06/2004
في منتصف شهر يناير تقريباً؛ في حفل الـGolden Globe، تولى النجم “Tom Hanks” تكريم الممثل والمخرج والكاتب والمنتج “Warren Beatty” حيث مُنح جائزة الـDeMille على نتاجه السنمائي طوال حياته الفنية التي بدأت منذ الأبيض والأسود مروراً بأيام الطواقي الزري والشراريب الشفاف وهكذا، واستعرض “هانكس” تاريخ الفنان “بيتي” المليء منذ الستينات وحتى الآن، صعد الأخير على المنصة واستلم الجائزة وأخذ يحدث للجمهور لدقائق، ويستهبل على النجوم من شيّاب السينما والذين بطبيعة الحال كانوا متواجدين ضمن الحضور؛ وأولهم جاك نيكلسون الذي سبق وأن فاز بنفس الجائزة، أيضاً هنالك عدة عمالقة حصلوا عليها، آل باتشينو، أنتوني هوبكنز، روبن وليمس، مايكل دوغلاس و محمد الكنهل 🙂 ، المهم مما قاله Warren خلال حديثه:
I got a friend in Tennessee who’s always telling me about his father, and I like to quote him: The greatest gift God gives us is to enjoy the sound of our own voice And the second greatest gift is to get somebody to listen to it
لديه صديق في تينّسي دائماً يتحدث عن والده ويردد مقولاته، وأورد “بيتي” اقتباساً من مقولات والد صديقه: إن أعظم هدية منحها الله لنا، هي قدرة كلٍ منا على سماع صوته والاستمتاع به. أما ثاني أعظم هدية هي إيجاد من يستمع إلينا.
قالها وهو يقصد أشياء كثيرة ليس مجرّد الانصات، بل المتابعة، الاهتمام، الاستمتاع بذلك، والتقدير، التقدير الذي حازه وهو يقف على المسرح، أمام العدسة، وملايين المنصتين، قالها وهو يقصد جمال أن ينتبه إلى وجودنا الآخرون ويكترثون بما نقول.
بصراحة الاقتباس علق في ذاكرتي طوال الأشهر الأربعة الماضية، التفكير به ليس لمجرد بساطته وعمقه، بل لأنه فكرة خصبة للاستطراد، التفكير والتشعب لأكثر من سالفة، أصوات لا تحصى، والبحث عن منصتين.
أحياناً يشعر البعض إن ودّه يتشقق من كثر إعجابه بصوته في الحمام، وفي الحمام أيضاً تصدر عدة قرارات أيضاً منها العزم على تعلّم العزف على عود، وأحياناً غيتار وفيه ناس أكثر رومانسية ودهم يتعلمون “كمان” وكمااان.
وبعد تأدية كم كوبليه في المكان إياه، يسترخي وهو ناطل وجهه للجدار، بشكل بطيء ينقّل نظراته من بلاطة لبلاطة:
بلاطة: يظهر فيها ع المسرح ينحني شكراً للجمهور بعد أدائه لمعزوفة طويلة ع العود بأصبع واحد، الخنصر، لا وخنصر مايل بعد. نصير شمة يظهر محاولاً الصعود على المسرح بعينين تشعّان بريقاً رغبةً باحتضان الفنان المعجزة، لكن السيكيورتي منعه، ممنوع يا نصير، قالها ع بلاطة.
بلاطة أخرى: يصيح بـ موّال في جلسة طرب خليجية، موّال حزين جداً، موّال بكائي، الرجال يبكون، البنات والطقاقات يبكين، الكلّ يبكي ما عدا الشايب هذاك اللي مرتز في كلّ جلسة من أيام أغاني زمان، وزمان يافن، وحده استطاع مقاومة الدموع بآلية التفكير في إيقاعٍ سريع صاخب وصالح للرقص، لكن لم يحصل على مراده بل العكس تماماً، حالة فراغ تامة في الحمام قطعت المشهد، انتهت بصوت سيفون.
الزبدة.. وهي بالمناسبة لا علاقة لها بالسالفة أعلاه:
هنالك موضوع يظهر كتدوينة أولى افتراضية في أي مدونة ووردبريس جديدة، تحمل التدوينة عنوان (أهلاً بالعالم!)، وبما أن افتتاح “رصيف” تم ترقيعه بكتاباتٍ متفرقة قديمة، وبما أنني أشعر برغبةٍ ملحة في التخلص من أعراض إدمان الأفلام، المسلسلات، إنسايدر، برايم تايم، أوبرا، سكستي منتس، إنسايد إدشن، سو يو ثينك يو كان دانس! ذا فيو وسخرية روزي، بولا عبدول التي لا تملك سالفة، دونالد ترامب والتراب جداً، آنا نيكول وزحمة ما قبل وبعد الموت، وإلى آخره من ضجيج لا ينتهي، بما أنه –كلّ ما سبق- فلابد من ممارسة التدوين بشكلٍ جدّي، يكفي أنني أملك هذه الهدية العظيمة: أن يستمع إلى صوتي شخص آخر يعبر هذا الرصيف، الآن أتمكن من القول:
أهلاً بالعالم 🙂 !
شكراً للنبلاء الذين عبروا من هنا بـ تعقيباتٍ جميلة، وبرسائل أجمل، شكراً لمن لا زال ينوي العبور ولم يفعل بعد، شكراً للأصدقاء من هنا، من عرفت منهم ومن لم أعرف بعد، شكراً جزيلاً أيها المنصتون.
أحدث التعليقات