إلى زوجتي الغالية
Florence, Jan 2013
لا حاجة للحديث عن جر الحقائب خلفنا على قطع القرميد المرصوفة بعناية عامل مجتهد لتصنع الطرق والممرات حول محطة القطار باتجاه الفندق الذي لا نعرف طريقه، فمن المنطقي أن تجر الحقيبة خلفك حيث لا أجمل من المشي كوسيلة انتقال في المدينة التي مشينا بها ويتبعنا صوت دحرجة عجلات بلاستيكية فوق قرميد ويرتد صداه من على سطوح واجهات الأبنية العتيقة حولنا ويضيع في زحمة أصوات العابرين وأنت تسألهم عن اتجاه الفندق.. وإن اضطررتُ على الحديث عن جر الحقائب خلفنا ونحن نمشي، فلن يتم ذلك في سياق سلبي أبداً بل أشبه بحالة تمهيد تساعد على تبرير سعادةٍ كسعادتنا ونحن نجد الفندق الذي يعود عمر بنائه إلى القرن السادس عشر، ونستلم مفتاح الحجرة ونرمي بالحقائب في خزانتها وتعب الطريق في حوض استحمامها، ومن ثم نخرج مرة أخرى للشارع ونتيه في زحمة أليفةٍ تبعث على التأمل المفرط والجلوس على مقعد مقهى لتتنفس هواء نهرٍ في الجوار وارتشاف اسبريسو منصتان إلى موسيقى لغة تتموج في الهواء بعبثِ الحديث الجماعي الذي يمارسه غرباء وأصدقاء طليان على طاولات مجاورة والساقي خلف منصَّتِه والنادلين العابرين من بين خيوط لغتهم يرتبون ارتدادها بين الطاولات مع رواد مقهاهم وأنا أتحسس بيديّ المقعد أسفلي وأفكر في: كيف تمكن من إقناعي باختلافه عن تلك التي قضيت يومي أتنقل من على أحدها إلى الآخر حتى وصلت أخيراً إليه رغم أنه مجرد مقعد خشبي في مقهىً اعتيادي يقدم مشروباتٍ معتادة على طريق قرميدي قرب نهرٍ بمدينة قديمة كفلورنسا أو فرينزيه كما يسمونها هنا؟ ثم أقول فرينزيه، وأثق أني أعرف تماماً ما تعنيه هذه الكلمة رغم جهلي لغة أهلها عدا التحايا مثل الـ”بوناسيرا” التي أطلقها النادل بمجرد جلوسنا.
توجهنا إلى مطار أوهير، بعد أن تناولنا العشاء الأخير..
وهناك ودعت أصدقائي بعناق أشكّ أنني سأتمكن من وصفه بالسريع في حالة تذكرهِ مستقبلاً. وجدتُ نفسي أقف في طابور التفتيش، وخلفي تبتلع الأرض تلويح أياديهم وأطوالهم تتناقص منحدرين على السلّم الكهربائي. جاء دوري، وقفت بين لوحين، وأشارت إلي الموظفة بأن أفرد ذراعَيَّ وكأنها تصفُ شيئًا هائل الحجم. لو أن الأشعة الحرارية تعري الأفكار كما تفعل مع الأجساد، لمنعتني تلك السيدة من السفر بحجة الحفاظ على هدوء أعصاب المسافرين.
كانت المسافة بين نقطة التفتيش وبوابة المغادرة طويلة على غير عادتها. مشيت وكأن الخطوات تتكوّر حول ذاتها وتعيد سرد ذاكرتها أمامها، وكأنه ديجاﭬو يتكرر كل خمسة أمتار ويعيدني لنقطة البدء؛ بعيدةٌ جدًا تلك الأمكنة التي لا نريد الوصول إليها. أُعلّق على ظهري حقيبة هايكنيـﮓ طويلة تمتد بارتفاع رأسي لتحدّ الفكرةَ من أن تنساب وينزلق العابر خلفي؛ ما كنتُ أفكر به لزجٌ كهلامِ يعيد تشكيل نفسه لا يمكن مسحهُ ولا الإمساك به. يقول بوذا “المتخلصون من الأفكار المستاءة هم الذين يتمكنون من إيجاد السلام حتمًا”، أما أنا فكنت أتخلص من السلام ويزداد استياء أفكاري كلما ابتعدت أكثر..
مشيت وأنا أقاوم رغبةً في التأخّر لأي سبب. لتوديع الأطفال الواقفين أمام الزجاج مثلاً، يراقبون الطائرات أو يرسمون الحروف الأولى من أسمائهم بسباباتهم وسط أبخرة أنفاسهم.
كل الأصوات في المسافة بين نقطة الفحص بالأشعة الكاشفة وبوابة الرحلة كانت تعنيني. كنتُ أستمع إليهم جميعًا يتحدثون بما أفهم، وبما لا أفهم، جهلي به لم يؤثر على درجة أهمية متابعة تلك الأحاديث، كنتُ مصغيًا وكأنه سيتم اختباري فيها بعد ساعة، سأدعى إلى قاعة جانبية ويطلب مني الدكتور ناكاياما إعادة المحادثة التي تمت بين العجوز اليابانية وزوجها عندما تجاوزا السير المتحرك وأشارا إلى كشك القهوة. كنت أتمنى لو أن أحدًا يوقف أعصابي عن التلاعب وينادي باسمي فقط، سألتفت وأجيبه مباشرة وأنا عائدٌ أدراجي دون أن أعطيه فرصة للاستدراك، سأفتعل نبرة المساومة: حسنًا، إذا كنتَ تصرّ وتعتقد أنْ ليس ثمة خيار، فسوف أؤجل الرحلة للأسبوع القادم، أو الذي بعده، لا يهم الوقت، سأؤجلها وحسب.. شكرًا لإخطاري!
وصلت إلى البوابة ولم ينادني أحد. جلستُ وعلى المقعد جواري حقيبة نسائية تفصل بيني وبين سيدةٍ ألمانية. لم أكترث أبدًا بحركة الحقيبة وصوت بكاء الكلب بداخلها، ففي النهاية، سيركب الطائرة وتُفتح الحقيبة ويجلس في حضن سيدته، وسينزل في فرانكفورت ويغادر المطار، وأبقى أنا على مقعد طائرةٍ أخرى أتخيله يضحك في صالة بيت ألماني بلا أسوار..
أعلن الموظف عن حلول موعد الصعود إلى الطائرة، فوقفت السيدة الألمانية ملتقطةً الحقيبة بحرص وخفّة، وجلستُ أراقب طوابير المسافرين تتناقص حتى خليت الصالة من الركاب عداي، وبكل تثاقلٍ وقفت، وتوجهتُ إليه. كان الخرطوم فارغًا، وبعد المنحنى سار باب الطائرة تجاهي. دلفتُ دون ألفت انتباه المضيفة، جلستُ على مقعدي، وأقلعت الطائرة بعدها بوقتٍ لم أدركه ولا يهم على أيّة حال. في تلك اللحظة، لحظة إقلاع الطائرة، بدأت أشعر بطنين حاد يعبئ تجويف رأسي حتى انطفأت إشارة ربط الحزام للمرة الأخيرة.
ثمانية أشهرٍ مرت منذ أن نزلت من الطائرة وأخذتُ أقنع موظف الجمارك بأن الهارد ديسك لا يحتوي على أفلام إباحية، بل على مواد علمية وبحوث ومشاريع عملت على تنفيذها طوال فترة دراستي. ثمانية أشهر مرت منذ أن استقبلني أخي وأخذ يحكي لي حجم الزحام الذي فاتني ونحن نتوسطه. ثمانية أشهر، تساءلتُ فيها كثيرًا عن الذي يمكن قوله في تدوينة حبقٍ حافي. طالت المدة، وكل الأسئلة تقود إلى ذات الإجابة، لا شيء يمكن قوله، وكل قول لا يكتمل بلا خاتمة.
لو أن للحبق الحافي رسمٌ بياني، لكان الزمن هو الخطّ الأفقي، وأحداث وبيئة هذه السلسلة التدوينية خطًا عموديًا، ويشكّل إقلاع الطائرة نزول المقياس الإحصائي ليقطع الزمن عند نقطة ثلاث سنوات وعشرة أشهر، يستمرّ بالنزول تحت الخطّ، حتى هذه اللحظة، حيث أجلس إلى مكتبي القديم فوق سطح البيت، بنفس الوضعية التي كنتُ أجلسها عندما كتبت معظم نصوص كتاب “احتمال وارد”، أشرب قهوة سوداء هذه المرّة، وأكتب هذا.
بالنسبة لي، ستبقى دائمًا تجربة مشوقة، استمتعتُ بها كثيرًا، أعني كتابة الحبق الحافي وأعني أيضًا الثلاث سنوات والعشرة أشهر، بالتأكيد. وحينما أفكر في محتوى هذه السلسلة، ألاحظ أنه ليس سوى عرض سردي يعجّ بالمكان وضبابية الحدث والانتماء، وحيرة الرؤية الشخصية، وصراع الهوية وسطوة اللغة. كما أن تخبطي فيه كراوٍ يشكل عنصرًا كبيرًا من فكرة العرض، كفأر التجارب الذي أُخرج من قفصه وأُدخل متاهةً ساحرة استمتع باكتشاف وتأمل الطريق فيها نحو الجبنة. وفي لحظة متأخرة من الوحدة داخل قفصه، وجد نفسه حائر فيما يمكن فعله بما يحمله من ذاكرة الطريق وجبنة النهاية.
لذا وكما كانت بداية سلسلة الحبق الحافي عن الكتابة كفكرة مجردة، فسأحرص على ألاّ يخلو محتوى نهايتها عن الكتابة نفسها، عن التدوين، وعن ردود فعلك عزيزي القارئ كمؤثر ومحفّز أول للاستمرار.
“التدوين مجرد محادثة مستمرة” أندرو سلفيان – مدوّن.
عندما بدأتُ بتدوين سلسلة الحبق الحافي، لم تكن المسألة سوى محاولة لبدء حديث مع صديقي الشاهين بعد أن غادرت الرياض ولم نعد نجتمع لنتحدث، كانت محاولة لتهييج جِلد الكتابة، لتهرش ذاتها، واستمرّ الحبق الحافي على شاكلة رسائل مستفزّة لذاكرة أشخاص وأمكنة وروائح وأصوات على الأرصفة وفي المقاهي.
أنا على يقين بأنه لولا ردودكم التي أشارت، بعفوية التعقيب أو بعمق الاستطراد، إلى أبواب جدد لنطرقها سويًا، ولولا حديث القراء والإيميلات التي وصلت ولازالت تصل مستفسرةً عن مستقبل الحبق ومكان حذائه الضائع ومصير الشاي، لولا الحوارات التي بُنيت أسفل كلّ مدونة لتوسّع محتواها وتمتدّ كنصّ واحد يتجاوز فيه القارئ أهمية المدوّن، لما استمرّت السلسلة، ولما وجدتُ نفسي الآن أبالغ في ترتيب نهايتها، وأجعل من جزئها الأخير قضية سردية ذات أهمية كبيرة في حين أنها مجرد قفلة سلسلة تدوينية باللغة نجحت في تسويق ذاتها رغم رتابة الحدث بها.
“المدونة هي نسخة غير مُحررة منك.” لوريل فانفوسن – مدوِنة.
وكما أن السلسلة استطاعت تسويق ذاتها وإقناع ذائقة بعض القراء، فهي في ذات الوقت، كأي نصٍ، جلبت من ينتقد محتوها. هنالك من يقول منتقدًا أن الكاتب في الحبق الحافي لم يقدم سوى تفاصيل أحداث حصلت له وكأنه يصنع أهميةً غير مستحقة لما يشاهده، يفكر به، ويعيشه. وهنا أنا أتفق مع ذلك تمامًا، ليس تقليلاً من شأن النص، ولكن لأن التدوين نشأ لهذا السبب. الحبق الحافي ليس سوى تأملات شخص عادي جدًا يجد في الكتابة أداة تعبيرية جيدة، وحصل أن سافر للدراسة في مكانٍ بعيد يحوي ثقافاتٍ متباينة وبيئة جميلة من وجهة نظره، والمصادفة الأخرى أن لدى هذا الشخص العادي جدًا مدوّنة قابلة لأن تعبأ بالحديث الذي يصف فيه مشاهداته متحررًا من الزمن في المساحة التي تصل بين ذاكرته وواقعه.
أتذكر ما كنتُ أشعر به عندما بدأت بالقراءة، أعني قراءة القصص والروايات، لم أكن أبحث عن العبرة أو الرسالة بقدر بحثي عن الصورة، كانت أحداث تتداخل مع ما أعيشه يوميًا وتلتحم به بطريقة غير مبررة، وتؤثر على نظرتي إليه، أتفاعل مع تلك الصور بدافع أنها جزء لم أشاهده في واقعي ومن السهولة أن أتخيله، السفن والبحار والغابات والمدن والأرصفة البعيدة التي يجلس حول طاولات مقاهيها رجال بربطات عنق، ويمشي على شواطئها نساء بقبعات مزينة بالورد، يتحدثون عن الخيول والحياة والسياسة والرياضة والحروب والفقر والمال، مخطئ من يسميها عوالم غائبة، بل كانت حاضرةً في رأسي وأستطيع تصورها من خلال نصوصها، وأتذكرها وأنا أجلس في حصة التعبير أو أقف أمام قبعة جدتي المصنوعة من الحصير، أتذكرها وكأنني عشتها.
جمال تلك القراءات القديمة كان في غياب المثال خلفها، المثال المتاح ابتكاره، الابتكار الذي سيكون زناد تذكر تلك القراءات. رغم أنني بالعمر ضيّقت متعة القراءة بكثرة الأمثلة الجاهزة والتي لا تحتاج إلى ابتكار، إلا أنني لا أزال أنظر لتلك الكتب القديمة بحنين. الحقيقة هي أنهم شاركوا في تشكيل ذاكرتي، ثقافتي ومخيلتي في وقتٍ اشترك فيه ما أراه وما أتخيله في عالم واحد، وأصبح لزاماً عليّ أن أحققه، ويكفيني أن أصنع ذات المتعة لشخصٍ آخر، أقولها بصدق، قارئ واحد يفي بالغرض.
شكرًا لمتابعتكم الحبق الحافي، ممتن لكم جميعًا، لقد كنتم أصدقاء أوفياء رغم كسلي وبطء حضوري. إلى أن يجمعنا الرصيف في لقاء آخر، وتدوين جديد.
This series is dedicated to N
سألني فيليبي في مكالمة طارئة عمّا يجدر به أن يفعل، وصوته يهتزّ بين ذاكرة طفولته التعيسة في البرازيل وحياة جديدة تتشكل بأحشاء صديقته.
– الأمر عائدٌ إليك، لا أعرف، هل تشعر أنك مستعدٌ لأن تكون أبًا؟
أجبته وصوتي يهتزّ بين دافعين متضادين: فزعة لصديق، وعدم القدرة على الإجابة في مواقف مشابهة، وقليلة هي المواقف المشابهة، ربما هو موقف مشابه واحد فقط: أن يشاورك صديق في مسألة حمل صديقته.
– لا أعرف.
أجابني وهو يستجدي حلاً آخر غير الأسئلة التي تبادلناها ككرة تنس في تلك المحادثة المربكة.
عندما تقرر البقاء في شيكاگو تعاملك بكرم، توفر لك الأصدقاء المقربين، ومفاجآت الفصول الأربعة، شوارع مخططة كما تشتهيها الذاكرة، وعمائر تفنن بنّاؤوها في تشييدها بعد أن احترقت شيكاگو في القرن التاسع عشر، خوّلتها لأن تكون عاصمة الهندسة المعمارية في العالم، حارات صغيرة يتحاور الشباب على ناصيات طرقها بالراب، وأخرى هادئة يعزف المتشردون على أرصفتها الساكسفون، مجانين في الباصات يتحدثون مع أيديهم، وشعراء يمثلون قصائدهم كمسرحية، مدينة ممتلئة بالملحميات. تباين ثقافي هائل، مطاعم مطابخها تمتلئ بأطباق من العالم أجمع، تجد كل ما ترغب في أكله، حتى اللحوح والدجرة أكلتهما في مطعمٍ أثيوبي هنا.
ثم عندما تنوي مغادرتها لمدةٍ لا تجيد عدّها ولا تستطيع التصريح بها ولو حاولت، يكفي أن تنوي ذلك، تتفهم شيكاگو رغباتك، تبدأ بسحب شرائح العرض بخفةٍ من أمامك، تفرغ المكان لك بالتدريج كي تساعدك على الرحيل، تسهّل عليك عملية نسيانها، لأن نسيانها سيسعدك في أي مكانٍ جديدٍ تختار، لأنك عندما تكون هناك ستعيش المكان في لحظته، وتبقي الماضي في درجٍ بعيد في الذاكرة، لا تحتاج أن تتذكره إلاّ عندما يهاتفك صديق، أو يجري طفل بطائرة ورقية من أمامك. شيكاگو تهتم بك وأنت بها، وتجهّزك لما بعدها.
يحادثني الأصدقاء، يخبرني بعضهم أنهم سيغادرون، ويخبرني آخرون أنهم غادروا. بيانكا سافرت إلى لندن منذ سبعة أشهر لتدرس الماجستير، ونواه في نيويورك منذ عام يدير مؤسسة إنتاج بدأها، فانيسا خُطبت وستتزوّج بعد أن تنهي دراستها العليا. أما فيليبي فيسكن مؤخرًا مع صديقته التي تعمل كخيميائية في معمل لتحليل الأدلة الجنائية. مؤخرًا لم أعد أشاهده كثيرًا، أخذته الحياة شبه الزوجية، بعد أن تركنا العزبة التي تشاركنا بها لعام عندما وصلت إلى شيكاگو.
هكذا تتفرق الصور، وتتبقى صور أخرى، تربطك بالمكان إلى اللحظة الأخيرة. كأصدقاء أيام الثلاثاء، نلعب البلياردو، وبين كل فوزٍ وهزيمة ندخن السجائر في الخارج ونتحدث عن مباريات البولز أو البلاك هوكس، عن خيول رجال الشرطة، وعن مدى مناسبة الجو لقيادة دراجة هذا الأسبوع.
ماذا تعلمت خلال الما يقارب أربع سنوات في شيكاگو؟ وهل أستطيع أن أقول أن ما تعلمته (هنا) صالح للحياة خارج (هنا)؟ على الحياة أن تقدّر أينما كانت، بأشيائها ولحظاتها التي نتجاهلها، صور المدن المهملة خلف زجاج نوافذكم أينما كنتم، تلك النوافذ التي تشكل لوحات فنية حيةً في بيوتكم، ترسم لكم الحارة لحظة الغروب، والحمام ينهي أخر دورةٍ له في سمائها، وأصوات العربات في الشارع وصياح الأطفال يأتي من بعيد، وعندما تفتحون تلك النوافذ تعلو أصوات الأطفال، وترقص الستائر مهدهدةً خدودكم، وتجتهد الحياة محاولةً لفت انتباهكم، لكنكم تبتعدون عن الشارع، عن النافذة، وتفكرون بحياةٍ أخرى، وتنسون حياتكم.
لقد تعلمتُ هنا أن أنصت إلى المكان، لأنني أكتشف الآن، وأنا أنصت لشيكاغو، أنها ليست سوى إناء آخر، كما هي العريجاء والشميسي، وكما هي جدة، وكما هي الطرشية، حواري وقرىً ومدن وأماكن وأماكن.
سأحيا تعيسًا إذا ما أسرفت الحديث في جلسات الأصدقاء عما يجري في اللامكان، في الإنترنت، عما كتبه الآخرون، أو ما قرأته مؤخرًا، أو شخصية رواية أو فيلم أعجبت بها. سأمرض حينها، سأحتاج لأن أتعالج من العيش بين الأوراق أو أمام شاشة، سأفتقد الناس الذين يسيرون في الخارج على الأرصفة، سأحتاج لأن أتمكن مجددًا من تقدير الحياة خارج الأسوار بنزقها، الناس في الجوار والمكان وما به هو الحقيقة، كل شيء آخر خيال لا يمكن أن يبعث على الرضا وإن تحقق.
أعجبتني مقولة للكاتب ضيف فهد في حوارٍ معه حيث قال أن الرواية يكتبها البلداء وأن “كاتب الرواية يحتاج لجلسات طويلة حتى ينجز رواية، كتابة الرواية أعتبرها للكهول، فأنا أستغرب من الشباب الذين يكتبون رواية ففي الحياة أشياء كثيرة أستمتع بها بدل أن أضيع الوقت في كتابة رواية.”
كيف تعطينا الحياة نصيبنا منها إذا لم نبنِ تفاصيلها، إذا لم نحدّث حالتنا معها كل خمس دقائق تمامًا كما يفعل البعض على الفيسبوك؟ كي تسعد تحتاج لأن يكون حضورك حقيقيًا، لا أن تصور نفسك وحيدًا بيدك اليمنى وتضع اليسرى على خدّك، لتعرضها على صفحة ويب، لم يفتقدك أحد هناك على فكرة! أين هم من يفتقدونك؟ قد يقصف برقٌ برج الاتصالات، يختفي ذلك العالم وتكتشف أنّك وحيد.
– أنت تتحدث ثلاث لغات، ولديك خبرة في الحسابات، لماذا لا تعود إلى البرازيل، تعمل في بلدك لفترة، وترجع إلى أمريكا عندما تتحسن أمورك؟
اقترحتُ عليه ذلك بعد يومين حيث أخبرني أنه كان حملاً كاذبًا، وأنهما يفكران بالانفصال، وأنه قلق بخصوص وضعه القانوني في البلد وعدم قدرته على تجديد الفيزا أو الحصول على بعثة في جامعة حيث يتمكن من إكمال دراسته بالمجان.
– ليس لدي شيء لأعود إليه، لا أحد يفتقدني هناك.
قال ذلك، وتركني أتساءل: ما العودة؟
العودة، فكرة خادعة. متى نستطيع أن نستخدم فعل العودة عند الحديث عن ذواتنا؟
هل البدء من النقطة (أ) والانتهاء في النقطة (ب) يمكننا من ذلك؟ أي هل تستطيع أن تقول أنك “عائد” عند السير من (ب) إلى (أ)؟ ماذا لو شعرتَ أنّ وجودك السابق في (أ) مجرّد تجهيز للوصول إلى (ب) حيث بدأت ووجدتَ نفسك. ثم عندما تذهب إلى (أ) أنت في الأساس لا تعود، بل تغادر (ب) حيث تظل طوال عمرك تفكر بالعودة.
إلى أي الاتجاهين نعود؟ ومن أخدع عندما أقول أن شيكاگو مجرّد إناء؟ أخدع نفسي قبل أن أخدعكم. عذرًا، فأنا أعدّ أيامي الأخيرة هنا، وأحاول التصالح مع الفكرة، أحسب عدد الذين أفتقدهم ويفتقدوني هنا وهناك، وإلى اللحظة لا أدري في طريقي إلى أيّ الاتجاهين أستطيع أن أقول أنني عائد؟
ترحيب متأخر بعبد العزيز
كان في مكان ذلك الباب الذي يخيفك يا عبد العزيز جدارٌ يفصل بين بيتنا وما يقارب الثلاثة عقودٍ من تاريخ منطقة وشعوب، ولأجل التاريخ يُفزعك الباب، فتاريخنا حزين يا ولد أخوي.
أذكرُ، يا سيّد عزيز، وعمري سبع سنواتٍ عندما كنت أجلس على ذلك الجدار الفاصل بين حوشي الشقتين، ويدخل حاملاً كومبرسور عاطل وكرتون طماطم مثلاً، يضع العدّة على طرف حوض الشجر جوار دينامو الماء، وأفاجئه بصوتٍ حاد: عمّ محمد نجحت، فيعطيني عشرة، أمسك بهدية النجاح، وأفكر: عندما أكبر سأعمل ميكانيكي.
العم محمد هو أبو هناء ومنى وعبد الجليل، آخر مرةٍ شاهدتُ فيها عبد الجليل كان في عمرك. والده يمني الجنسية كان يعمل في السعودية منذ بداية السبعينات وخلال عشر سنوات أصبح مالكًا لورشتين على شارع أجياد. كان يستأجر، هو وعائلته، الدور الأرضي من بيتنا منذ أن انتقلنا إليه في منتصف الثمانينات. أذكرهُ جيدًا، حملت ملامحه بعضًا من تفاصيل الممثل المصري يحيى الفخراني بعينٍ أفتحُ لونًا من الأخرى، أذكرهُ يمدُ العشرة ريال وتخرج هناء تبعًا للأصوات في الحوش، ثم يدخلان وأبقى أنا سعيدًا على الجدار، كخيّالٍ حافي القدمين على حصانٍ يفصلُ بين حوشين.
ما هي إلا بضعُ سنوات يا عزيز حتى جاءت حربُ الخليج. ووجدَ العمّ محمد نفسهُ منبوذًا، ولا تسألني لماذا، فلم أكن بعد أفهم في السياسة، ما فهمته هو أنه كان يشعر بالغربة، فغادر. لقد حاول والدي إقناعه بالبقاء جاهدًا، ولكنهم أخذوا حقائبهم وخرجوا، وحصاني جامدٌ في مكانهِ لا يتحرّك.
بدأت حرب الخليج وخليت الشقة، كنّا نجتمع في صالتنا وصافرة الإنذار تهزّ الهواء والقلوب والجدران، في مدينةٍ صامتةٍ إلا من صافرة إنذار، والتلفاز يخبرنا بأن نختبئ وأن ثم خطرٌ في الفضاء، وكمامات تُركب فيها فلاتر بشكل عبوات جبنة كرافت، تتحلّق الكمامات على وجوهنا جبرًا، ننظر لبعضنا من خلال درابيل، ننظر إلى النوافذ المغطاة بالشرائط اللاصقة، ننتظر، ولا شيء يحصل، وفي مرةٍ أخرى قد تهتزّ العمارة، فنصمت، ثم لا شيء يحصل. وهكذا حتى اعتدنا على سماع قصص صواريخ سكود وباتريوت في الشارع، وبين الكبار، وصار الكاريكاتوريون يستخدمونها في رسومات الصحف، وأصبحنا نصعد مع عمي ووالدي، أقصد جدّك وجدّك، فوق السطح لنشاهد بطلي الحرب، يتقابلان في الفضاء وينفجران، كالألعاب النارية.
وفي صباح يومٍ من تلك الأجازة التي امتدت لأمد، قرع الباب رجلٌ أربعيني، فتحتُ الباب فأخبرني أنه أبو سعد، وأنه يرغب برؤية والدي. تخيّل يا عبد العزيز، بعد ذلك بأسبوع، كانت شقة العم محمد مسكونة من قبل عائلة أبو سعد وأبنائه. كانوا قد شردوا بسيارتهم الكابريس بعد دخول جيش صدام إلى الكويت، وعندما وصلوا إلى الرياض، سكنوا في مدرسة، ثم جاؤوا وحلّوا في الجهة الأخرى من الجدار، ولم أتجرأ بتسلقه، فلأبي سعد فتيات أحرج من مواجهتنّ، لقد كانتا غريبتا الأطوار، بالإضافة إلى فارق السنّ، كنّ أكبر، ولم أكن بعد قد تعلقت بالقراءة كي أتعرف على ستيفن فيزيتشيي و”في مديح النساء الأكبر سنًا”، كن ينادين القطط الجائعة التي تمشي على سورنا بـ “هيييه.. بوسي.. بوسي.. بوسي” ههه أذكر أنني أخبرتُ أخي سلمان، أعني والدك، بأن عيال أبو سعد يتحدثون كأفلام الكرتون!.
ثم مرت الشهور، وغادروا، عادوا إلى بلدٍ يستطيعون فيه أن يقرروا، ورغم أنه أمرٌ سياسي، وكان من الممكن ألاّ أفهمه، لكنني تعلمت فهم السياسة بعد أن غابت هناء ومنى، السياسة هي أن تقرر من يرحل ومن يبقى خلف الجدار. ربما هناء ومنى متزوجتان، ربما لدى إحداهنّ طفلٌ يجلس الآن على جدار في قريةٍ ما، يبحث عن مدرسة أو عن عمٍّ يدخل من الباب بعشرة ريالات.
وفرغت الشقة لفترة، ثم سُكنت، ثم فرغت، ثم سكنها أخيرًا والدك، وهدّ جدّك الجدار القديم، وفي مكانه نبت الملحق وخرج الباب الذي يخيفك، ومن تلك الشقة التي سكنها تاريخ خرجتَ أنت يا عبد العزيز، وجئت مع الفرح للعالم حينما علا صوت الشعوب، فمرحبًا بك.
هي الوتر الذي يخلق فكرة أجمل في مخيلتك وأنت تقرأ، العاطفة وتر “الشرارة” لو كانت الكتابة عود، وفي هذه المعزوفة، صوت “الجواب” يحتاج إلى إعادة دوزنة.
وكأن الليل بحّار، أو هكذا أشعر، يطوي شباكه فارغة في صدري بعد يومٍ كامل من الصيد، أسمع الآن خطواته على الرصيف الخشبي يمشي بقرعِ الخائبين. يأتي النهار وأخرج إلى زحمة، الكل ينظر للأعلى وكأنهم يتوقعون سقوط شيء، ولا شيء يسقط. أقود دراجتي وأحيي ساعية البريد، تخبرني أن على الجيران الجدد كتابة أسمائهم على الصندوق، أخبرها أنني لا أكون موجودًا في النهار كي أبلغهم ذلك، أعيش النهارات بما أتظاهره من سعادة، ثم أعود وأقابل الليل عائدً من البحيرة، نصل سويًا، يَسقط مفتاحي فيلتقطه قبل أن يلمس الأرض، ندخل إلى الشقة، أخلع معطفي ويعلقه الليل على الشماعة. ثم تهزّ ساعية البريد كتفيها، وتقول، لقد تركت لهم ملحوظة على أية حال، وتغادر.
يختلط الزمنُ فيما أحكيه، وتفتقد الأحداث منطقيتها. ولا أحتاج إلى منطقٍ في هذا الليل، إنه يقرأ لي حكاية ما قبل النوم، ولا أتمكن من النوم، لستُ معتادًا على الاستماع إلى حكاية لأنام. والنوم لا يأتي على أية حال. سألتني الدكتورة أنبور: “هل لديك صعوبة في البقاء نائمًا، أم صعوبة في النوم؟” قلت الثانية. “ما اسم الحبوب التي تستخدمها؟” ميلاتونن. وتحوّلت الدكتورة إلى محقق، “هل لديك أقوال أخرى؟”. ثم يشعل سيجارة ويمدّها إلي. أجبت: أرغب في توكيل محامٍ. فيضحك، ويقول: ابني، هذا أنا. ثم يتصاعد للأعلى ويعطى السماء صفة الليل.
وتذكرتُ أنني لا أستخدم دراجتي في الشتاء، وأن ساعية البريد لم تعد تقف لتحدثني عن الجيران، تخاف أن تنكسر رئتها وهي تضحك. السيجارة والشتاء يجعلان من فمي مدخنة وأنا أقف في الخارج، أنتفض، ويتساقط الرماد على عتبة الباب ويخبر الثلج بأنه للتوّ كان سيجارة، ولا يصدقه الثلج أو أن التفكير في ذلك يتعبه، فهو أيضًا يتوقع ذوبانه في أية لحظة.
ثم أعود إلى الداخل، ويتبعني الليل، أخبره أنه أدى دور المحقق بحرفية عالية، فيتظاهر بعدم الاهتمام وكأنه معتادٌ على الإطراء، يأخذ مني شباكه الفارغة، مطويةً كما يجيء بها. أتمنى له رحلة صيد جيدة، أسمع قرع حذائه على الرصيف الخشبي. يدخل النهار وأخرج إلى زحمة، الكل ينظر للأعلى وكأنهم يتوقعون سقوط شيء، ولا شيء يسقط.
إلى شيكاگو.
أول حبقٍ أكتبه من الرياض يا شيكاگو، أوجهه إليكِ كيلا يشذّ عن رتم هذه السلسلة أو أُتّهم بالخيانة. من حجرتي فوق سطح البيت، حيث أطلقتُ اليوم بلبلين، كانا محجوزين في قفصٍ صغير بصالةِ المنزل قبل أن أصل، غُطي القفص بقطعةِ قماش ليظنّا أنه الليل ويكفان عن تغريدهما عالي الصوت. عندما شاهدتهما، شاهدتُ فيكِ طاولات مأهولة، وطيور تأكل نثرًا يتساقط من كعك الجالسين وتعود للتحليق، ثم فكرتُ في إمكانية رسم ببغاء يقرأ جريدةً على صوفا، يرتشف الكيف من غليون، وخلفه يتعلّق قفصٌ صغير، يجلسُ داخلهُ طفلان لا يكفان عن بكائهما عالي الصوت.
ذهبتُ إلى البطحاء صباح اليوم للمرة الثالثة مذ جئت، جلستُ إلى طاولةٍ بلاستيكيةٍ بيضاء بعد أن استلمتُ ثوبي من الخياط، شربت شايًا وأزقةً ملتوية عتيقة، ساحةً كبيرةً، حمامًا كان يلقط نثرًا على أرضها، باعةً يحرِّجون على بضائع بأسعار الفرص التي لا تعوّض، تحدثتُ مع صديقي مطاعن عن اللحظات التي نعبرها ونحنُ نفكر في لحظاتٍ لم تحن بعد، نعبرها دون أن ندرك أن ثمة حمامًا يلتقط نثر الحبوب في ساحة أو باعةً يلحنون بأصواتهم معزوفة “وسط المدينة”، أو لحظات حميمة لم أجدها في قائمةِ لحظاتكِ الجميلة يا شيكاگو.
أتنفسُ الرياض كما لم أفعل، يجففني هواؤها، أتحدثُ للأصدقاء القدامى ويتساقط قشر شفتي مع الكلام، فلا أفهم ما أقول ولا ما أريد. ثم تتبدّين يا شيكاگو كذاكرة الليلة الأخيرة فيك قبل أن أحلق ذقني، أغادرك، أطير لساعاتٍ ثم أصل الرياض وقد نبتت. طويلةٌ هي المسافة بينكما كطول الجدل الدائر في فكري، بقاءٌ فيكِ أجدى أم أتابع الطيور في وسطِ مدينةٍ حميميةُ لحظاتها لا تشبهك.
طار البلبلان، وأخذا يتنقلان فوق سطوح بيوت الحارة، يقف أحدهما على خزان منزل الغُمّد، ويغرد بصوتٍ لم أسمعه من قبلٍ للآخر الذي يقف على سور القحاطين، فيحلقان للأعلى ويخيطان من السماء مسافةً إلى سطح جارٍ جديدٍ لم أجد اسمه في قائمةِ الذاكرة القديمة. أبي يقول أنهما لن يتمكنا من النجاة في المدينة، لن يجدا ما يأكلان. شعرتُ بالأسف، انتظرتهما، علهما يعودان، تركتُ لهما الحبوب والماء والقفص مفتوحًا في مكانه، غابت الشمس، ولم يرجعا. انتصف الليل الآن يا شيكاگو، صمتت الرياض، وجاءت أفكارهما برفقةِ نسمة: ننفقُ في مدينة ولا نحيا في قفص.
إلى بدر السماري.
كيف هو الإدرينالين في دمك يا بدر؟ بعد المقلب العاطفي الذي قام به الهلال خلال مباراة الإياب مع الغرافة!. عمومًا، أنا لم أتمكن من مشاهدة المباراة في وقتها، كل ما شاهدته هو الأهداف على اليوتيوب.
أكتب لك الآن يا بدر والبخار جوار الشاشة يتصاعد من كوب شايٍ أحمر. نثرتُ عليه قليلاً من الحبق، النادلة راقبت المشهد ولم تستغرب، لم تسألني عن هذه العشبة، ربما لم يعد الأمر غريبًا كما كنت أعتقد. ثمة حركة هيبية جديدة تدفع الكثير من أفراد المجتمع لاستخدام الأعشاب، لو سألَتني، لربما أخبرتها أن الحبق يخفف من حساسيتي ضد القطط، وقد تعتبر هي أن إجابتي هذه أكثر منطقيّة من مجرد أن الحبق يساعدني على الكتابة!.
أجلس الآن في مقهى أرغوتي، على يميني حاجز زجاجي مطل على شارع راندولف، وأمامي قفا امرأةٍ سمينة جدًا تجلس إلى الطاولة المقابلة، نجحت في حجب كل ما يدور في الأمام، إنها مثل منديل الساحر، يغطي به ما يظهر من القبعة، المنديل كبير جدًا، القبعة باب المقهى، والأرانب ملونة وكثيرة. في الجوار مدرسة فنية، لذلك ثمة الكثير من الأرانب الغريبة بشعر وردي وأخضر وملابس لافتة للانتباه. هذه الزاوية من الداون تاون تقع بين مسرحين سنمائيين، أحدهما “راندولف ثاييتور” والآخر “جين سيسكل فيلم سنتر” وما يهم هنا هو الثاني لأنه غالبًا ما يعرض أفلامًا أجنبية، هذا الشهر، أكتوبر، هو مهرجان الأفلام الإيرانية.
أشعر بالأسى على الشاب الذي يقف على بعد عشرة أمتار تقريبًا خلف الزجاج، حاملاً ملفًا كُتب عليه “Children International” معترضًا طريق المارّة، ويلقي على أسماعهم هذه الجملة بشكلٍ رتيب ومتكرر:”هل تسمح بدقيقة من وقتك لإنقاذ أطفال العالم؟” ربما لم تلتق بأحد هؤلاء الأشخاص مسبقًا يا بدر، موظفون في الشوارع، يعملون لمنظمات ذات شعارات رنانة مختلفة على جمع التبرعات. مندوبو مبيعات إن صحّت تسميتي، ولكن سِلعهم هي القضايا الإنسانية، البيئة، حقوق الحيوان أو منظمات تروّج أيديولوجيات مختلفة. يتوزعون على أرصفة الداون تاون وما جاورها بشكلٍ منظّم. تصادف الكثير منهم وأنت تسير. تشاهدهم على نهاية الرصيف جوار محطة باص، أو علامات عبور المشاة، فتحاول التملّص والانتقال إلى الرصيف المقابل، لتجد شخصًا آخر يحمل ملفًا مختلفًا بانتظارك هناك، ويلقي على مسمعك: “هل لديك دقيقة لإنقاذ الأرض؟” فتقول له: “إنني أعمل حاليًا على إنقاذ نفسي من التأخر عن المحاضرة!” وتسير على خطٍّ متقوّس حوله مبتعدًا، وكأنك تحاول ألاّ تسقط في بركة ماء. وتشعرُ بخيبته التي يواجهها ألف مرة في كل يوم، حتى يصبح وقع الخيبة على نفسه كسماع التحيّة، لا تأثير لها، ويواصل ممارسة عمله، أفكر أحيانًا كيف ستكون حياته مستقبلاً، كيف سيتمكن من صنع ردة فعل مناسبة لدى سماع خبر سيئ!. لا أستطيع أن أتخيّل نفسي في مكان أحدهم، أحترم شعاراتهم وقضاياهم، ولكني لا أتقبل فكرة ممارسة الاستجداء، لذلك أشعر بالأسى والخيبة من مجرّد متابعتي لهذا المُلَقَن الذي يقف الآن خلف الزجاجة مباشرة، حاملاً ملفًا كُتب عليه “Children International”.
لنعد مجددًا إلى الهلال، لست متأكدًا إذا ما كان تشجيعي له جاء بقرار، أي أنني لم أستيقظ يومًا ما وأقرر أنني هلالي، لقد تشكل الهلال بي على مراحل. ربما، عندما بدأ أخي الأكبر سلمان بالكلام سألَ والدي عن حقيقتها فقال له أنها “هلال” ثم تبرع بتعليمي ذلك، أما الشيء الأكيد هو أنني وأخي سمينا الكرة “هلال” ونحن نركلها بين الحجرات وعلى سطوح بيتنا الشعبي، حتى تعلمنا الخروج إلى الشارع واللعب بها والالتقاء بأطفال جدد يسمونها “كورة”! ثم أذكر أول فوز شاهدته كاملاً بعد ذلك، وراقبت والدي يتفاعل معه بحماسة وعاطفة مثيرتين، حين فاز الهلال ببطولة الأندية الآسيوية بمنتصف الثمانينيات، حصل الشاب العشريني يوسف الثنيان على جائزة أفضل لاعب، وبدأ الهلال بالتشكل في ذاكرتي بصورته الجديدة. وعندما تعلمتُ التعليق أثناء اللعب، كنتُ أردد عبارة “ويعدي يوسف الثنيان، من الأول، من الثاني”، ورغم أنّه لا وجود لأشخاصٍ أتعداهم!! مسألة ابتكار ثالث ورابع مسألة سهلة، إلاّ أن حوش بيتنا لم يكن طويلاً لدرجة تسمح لي بأن “يعدّي يوسف الثنيان من الثالث والرابع” كما فعل كثيرًا.
إذن كان الأمر مجرد مغالطة لغوية، ومشكلة تلك المغالطات في مراحل عمرية مبكرة أنها تتركُ أثرًا بالغًا في مؤخرة الرأس أكثر مما تخلفه حجارة أولاد الجيران. تبقى كحقائق صغيرة لم يتح لها الواقع فرصة للنمو، ولكنها لا تزال هناك، وتعني الكثير. أعرف شخصًا كان يظن أن لون “الأعمال” بُني لأنه سمع حديث “إنما الأعمال بالنيات” من خطيب الجمعة، وظنّ أنّ لون الأعمال بنّي، فحرفي الألف واللام غير منطوقين، والمسكين ظنّها “الأعمال بنيّات” حتى قرأها في أحد واجبات الحديث صف الثاني متوسط!. قد تقودني الثقة إلى المقامرة على أنه، ولحد الآن، كلما سمع كلمة “أعمال” يتشكل اللون البني في مخيلته. تمامًا كما أنني أفكر في الهلال ثم سحبات أبو يعقوب، كلما شاهدت كرة.
رغم أنّ والدي قادمُ من قريةٍ فادحة الجنوب، إلاّ أنه جاءَ هلاليًا بالفطرة فلا أبواه نصّرَواه أو أهلواه، ولا تأثر بمجتمع، حيث الأهلي والنصر يسيطران على غريزة التشجيع لدى أفراده، ثم يأتي الاتفاق الذي امتلك أسهمًا أفضل من الهلال في الجنوب حينذاك. لا أعرف لماذا ارتبط الهلال، بدًا عن بقية الأندية، بالسُلطة، الأمر الذي جعل تقبله يختلف عن تقبل الفرق الأخرى التي بالتأكيد ستمثل الشعب بعمّاله وكادحيه، رغم أن النصر والأهلي أندية مُدارة من قبل شخصيات تنتمي، بشكلٍ أو بآخر، للسُلطة أيضًا. أنا لا أعرف السبب، ولكنه حتمًا سيكون سببًا من تلك التي تقوم بالتأثير الجمعي، كما حمل هؤلاء ذاكرة جمعية أيضًا، وحقيقة أن يصلهم سبب يقنعهم بأن الهلال يمثل السلطة، أمر كفيل بأن يجعل من عملية الإعجاب بهِ رضوخًا في مجتمعٍ ثائرٍ لم تكن جراحه قد برأت بعد.
رغم البعد والحياة القرويّة، هم يملكون ثقافة كرويّة هائلة، فلا زلتُ أذكر حجرة أحد أقربائي، الذي يشاهد الآن بملل بلنتيات سنوات عقده السادس، أتذكر شكلها جيدًا، فلو دخلتها الآن لقلت أنها حجرة قروي من إحدى الدول اللاتينية ربما. أذكر شكل الكؤوس –رغم أنها كؤوس بلاستيكية خفيفة مطلية بلون ذهبي يلمع بتواضع طاقية زري- والميداليات على جدران بدون دهان، ورفوف خشبية لا تزال تحكي عمر أشجارها بتلك الحلقات الظاهرة على سطوحها، وصور من مجلات للاعبين من دول لم تعبرها رحلات الشتاء والصيف، تلك الدول التي أجزم أن قريبي القروي لم يهتم بمعرفة شيء عن طقوسها عملاتها وأعداد سكانها ومدى اهتمام شعوبها باتجاه القبلة، فما يهمه هو أرقام وأسماء لاعبيها وألوان قمصانهم، وفي وسط الحجرة بوستر كبير لبيليه وإلى جواره صورة ماجد عبدالله وهو يجري رافعًا ذراعه اليمنى، وتتوزع في براويز صغيرة صورهم، هو وأفراد فريق القرية، ربما تعرف تلك الصور يا بدر، التي ظننتُ وأنا أشاهد أمثالها في مراحل مختلفة في الحياة أنها الطريقة الوحيدة المسموحة لالتقاط صورة في ملعب، وهم يترتبون في صفين بسراويلهم القصيرة جدًا وابتساماتهم المفرطة في تعبيراتها، الموجهة للرجل المحظوظ صاحب الكاميرا -فأنا أعتقد أن من يمتلك كاميرا في ذلك الوقت يعد رجلاً محظوظًا وذا حظوةٍ اجتماعيّةٍ مرموقة، إذن فهو يتفضل بالصورة عليهم، ولذلك فإن ابتسامة المتموضع أمام الكاميرا في الصور القديمة تحمل نوعًا من الامتنان إضافة إلى السعادة- يجلس صفّ في الأمام على أطراف أصابع أقدامهم، ويدٌ تتخلل الركبتين وتتكئ على الأرض والثانية على باطن كوع الأولى ما عدا الحارس، فهو يحتضن بها الكرة، صفٌ آخر يقف خلفهم، محملين أذرعتهم أكتافَ مجاوريهم، ينظرون جميعًا إلى الكاميرا بشعورهم الجعدة والطويلة كطول سلسلة أجنة أسلافهم الذين تبعثرت جدائلهم على رقابهم وفي الفضاء حول رؤوسهم وتخللتها أغصان الحبق والريحان لمئات السنوات.
ثم جاء والدي الهلالي من هناك..
وأشهرتُ هلاليتي على يده. أنا أكن لوالدي الكثير من الاحترام لأسباب كثيرة، أحدها تأثيره غير المباشر في قرار تشجيعي للهلال. ثمة أمور لا تستطيع تقريرها وأنتَ صغير، قد تخطئ، ويكون من الصعب التراجع. التشجيع أحدها. والحمدلله إني هلالي :).
أشعر بالأسى على جماهير الأهلي. لدي الكثير من الأصدقاء الأهلاويين، الحقيقة، أن رفيقي في السكن، موسى، أهلاوي حتى النخاع، ولا أعرف سببًا لتشجيعه للأهلي سوى العامل الوراثي، كما حصل معي بالإضافة إلى عاملَي لعبة اللغة وأبو يعقوب. قلت لموسى قبل يومين “أعتقد أنك لو تشجع الهلال ستحل جميع مشاكلك”. الحياة في بلدنا صعبة وقاسية، بدءًا بقساوة طقسها وانتهاءً بقساوة المجتمع، السعادة عنصر غائب في كثير من مراحلنا العمرية، والأهلي لم يحقق أي بطولة خلال سنوات طفولته ومراهقته، أعني موسى، وهذا أمرٌ محزن جدًا، لذلك لن أتوانى أو أتردد في التوقف إذا ما رأيت شخصًا على الرصيف يسأل: “هل تسمح بدقيقة من وقتك لإنقاذ جماهير الأهلي؟” حينها سأقف وأبذل قدر استطاعتي، لأنني أعرف الكثير منهم ويهمني أمرهم جدًا.
“ليس بلدٌ أحق عليك من بلد، خير البلاد ما حَمَلك.”
“الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربةِ وطن.”
علي بن أبي طالب.
– مع السلامة، سوف أتصل بك وأدعوك إلى العشاء قريبًا!
قالتها بلكنتها اللبنانية التي أرهقتها سنين البعد عن شرق الأرض العربي وأحدثت فيها شرخًا صغيرًا، ثم طلتها لغات العالم بطبقة من هيبة. أما هي، وخلال عشرين دقيقة من الحديث، فلم تبدِ أيّ ندمٍ على أيّة شروخ ولا على سنوات العمر التي قضتها مغتربة، بدءًا بالعيش لبضعة أعوامٍ في الرياض بسبعينيات الحروب الأهليّة التي نهشت لبنان، مرورًا بهونگ كونگ وعقدين من الزمان، وانتهاءً بشيكاگو. رغم طول الترحال، لا زالت تتنفس الحياة وتبتسم كزهرة، وتوزع سعادتها كمزرعة، وتتحرك بخفة ورقة قصب خضراء، وتركب القطار في ظهريةٍ لطيفة، وتجلس إلى جواري، ثم تخبرني أنني أول عربي تتحدث معه منذ أن جاءت إلى المدينة قبل ثلاث سنوات.
نظرتُ إليها وهي تنزل في محطّة “مونرو”، بدت شابةً يافعة، تسير على رصيف المحطّة، وجسمها الرياضي الذي قيّفته مهنتها كمدربة يوگا لا يوحي أبدًا بسنها الذي لا يقل عن سن أمي بل يزيد. مع صرير المعدن القديم التقت صفيحتي باب العربة لتبتلع صورة امرأة لبنانية تسير في زحمة المحطة بشعرها العربي المجعّد، ورموشها الطويلة، بطول موجات عواصف الرمل، وتاريخ جيناتنا العربية التي شكّلتها الصحراء، كانت تسير وتتبعها هالةٌ من الوقار.
وتحرّك القطار..
وأنا أفكر بمدينة..
مدينةٍ تخلق سيناريوهاتٍ كهذه، بدقة وتسلسل أحداث مشوّق، مدينة تُشعرك أنها مصنع شخصياتِ القصص والروايات والمسرحيات الملحمية الرائعة، هنا يتم تصنيعهم وتجميعهم وكتابتهم، ثم يعيشون قليلاً في خيالات القرّاء، وبعد أن ننهي القراءة ونقول يا إلهي ما أروع هذا الكتاب، يعودون إلى شيكاگو!
ونزلتُ في المحطة التالية.
لا شيء يمكن توقعه في شيكاگو. يقولون هنا: “إذا لم يعجبك الطقس، انتظر خمس دقائق وسيتغير.” ربما أن الاحتباس الحراري مؤخرًا جعل الأرض كلها تشترك في هذه المقولة، ولكن لا شيء يمكن توقعه في شيكاگو. مدينةٌ تضمن لسكانها أحقية أن يعيشوا كأطفال، يسيرون وما حولهم يفاجئهم. حتى نتائج فريقي البيسبول “كبز” و”وايت ساكس” لا تجعل من المقامرة عليها أمرًا سهلاً، فهي دائمًا على غير العادة، لا أعتقد بأن ثمة عادة في هذه المدينة.
كثيرة هي تلك الأيّام التي عندما تستيقظ في صباحاتها تفكر: “هنالك أمرٌ مختلف سيحصل اليوم.” تشعر به. ربما كان السبب حلمًا لا تتذكره. في الحقيقة، رغم الفضول والرغبة بمعرفة أسباب وطريقة حدوث ما يحدث، إلاّ أنه عندما يتعلق الأمر بالشعور كفكرة، فلا حاجةَ لنا بمعرفة الدوافع، لأنها في النهاية فكرة، ونحن كائنات مفكرة. الشيء الذي جعلنا نتفوق على الحيوان ليس التفكير بل القدرة على تطبيق الفكرة، والسبب الذي جعل الحيوان يتفوق علينا في فهمه للطبيعة هو ثقته بالفكرة التي يشعر بها، لذلك تختبئ الطيور قبل العاصفة، وتنبح الكلاب قبل الزلزال. نحنُ أيضًا كائنات معقدة، نتنبأ بأشياء قبل حدوثها، نشعر بأمور تحدث في أماكن بعيدة، نعرف أن شخصًا ما في الكون يتحدث عنّا عندما نهرش جلد سيقاننا. نفكر بأشخاص نفتقدهم ثم تهتزّ جوّالاتنا ونشاهد أسماءهم على شاشاتها، ونجيب بكل سذاجة: أعماركم طويلة، للتوّ فكرنا بكم. ثم نسألهم عن حالهم! ولا نتوقف قليلاً عند تلك الفكرة التي خرجت من رؤوسنا كموجة أسرع من موجة اتصالٍ لا سلكي، واهتزّت في رؤوسهم، وحملتهم على الاتصال بنا، لأسباب يختلقونها في لحظتها، أسباب يفهمونها جيّدًا، ويتركون مالا يفهمون دون مساءلة، ويسألون عن أحوالنا!
كان يومًا من تلك الأيام.
– أجد صعوبة في تذكّر اسم الحيّ الذي سكنته أثناء تواجدي في الرياض.
قالت ذلك، وهي تفرقع أصابع ذاكرتها، وتغيب مع صور لا أرها، انتقلت حدقتاها إلى يسار عينيها، وأخذت تستمتع بمشاهدة مدينةٍ لا أتذكرها، فأنا لم أكن قد وُجِدتُ بعد، كنتُ في مستقبل والدي، أجلس على قارعة الطريق، أنتظر قرار نومه تلك الليلة.
– حسنًا، أنا أعرف أحياء الرياض القديمة، لم تكن كثيرة سوف أعددها، ربما أساعدك: الشميسي، العود، الخزان، منفوحة، الملزّ، العريجـ..
– الملزز، يا الله..
قالت يا ألله.. وتنفستْ معها رائحةً قديمة، وغابت.. تشاهد صورًا حميمة، بعيدة، ولا أعرفها.
ماذا يدور في خلدكِ سيدتي؟ كيف هي المدن بداخلك؟ كيف هي لبنان؟ كبيرة ومليئة بالجبال والزيتون وفيروز؟ يا لهذا السلام الذي تصنعه بداخلك المدينة التي تحملينها معك إلى كلّ المدن. أعرف ذلك الشعور، أشعرُ به أنا الصغير الذي يجلس إلى جوارك ويشاهدك تتنفسين الجبل، وتتحدثين فيروز، شكرًا على مشاركتي بعض الزيتون يا سيدتي الكريمة.
كوب شاي، جبنة وبعض الفول والخبز والزيتون، هذا كان عشائي خفيفًا في الليلة التي سبقت ذلك اليوم. ولهذا استيقظتُ خفيفًا كصفحة واحدة، وممتلئًا بالحياة ككتاب، وبي رغبة بالخروج ملحة. وجاء عزيز بعد أن قضى مساء الأمس يعمل على تضييق قميص موسى الواسع، وموسى ليس راضيًا عن المقاس الجديد، نظرتُ إليهما يتجادلان، فجأة تحوّل موسى إلى يحيى أمقاسم وتحوّل القميص إلى بروشورات معرض الكتاب بالرياض 2006، وكان عزيز يقول ليحيى: “هذا التصميم اللي طلبته أنت!” ويحيى يقول:
“استريح!”
واسترحتُ قليلاً جوار كوب ماء وبيدي أول سيجارة.
فتحت الإيميل لم أجد شيئًا جديدًا غير رسالة من الملحقية الثقافية بواشنطن عن وظائف شاغرة في جامعة تبوك. دخلت الفيسبوك، واستفتحتُ باقتباسٍ لرياض الذي لا يزال يمارس دور لقمان الحكيم وينشر حكمةً كل يوم. لقد تحوّل رياض إلى ملمح ثقافي جيّد، أشعر أن الغرض من السيناريو الذي جمعني وعرّفني عليه قبل سبع سنوات، هو توفير رياض كصديق قريب جدًا، وكفكرة جيدة وإيجابية ذات رسالة قيمة وإن اختلفت قوالبها. قراءة ما يكتبه رياض في الفيسبوك يذكرني بما كان يُكتب خلف صفحات تقويم أم القرى، اقتباسات أفلاطونية ومعلومات جيدة ولقمان وابنه الذي كان يستمع كثيرًا. بالنسبة لي كنت أستمتع بقراءة ذلك، وكنت أستعجل الوقت، كي يأتي غدًا وأقطع ورقة تقويم جديدة.
ثم قطعتني هي:
– زرت لبنان ثلاث مرات بعد أن رحلت عنها، وفي كلّ مرة أكتشف أنها تزداد تبرجًا. نحن العرب مأخوذون بغباء الغرب، تركنا تطورهم وتقدمهم واستوردنا السطحيات من ثقافتهم.
ثم تحدثنا عن المدن التي نحملها في صدورنا. تحدثت هي عن الفول والعرقسوس، وتحدثت أنا عن بهارات والدتي والحبق، تحدثت هي عن اليوگا وتحدثتُ أنا عن دراجتي. وعندما عدنا مجددًا للحديث عن الكتب والروايات، قالت أنها لم تقرأ كتباً بالعربية منذ رقمٍ من السنوات لا تحفظه. فتشتُ في حقيبتي التي كنت أضعها بين ركبتيّ، وجدته بداخلها، خفيفًا وقابلاً للكسر، كتبتُ في صفحة الإهداء: “ممتنّ أنا جدًا أن جمعتنا قطارات شيكاگو، بعد أن فرّقتنا بلداننا. خالد الصامطي”
– هذه مجموعة قصصية، نشرتها في 2007 وهي تمثل مرحلة ما قبل شيكاگو. أتمنى أن تكون بداية مناسبة لقراءات عربية أكثر.
قلَّبتْ صفحات الكتاب وهي تشكرني، وتقرأ ما كتبه منصور العتيق على غلاف الكتاب. فكرتُ: الآن أعرف كيف يتصرف الشخص، عندما يُفاجأ بقدرته على قراءة لغته الأم مجددًا.
– كيف أصبحت الحياة في بلدك؟
سألتني بصدق وباهتمام، وكأنها أم تسأل ولدها المنوم إلى جوارها بعد أن تعرضا لحادث سير: “كيف حالك يا ولدي؟” وهي جاهزة للتعاطف مع الإجابة بإخلاص، وستهزّ رأسها متفهمة تمامًا ما يقال، وتأكد بملامحها أنها تعرف بقية الكلام الذي نبدأه. كيف أختصر الجواب! كيف أخبرها أن بلدي أرسلني إلى هنا كي أتعلم وأعود لأعمل، وأنني لم أكن أعلم أنني سأتعلم الحياة إلى درجة لم أعد معها واثقًا من أنني سأتمكن من العودة كي أمارس الموت.
أصدقاء عيسى ابن صادقيّة في رواية “ساق الغراب”* رفضوا ممارسة الموت وهم أحياء، وأتوا واحدًا تلو الآخر يطلبون الإذن من الشيخ عيسى، المغلوب على أمره، أن يسمح لهم بالرحيل عن الحياة، وبغصة، أذن لهم الشيخ بالموت. الإجابة طويلة يا سيدتي، والصوت المتحدث في القطار يقول أننا في محطة “ليك”، والجامعة قريبة، والإجابة طويلة.
– أشتاق إلى بلدي كثيرًا، ولبلدي بداخلي قيمة جديدة وعظيمة لم أحملها من قبل، المشكلة أنني لا أشعر بها إلاّ عندما أكون بعيدًا عنها. جميلة هي بلدي وأنا هنا.
“راح وتراواله” صدح صوت “غريد الشاطئ” من رابط وجدته على الصفحة الرئيسية في الفيسبوك قادني إلى الأغنية على اليوتيوب.جميل ما يمكن أن تصنعه أغنية قديمة وفطيرة بالتمر وكوب قهوة عربية الساعة العاشرة والنصف صباحًا.
بعد ساعتين، وبعد أن أحكمت قفل دراجتي بداخل المحطة، كنت أنظر إلى مقدمة القطار قادم من الشمال ورأس السائق ناتئ خارج النافذة مبتسمًا. ركبت القطار، وأكملت قراءة رواية “نحو الجنوب”** التي كنتُ قد بدأتها اليوم السابق، خفيفة أتت في مئةٍ وعشر صفحات، سهلة وسلسة، تقرأها وتبتسم، لا تستدعي الكثير من التفكير، بل تجعلك تنساب مع قصتها وأحداثها البسيطة ذات العمق التراثي الجميل، تغمض عين الناقد، وتقرأ بعين المتذوّق، وتكتفي بمتعة القصة، ترشفها كبيالة شاي في بيت مستضيفك، كريمة وجيّدة المزاج:
“كان غسلاً أعظم من أيّ غسل، لم أدعك جسدي ولا شعري، وإنما غسلت أمورًا كانت بداخلي لم أصبر عليها، وضعتُ رأسي على إحدى الصخور ونمت بعمق، لم أشعر إلاّ بنباح (مروان) عندما أتى بالغنم من الجبل ليشرب، أخذ ينبح، فهو لا يريد أن يفقدني بعد أن فقد صاحبه.
خرجتُ من الماء وجلستُ على صخرةٍ لينشف جسدي.
سرتُ مع القطيع شارد الذهن، عندما وصلتُ إلى البيت جهّزتُ متاعي لكي أرحل!.”
أنهيت المقطع أعلاه، شعرتُ بجلوسها على المقعد الملتصق بمقعدي. سرعان ما أعلنت احتفالها:
– أنا أيضًا أستطيع قراءة هذه اللغة!.
– … …
– مرحبًا أنا رنا من لبنان.
_________________________________
* ساق الغراب، رواية- يحيى أمقاسم.
** نحو الجنوب، رواية- طاهر الزهراني.
هذا الليل يشعرُ بالوحدة.
ينتظر يدكِ لتمسك بيده، وتسيرُ معه على شاطئ البحيرة. هذا الليل يعطي العابرين ظهره، لا أرى سوى كتفيه تهتزان. هذا الليل يبكي، وأنتِ منشغلةٌ بلوحاتك وألوانك.
ولكنكِ لا تعنيني كثيرًا يا كورين!. أنتِ لست لـ الليل حقيقةً، وأنتِ لا تُهمّين الليل. وأنا. أنا أوجه جلّ الذاكرة والحكي والشوق، لها، أمي.
أمي، تقفين على شاطئ الذاكرة كلّ يومٍ يا أمي، تلوحين لكلّ المراكب القادمة والراحلة، تسألينهم عنيّ، وأنا على الضفة الأخرى أراكِ. ألوّح لكِ، ولا ترين!. أشتاقكِ كما تفعلين، وأشاهدكِ في عيونِ الأمهات مع أطفالهنّ في القطارات وفي قسم الخضروات في البقالات الكبيرة. أراكِ في نومي وفي سقف الحجرة. ألمحكِ تمشين في صالة البيت، تبخرين البيت برائحة الذكريات الحميمة. بذاكرة الصباح، صباح الجمعة، ويوم العيد المجيد. أراك توقدين “الميفة” في بيت خالتي. وتقفين وبيدكِ عود من شجرة لوز تحركين به الفحم المشتعل، كذاكرتي الآن، وكشوقي يتقلب في سماء هذا الليل.. الليل الذي يشعر بالوحدة.
كل الأشياء تذكرني بك. أنتِ الأشياء حولي. أنتِ الكرسي يحتضنني ويرجّح بي كـ”هندول”! أنتِ النافذة وما وراء النافذة، أنتِ القادم من شاشة الكمبيوتر، تتشكلين ككلمات وأتشكلُ كطفلٍ يتلعثم في كلّ الكلام. ثم أتذكركِ. تذاكرين لي دروسي، تدّعينَ متابعتك القرائية بما تسمعين مني، أتذكركِ تصححين لي أخطائي وأنا أتلو سورة البينة، أرتل بأخطائي ليل الواجبات السهلة. كنتِ تمسكين بالمصحف بين يديك، تنظرين إلى السطور، وتقنعيني أنكِ تجيدين القراءة، وعندما وصلتُ إلى الصف السادس ابتدائي، التحقتِ أنتِ بمدرسة محو الأمية!
أسأل الليل أين أنت؟
ولا رد يأتي سوى صوت الانتظار، والقطار.. القطار من بُعدٍ.. يتلو صوت الصافرة.
ستاربكس- دي ﭘول سنتر- بارنز آند نوبل.
الثلاثاء 30 مارس 2010 – 2:45 عصرًا.
مرحبًا يا دكتور، ها أنا أجدني اليومَ أوجه إليكَ حبقًا عسى أن يصلكَ وأنت تمارس الحياة بسعادة، وبحبك للغّة والأرقام، رغم أنهما علمان من النادر أن يجتمع حبهما لدى الشخص نفسه، ولكنك تفعل ذلك بإتقان، فتبدأ يومك بمتابعة مؤشر الأسهم، دراسة السوق، والكتابة عن اقتصادٍ مرتبك يمتطي صهوة أسد، وتنهيه بقراءة كتابٍ للصادق النيهوم.
أتمنى أنكَ أيضًا لا تزال تتنبأ بالوقائع، تسخر من الناس والواقع بضحكتك المألوفة. وفي مغربيات الصيف الحارة، تُدير مكيفك الصحراوي وتقرأ في الخيمة الصغيرة بحوش بيتك، أو تستقبل زائريك كرئيس قبيلة، وتحكي لهم بصوتك الإذاعيّ الجهور حياةً جرّبتها بكافة مقاساتها، وفي لحظة صمت يتخللها صبّ شاي أو إشعال سيجارة، تتنهد وترسل للصدى وانتباه السامعين -بلكنةٍ عراقية تُتقنها- مقطعًا لمظفر النوّاب:
مو حزن.. لكن حزين
مثل ما تنقطع، جُوّا المطر
شدّة ياسمين.
مو حزن.. لكن حزين
مثل صندوق العرس
ينباع خردة عشق من تمضي السنين!
مو حزن.. لكن حزين
مثل بلبل قعد متأخر
لقى البستان كلها بلاي تين
مو حزن..
لا مو حزن!
أتمنى يا دكتور أيضًا، أنكَ لا تزال تشرب الشايَ الأسود الذي لا يخطئ أبدًا في تعديل جلسة المزاج، وتدخن سجائرك التي لا أذكر أسمها، أتذكرُ علبتها البيضاء والزرقاء جيّدًا، ولكن يبدو أنه فات على ذاكرتي الصورية الاحتفاظ بنسخة من الاسم في سجل أحداث لقاءاتنا، رغم أن ذاكرة كلّ كاتبٍ تهتم بتلك المشاهدات والتفاصيل الصغيرة التي تمرّ بشكلٍ يومي! ذاكرتي معذورة عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل التي تحيط بكَ أنتَ يا دكتور. كثيرة هي تلك التفاصيل، ثمةُ ما يجعل من كل جزئية تحيط بك تفصيلاً مهمًا ويجب ملاحظته. وهكذا، وبشكلٍ فوضويّ، تكثر التفاصيل الواجب ملاحظتها وتتعثر في بعضها عند مدخل الذاكرة ويصعب التعامل معها. ثم أن حضورك بنزقهِ وهيبته يملأ المكان الذي تتواجد به، الأمر الذي يجعل كاتبًا صغيرًا بحجمي، يفكر بترجمتك إلى شخصية في كتاباته، وتصبح زوربا سعودي، ولهذا دائمًا ما تكون هذه الفكرة هاجسًا مقلقًا لدى تواجدي معك، وأصبح أنا كالذي يجلس في القاعة يستمع ويفهم ويكتب كلام المحاضر، وبذات الوقت يرسم القاعة بتفاصيلها والألوان. لذلك لا أتذكر اسم سجائرك. ما أسم سجائرك على أيةِ حال يا دكتور؟
بمناسبة الحديث عن الذاكرة والتفاصيل، تطرأ على بالي الآن حقيقة أنني أجلس بذات المقهى الذي كتبتُ به الحبق الأول، في الخامس من فبراير 2008، إنني أُكمل بهذا النص دزينةٌ من الحبق الحافي تمت جميعها خلال سنتين وخمسين يومًا.
إنه مقهى جيّد، بيئته تجعل من الكتابة حدثاً تلقائيًا، لا يحتاج إلى الكثير من التفكير. ولأنه يقع على تقاطع شارعي ستيت وجاكسون -منتصف الداون تاون تقريبًا- فالأرصفة في الما حَول ممتلئة بالأحداث والحركة والتدرج الصوري الذي يصنع شكلاً متمايزًا للمكان وبدوره ينقل لك تمامًا دلالة مسمّاه، أعني تلك الأماكن التي تفكر وأنت تمشي بشوارعها: “الآن عرفت لماذا تبدو المدينة مدينة!”. فخلال سيرك بين هذا التقاطع والآخر تستطيع احتواء أشياء كثيرة: بحيرة متشيگان خلف الأشجار في نهاية شارع جاكسون، متحف شيكاگو آرت إنستيتيوت، مباني ذات تصميم معماري عتيق وباذخ، جسر قطارات النقل العام يخترق البنيان ويتلوى بينها كثعبان مشكلاً حلقة وسط المدينة (The Loop) أصوات موسيقية متنوعة قادمة إما من سيارة يقودها مكسيكي سعيد، أو من مدخل محطة الصبوي، أو من عازف الساكسفون وصديقه عازف الفلات تحت مبنى الساعة، تستطيع أيضًا رؤية مجنونًا يتحدثُ بجديّة مع إصبعه الوسطى، ومسرح دُمى صغير مبني فوق عربه متحركة يتحلق حوله مسنين مع أحفادهم، وسيدة تنظر إلى كتابٍ بيدك وتسألك عن حقيقة أن اللغة العربية تُقرأ من اليمين إلى اليسار وتبتسم لها بالإيجاب، ثم تتحدث معك عن رائحة الصيف وصوت المدن عندما تغني في الليل وتذكر المغتربين أن ثمة قلوب تحتويهم وانتماءات مختلفة تزاحم غربتهم. كما بإمكانك أن ترى لصوص، سعاة بريد، وبائعو حقائب نسائية –قد يتمكنون من تدبير صفقات ماريوانا إذا ما دعت الحاجة- وشحاذون طيبون، وطالبو سجائر بخلاء، وعساكر على دراجات هوائية، وخيول تجرّ عربات ممتلئة بسياح قوقازيين أغنياء قادمين من الولايات الجنوبية وينظرون إلى هذه المدينة الحُرة الممتلئة بالملونين، وكأنها حديقة حيوان ذات بناء معماري جيّد ولا يوجد بها تدرّج للقوة كنظام الغابة، فالجميع هنا أُسُود طيبة، ومتسامحة، وذات أنوف وأشكال عيون وألوان بشرة كثيرة ومختلفة، إنه هجين ناجح، تم التخطيط له منذ أكثر من عشرين عامًا وظهرت نتائجه اليوم على ملامح جميلة تسير بابتسام وثقة متعة للناظرين. يا دكتور لو ترى هذا الجمال الذي يشبه القضايا النبيلة!.
مقعدي ووضعية الطاولة التي تشكّلُ ضلعًا طويلاً لهذا المقهى المستطيل، جعلتني أجلسُ معطيًا ظهري للرّواد، مقابلاً الحياة وواجهة المحلّ الزجاجية، أشاهد الشتاء الذي ينسحب بهدوء خلف الواجهة، ويسلّم الربيع العهدة وسجلات الربع الثاني من السنة. الربيع الذي يسمح للعابرين بارتداء ملابس قطنية خفيفة، ويحرّض الفتيات -اللاتي يشعرن بأن ملامحهن عاديّة- على ارتداء تنانير قصيرة، تظهر سيقانهنّ الطويلة، لتُلهي العابرين الآخرين عن ملاحظة الاعتياديّة في وجوههن، فمقاييس الجمال هنا أصبحت مرتفعة، ومن تُعتبر جميلةً في ديترويت قد تخسر نصف أسهمها في شيكاگو.
وعفوًا يا دكتور، سأعود إلى موضوع السيقان قليلاً، لدي رأي مخالف في المسألة. بالنسبة لي، لا أهتم بها كثيرًا، ولا أفهم فكرة الإغراء في ساق؟ في النهاية التعامل بين البشر جميعًا ينتهي عند الركبة. وأقصد بالتعامل المعنوي والمحسوس، لا أفهم الشخص الذي تُثيره السيقان أو الأقدام! قد أتقبل هذا الشيء من مندوب نادي يبحث عن عدّاء أو عداءة مسافات طويلة، أو حتى معلّم كوارع يبحث عن خروف جيّد! ثم أن الساق هي من أبعد الأعضاء عن الرأس، مطبخ قرارات الجسد وبرج المراقبة، والساق ذات شكل خالي من أي لمحة جمالية. قسوة وعمودية هيئته جعلته مستهلكًا ومكرورًا بشكلٍ مبالغ به في الحياة. كما أن مكان الساق منخفض ومعرض بشكلٍ دائم لمخلفات الناس وأوساخ الممرات المنزوية. وحتى فقدها لا يؤثر كثيرًا على بقاء الإنسان وطبيعة حياته منذ عصور قديمة، فهي في النهاية عصا معلقة في الركبة، باستطاعتك أن تصنع واحدة من الخشب وتواصل العبور على الأرصفة كبقية العابرين. شاهدتُ يومًا في برنامج (60Minutes) رجلاً أصيب بحالة اختُصر اسمها بـ(DIID) وهو شعور باختلال في تكامل حالة الجسد– هوس بتر عضو من أعضاء الجسم. ذلك الرجل، شعر أن ساقه شيء فائض عن جسمه، نتوء وزيادة تخرب اكتمال الشكل المصادق عليه في رأسه، لذلك أقدم صاحبنا بإعدادٍ وإشراف ذاتي على بتر ساقه، كان يتحدث مع المذيع وبسعادة عارمة وهو متكئ على عكازه، ويعبر عن ارتياحه النفسي بعد زوال ذلك الهمّ المعلّق في ركبته. لو قابلته في الشارع لأخبرته:
كم أنت محظوظ أن مخك المضروب لم يصر على أن يدك فائضة عن حاجتك هي الأخرى. تستطيع أن تستخدم ساقاً اصطناعية إذا ما أصلحوا رأسك وعادت مقاييس الاكتمال إلى نصابها الطبيعي، لكنك إذا خسرت اليد، أبدًا لن تتمكن من حكّ أنفك، أو التأشير لسيارة أجرة، لن تتمكن من معرفة شعور أن تمسك يدٌ أخرى بيدك وأنت تمشي إلى البحيرة، لن تنتشي راحة كفّك بدفء ورطوبة، لن تعرف معنى أن تُرمم الفراغات بين أصابعك بأصابع يدٍ أخرى.
باختصار لتذهب السيقان إلى الجحيم.
وكلّ حبق وأنتَ بخير يا دكتور.
عامٌ مجيد يا شاهين. فكرتُ بأنه من الصحي أن أكتب لكَ حبقًا جديدًا في بداية العام، على الأقل لأخبرك بمّا أريد من هذا العام. ما أريد هذا العام يا صديقي هو القليل من الحزن. لقد قلّ مخزون الحزن لديّ. أحتاج ذلك الحزن الذي يُوازن منسوب الليالي. لقد أفرطتُ في السعادة مؤخرًا، استخدمتها في كلّ شيء، حتّى في ربط أكياس الزبالة. تخيّل أن تربط كيس الزبالة وتحمله على ظهرك إلى البرميل خلف العمارة بسعادة عارمة. استخدمتها في تنظيف قعر قدر الضغط، وفي مسح الغبار وشباك العنكبوت عن فتحات التهوية، في الانحناء لالتقاط قلمي الذي كثيرًا ما يسقط خلال المحاضرة، في انتظار القطار وحتّى في دفع فاتورة الغاز. لقد أكتشف الآن وأنا أكتب ذلك، أنني استخدمت السعادة تقريباً في كلّ ما أقوم به. لذلك أحتاج إلى القليل من الحزن. أرسم به الفواصل بين جُمل الوقت. لا أريد أن أكون “الرجل الذي تحوّل إلى نكته لكثرة سعادته” –بالمناسبة، يمكن أن يكون هذا اسمًا لفردٍ ساذج في قبيلةٍ من الهنود الحمر- أحتاج لبعض الحزن، أحتاج لأن أكون متوازنًا هذا العام.
كما أنني أيضاً أحتاج من هذا العام أن يأتي ممتلئاً بالأفكار، مصابًا بتخمة أفكار. فتفيض، وتستغني أنت بدوركَ عن الكثير منها لوفرتها، تحيط بكَ الأفكار من كلّ جانب. منها ما يقوم بمساج قدميك. ومنها ما يفرقع لك أصابع يديك. هذا ما أحتاج أليه فقط، قليلاً من الحزن وكثيرًا من الأفكار.
العام الفائت احتجتٌ إلى الإنصات. المزيد من السماع. لذلك تضاعفت قدرة السمع لديّ منذ أن قدمتُ إلى هذه الشقة بداية العام. أصبحتُ أسمع صوت الوقت، أسمع صوت الأسياخ المعدنية بجدران العمارة تتقلّص، وصوتَ الريح خارج النافذة. أسمع صوتَ محرّك الثلاجة، وصوت تجشؤ زمزمية الشاي. أسمع صوت النور، صوت معدتي، وصوتَ جريان الماء بداخل مواسير حمام جاري العلويّ. أسمع كلّ ما يحكيه الليل خلال الأشياء، ويسمع الليل شهيق ذاكرتي. فكرتُ كثيرًا، وأنا أستمع إلى الأشياء، في كيفية أنّك لا تحتاج إلى العزم على القيام بالسماع. أنتَ لا تقوم بترتيب مسبق عندما تكونُ في علاقة مع الأصوات. الأصوات هي التي تبدأ العلاقة معك. أنت لا تفعل السماع، الصوتُ يفعلك. طوال تاريخك السمعي، تقوم بدور الممسك بالكوب الورقي في الجهة الأخرى مثبتاً إياه على أُذنك. الأصوات تأتيكَ دون مشاورة. لا سُلطةَ لكَ على الصوت. وصوت هذه الليلة بارد ومتذبذب، الصوت الأقرب إلى الصمت، الصوت الذي يتفشى لحظات ما قبل نزول الثلج. إنه يؤذي الفراغ. الفراغ يحتاج إلى امتلاء، وهذا الصوت البارد يضاعف خواء الليل.
لم تعد البومة موجودةً لتتحدّث مع العابرين وتوزّع صوتَ المساءات على نوافذ بيوت شارعنا، وتخلق موضوعات يتحدث عنها السكّان فلا يتهمهم شركاؤهم بالرتابة. ولم يعد البطّ يهاجر في جماعاتٍ مع الغروب، انتهت رحلاتهم، غادروا جميعاً إلى الجنوب. حتى المتأخرين منهم، يحلقون بصمت، دون صياح، يتسللون في طيرانهم كالهاربين من عار تأخرهم.
وأنا يا صديقي، داخل هذا الصمت، أبحث عن حزن! حزنٌ لا يأتي كثيرًا. يلمع في أحيان قليلة، ثم يتملّص، يتلوى كثعبانٍ حكيم، حزن ذات دهشة طويلة بحيث تستطيع أن تحتضن ذاتها كصديقين في صالة المغادرين. كلّ ما أحصل عليه هو ذلك الحزن الصغير الذي لم يتعلم الحديث بعد. يختبئ في الحيّز الفارغ من الوقت. ذلك النوع الذي يمكن أن تشعر به في أكثر اللحظات غير المتوقعة، كأن يظهر كومضة من ذاكرة قديمة في لحظة شروعك بربط حذائك، أو يداهمك في اللحظة التي تتلو النظر إلى كلا الاتجاهين وعدم مشاهدة سيارات قادمة. يباغتك بسرعة ذبابة، فتتوقف أنت لوهلة، تحاول استعادته، ترغب بالإمساك به، تفتيشه ومعرفة هويته، فيراوغ ويهرب بسرعة ذبابة أيضًا. أريد أن أقبض على حزنٍ في هذه الليلة الصامتة جدًا.
في المرة القادمة سأطلب من والدتي أن ترسل لي مع الحبق قليلاً من الحزن إن أمكن.
مرةً أخرى: عامكَ مجيدٌ يا شاهين، وصّل سلامي إلى الشباب.
The painting: Silence
(Date: 1799)
By John Henry Fusel
رسالة جوّال:
“رغم دهان التعب على أسوار المدينة، ورائحة الجوع المنبعثة من الأجساد، لازالت القاهرة قادرة على تقديم قرابين الفرح للعابرين.”
الشاهين.
مدخل:
قد لا تجدُ فيما سأقوله علاقة بالمسج أعلاه، لكن ذلك لا يعني أنه لم يكن محرّضًا جيّدًا على كتابة ما سيرد أدناه.
الحبق:
إنني أشاهد جدتي في كلّ مكانٍ بهذه المدينة يا شاهين. إنها في كلّ وجوه النساء المسنّات. تتشكل ملامحها في المطاعم، في محطات القطار، وفي التفاتات العابرين. على دراجتي متجهٌ إلى منزل الأصدقاء، شاهدت سوقاً مؤقتاً مقاماً في موقف سياراتٍ مفتوح، كسوق الجمعة في الرياض، أو سوق الاثنين في صامطة، كان سوقاً ممتلئاً بالبائعين المسنين الذين –على ما يبدو- يعرف بعضهم الآخر بشكلٍ جيّد، وكأنهم يمارسون التنقل بين المدن سوياً لبيع سلعهم كما كان يفعل الغجر، دخلت بدراجتي متجولاً بين مباسطهم التي تكثر فيها الخردة والاسطوانات القديمة، وتُباع فيها الحكايات أكثر من بيع السلع. هناكَ رأيتها اليوم، تبيع أشجار الكرسميس، بالتحديد على رصيف المواقف قبالة ملعب البيسبول “رينغلي فيلد” حيث تقام مباريات فريق “الكبز”. كانت أشجارها صغيرة ونضرة، كريحاناتها المدللة المصطفّة إلى جانب جرارها الطينية في بيت القرية. فكرتُ أن أشتري منها شجرة، فقط لأتحدث معها، لأذكّرها بي، بعد أن أكل الدهر ذاكرتها.
خلال الصيف الفائت زرت القرية، وقفت على حقيقةِ تضارُبِ أفكارها، واختلاط الشخصيات والأزمنة في ذاكرتها، حيث قضت جدتي ليلةً كاملةً محاوِلةً إعطائي درسًا في الصبر على النساء، وإقناعي بأنني يجب ألاّ أطلّق نسائي الثلاث، إن لم يكن لأجلها فليكن ذلك لأجل أطفالي. لقد جاريتها تلك الليلة حتى أقنعتها بأنني لن أقوم بتطليق نسائي المتخيلات، وقبل أن أقبّل رأسها وأتمنى لها ليلة سعيدة، أشارت عليّ بأنها مستعدةً للبحث عن رابعة إذا ما رغبتُ بذلك.
لم أشترِ شجرة كرسميس من جدتي، اكتفيت بالخروج والوقوف أمام الإشارة الحمراء على درّاجتي، ومشاهدتها وهي ترمم رسغيها بأكمامها، تخبئ يدها عن الشتاء المستجدّ، الشتاء في بدايته، حيث لم يتعلم بعد لغة الثلج، لازال يهمس بجزيئات الندف متلعثماً، ولكنه ينجح في أن يجبرها على لبس قفازاتها. خلال البخار المنبعث مع أنفاسها، رأيتُ وجهها وهي تنظر إلى الفراغ باتجاهي، ذلك الوجه الذي جعدته السنين ومنحته براءة الكبار.
ذلك الوجه الذي كنت أشاهده دائمًا بعد عبور صحراء الربع الخالي جنوبًا في سيارة والدي، وبعد أن يسرد والدي حكاياته الكثيرة خلال النهار، وتحرس والدتي بصمتٍ الطريق الممتدّ كالعمر أمامنا خلال الليل، ساعات الاستماع إلى طلال مدّاح، عبدالله محمد وغازي علي، دقائق الجدل بيني وبين أخوتي، التعليق واللعب بالكلمات والأسئلة الساذجة، ولحظات الفجر حيث التصاق خدّي بزجاج نافذة السيارة أنظر إلى الجِمال العابرة وأترقب لوحات الطرق التي تعبر بسرعة إلى الخلف وتتركني أعدّ تدرّج أرقام المسافة المتبقيّة على جيزان، وبعد أن يطوي والدي جبال العقبة منزلقاً إلى حيث تتحوّل الجبال السوداء إلى مساحات سَبَخٍ رطبة، والصحراء إلى مزارع مترامية على أطراف الطُرق والأودية، والجِمال العابرة إلى أبقار بُنيّة، خراف بيضاء، حمير رمادية، وكلاب بمختلف الألوان ممتلئة بالبهجة والنزق وهي تجري خلف سيارات العابرين، بعد تلك المسافة يفتحُ خالي بوابة بيتها المتواضع، بسوره المصنوع من الزرب والأثل، ويتنهد والدي تعبَ الطريق وهو يلج بالسيارة إلى الداخل، تبرز صورتها، تقف هناك بذلك الوجه الكثير وجوده مؤخرًا، جوار عشّتها، تنظر إلى الفراغ باتجاهنا مبتسمةً، وتصطف خلفها بانتظام ريحاناتها المدللة، والجِرار التي تقبع تحت حراسة خالي وشمس الصباح الباردة.
إنها في كلّ مكانٍ يا شاهين. وكأن الأماكن تتحدث، تنقل أسرار عابريها، وكأن صامطة قد أسرّت خبر جدتي إلى شيكاگو، وكعادة هذه المدينة المفرطة في تعبيرها، فقد عبّرت بكرمٍ عن جدّتي، تماماً ككرمها في التعبير عن الحياة. لقد كانت موجودةً أيضًا الخميس الفائت في عيد الشكر، حيث دُعيت إلى منزل بيانكا، كانت جدتي تجلس على الطاولة الرئيسية التي يشغلها كبار العائلة، تتحدّث بالإنجليزية ولكنتها اليونانية عن الطبق الذي أعدّته عمّة بيانكا، وكنت أنا على الطاولة الأخرى مع بيانكا وأخيها نيثان، وابن خالها ديفيد وابن خالٍ آخرٍ لا أذكر اسمه. بعد وهلة، انسحبت جدّتي من جوّ الأحاديث الرتيبة هناك وجلست معنا، قبالة مكاني. يناديها الجميع ياياه – تعني جدّتي باليونانية-. أخذت تسألني عن عدد إخوتي. أجبتها بأن لديّ أربع أخواتٍ وأربع أخوة، وأنا الثاني في العائلة، ردت بتعليق مرح حول كوني أصلح أن أكون يونانيًا.
– لا تستحِ يا ابني، لتأكل قدر ما تشاء.
– قد أستحي من أي شيء “ياياه”، سوى الرغبة في الأكل.
– جيّد، أعطني صحنك كي أعبئه لك مرة أخرى، هاتِه..
بعد محاولة التملص منها، نجحت جدّتي بالحصول على صحني وتعبئته بقطع من صدر ديك رومي، بازلاّء، سلطة، وشوربة بامية- بالمناسبة البامية باليونانية: بامياس، وبعد التفكير في ذلك اكتشفت أن ثمة الكثير من أسماء الفواكه والخضروات العربية تعود إلى أصول يونانية كـ بطاطس، طماطس، أناناس- عادت وهي تردد كيف أن جيل اليوم لا يأكل ويتبع موضة الرجيم، الرجيم مرض، قالت وهي تضع الطبق أمامي وتطلب من حفيدتها بيانكا أن تسكب لي مشروباً.
في الطريق إلى البيت، طلبت جدّتي من بيانكا إيصالها إلى بيت أختها، كنت في المقعد الخلفي مع نيثان، وكانت بيانكا تقود السيارة، أما جدّتي فكانت تحاوِل إعطاء حفيدتها درسًا في الصبر على نزق خالها، بعد مضايقته لها خلال وجودنا في بيتهم. بعد دقائق أخرجت بيانكا الغليون، واستأذنت من جدّتي بأن تسمح لها بتدخين الماريونا. كانت قد أخبرتني بيانكا من قبل أن جدتها تحب الأعشاب، ولا تمانع الماريونا لأنها خالية من المواد الكيميائية وغير ضارة صحياً، أشارت إليها بالموافقة.
بعد دقائق، كنت أضع خدّي على نافذة السيارة، أنظر إلى لوحات الطرق، البط حول النهر، والسناجب تحت أشجار الصنوبر، أسبح بسيل من الأفكار المتسارعة، في جوّ ضبابي مليء بالانتشاء، أنظر بداخلي إلى وجه جدّتي خمسة أعوامٍ مضت، في مجلس ابن خالتي، حيث للتوّ وصلت إلى القرية قادماً من الرياض، وهي تعاتب ابن خالتي، تتهمه بالبخل، وتأمره بأن يزيد نصيبي من القات، كنت أحاول التملص من إصرارها، ولكنها نجحت بأن أقنعتني بالجلوس والاستمتاع، لأشعر بذات الانتشاء، وصدى حكاياتها ينساب في الفراغ، كما كان ينساب في بداخل تلك السيارة، جوار النافذة حيث أترقب صوراً من ذاكرتي تعبر بسرعة إلى الخلف وتتركني أعدّ الوقتَ المتبقي على كتابة جدتي.
شيكاگو
3 ديسمبر 2009
The painting “Old Woman” by: R.B.Lindsay
جاردي. بصدق، أنا أحاول أن أكتب، لكن كلما فتحت صفحة وورد أبدأ بسطر ثم أتوقف، لا أجدُ ما يمكن قوله رغم حشود الحكايات في رأسي، رغم حشود الأحداث التي أجري خلالها كلّ يوم. أقول “أجري” وأنا أعني ذلك حتماً. الأحداث هنا لا تجري حولنا يا جاردي. الأحداث تكون حولنا وفيما بيننا، ونحن نجري خلالها، أو هي تتخللنا. أو ربما كلانا نجري ونتخلل بعضنا البعض. الأحداث هنا متداخلة بشكل يصعب معه على مركز الترجمة في رأسي وصفها، أو ربما قد أقضي محاولاً وصفها وقتاً لا أطيق معه صبراً، فأتوقف عن الوصف وأخرج لمواصلة الجري خلال الأحداث. لا أعرف كيف أقول ذلك، ولكنها حقيقة!
أشعر أنني بدأت فكرةً أعلاه، ثم لم أنهها. نعم، تذكرت.. كلما فتحت صفحة وورد أبدأ بكتابة سطر ثم أتوقف، وأغلق صفحة الوورد. الغريب في الأمر أنني عندما أبدأ بالكتابة لأيّ أحد أجد أن الأحداث تبدأ بالتحوّل تلقائياً إلى كلام مكتوب، وأواصل الاسترسال كما أفعل الآن، الأمر غريب يا جاردي!
وعندما أفكر بالأمر، (أكتشف) أن الحبق الحافي بأعداده جميعاً، كان موجهاً إلى شخصٍ ما، الشاهين، رياض، مشعل، هاشم.. إلخ! هكذا إذن! ليكن هذا حبقي الحافي رقم تسعة.
إذن يا جاردي، بعد إجازتي في السعودية، عدتُ إلى هنا لأجد “فيليبي” قد ربّى لحية وشارب وبدا وكأنه قادم من الستينات، كأنه أحد الهيبيز الذين كانوا يعيشون للفن، الموسيقى، التنقل برّاً، التخييم، ممارسة الحبّ والحياااة ببساطتها. ولكي أكون أكثر صدقاً، لطالما أعجبت بثقافة الهيبيز وكم تمنيت أنني وُجدتُ في تلك الفترة هنا في آميركا، أعني من بداية الستينيات إلى منتصف السبعينيات، ولكنني لم أكن سوى مجرد فكرة في مخيّلة والدي وهو يجلس على مكتبه كمحاسب مستجدّ في شركة مبتدئة وسط البلد، البطحاء. في تلك الفترة، فترة الهيبيز، تفجّرت الموسيقى، ليس في آميركا وحسب، بل في كلّ العالم الغربي أجمع.
في الوقت الذي كان “جيمي هاندركس” على المسرح يغني “هيي جوو” في منتصف مكان مكشوف، وحشود المتفرجين حوله يدخنون الماريوانا ويبتسمون ويتمايلون مع كلّ نوتةٍ يتفنن بها هاندركس، بأصابعة، بلسانة، وبكل أطرافه، في ذات الوقت كان “بوب مارلي” يحيي حفلةً في إنجلترا أو في جامايكا، ويصدح ” نوو ومن نوو كراي”.
– فيليبي، تبدو كـ”هيبي”؟
– أحاول ألاّ كون كذلك، ولكن منظري يوحي بأنني واحدًا منهم.
– وما الذي يمنعك من حلاقة وجهك؟
– لا أحد يستطيع أن يتلاعب معك بالحديث! الحقّ؛ أنا أعيش جوّ هيبي منذ أن انتقلتُ إلى السكن مع لويس.
“لويس” لا أعرف لماذا لم أقم بذكره من قبل! رغم أنه شخصية مهمة جداً منذ وصولي إلى شيكاغو. “لويس” شاب في العشرينات من عمره. ذو شعرٍ طويل متدلٍ إلى عشرات الجدائل، تماماً كـ “بوب مارلي”.
جسده مغطىً بالتاتوهات، عندما أراه أتذكر مسلسل “برزنت بريك”. أتى من البرازيل، من أمّ برازيلية وأبٍ نيجيري مسلم. يقول أنه نصف مسلم نصف مسيحي، ويشعر أنه لا ينتم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. في منزله، بمنتصف غرفة المعيشة، يعلق خارطة الشرق الأوسط، ومقالات متفرقة عن الأحداث في العالم العربي، جمعها من صحف متعددة منذ وصوله إلى الولايات المتحدة منذ ما يزيد عن سبع سنوات. على أية حال، بما أنه انتقل من شيكاغو للسكن في “مينيابلس” الأسبوع الماضي، أعتقد أنه لا حاجة للحديث عنه، ولا يعني ذلك نفي احتمال وروده في حبقٍ ما.
– وبعد فترة من سكنكَ في شقتك الجديدة، وجدتَ فليبي على الرصيف مقابل مبنى الـ YMCA حيثُ كان يسكنُ مجانًا كأحد مشرّدي المدينة، أليس كذلك؟
أجبتُ؛ نعم، بابتسامةٍ خبيثة وأنا أنظرُ إليها وهي تنظرُ إلى “فيليبي” الذي وافقها بضحكةٍ مساندة، فضحكت هي أيضًا. وقبل أن تنهي ضحكتها، بادرها:
– ولكنكِ لم تقولي يا زينب، كيف هي المدرسة بعد انتقالي إلى المدرسة الجديدة؟
ضحكات وأحاديث عابرة، في حفلة ميلاد. الأمر المضحك والمثير والساخر أيضًا، أنّه أول عيد ميلادٍ لي. وقد أوردتُ الجملة السابقة في رسالة الدعوة التي أرسلتها للأصدقاء. كان ذلك في الخامس من مارس 2008، كما جرت ولادتي بنفس اليوم من عام 1981. كانت حفلة متواضعة، صغيرة، وجميلة بجمال من حضر. وقبل أن أجيء إلى هنا، لم أحظَ بحفلةِ ميلاد قطْ.
أو لأكن أكثرُ تحديدًا وصدقًا. أذكرُ أنني حظيتُ بحفلةِ ميلادٍ من قبل، بمدينة “العين” بالإمارات، قبل ثلاثة أعوام، كان ذلك عام 2005. كانت حفلةً مكونةً من شخصين، عزيز البحريني وأنا، في أحد المقاهي بسوق العين. عزمني عزيز حينها على قطعة “كروسان” وكوب من القهوة عندما علم عن طريق المصادفة أنه عيد ميلادي. هذا كل ما في الأمر. وبعد ثلاثة أعوام، حصل أن كنتُ في الولايات المتحدة الأمريكية، وأقمتُ هذه الحفلة.
أقمتها في شقة الصديقين “أحمد” الذي يعزف على “العود” بشكلٍ جيد، وأسامة الذي يُفضل أن يناديه الأصدقاء بـ “سام” لأسباب معروفة ومنطقيّة نوعًا ما. هذين الصديقين أقمتُ في شقتهما لمدة أسبوع، كان ذلك العام الفائت عندما قدمتُ إلى شيكاغو لأول مرة. وما جعلني أختار شقتهما لإقامة الحفلة ثلاثة أسباب:
الأول أنها في الدور السابع والعشرين، والحفلة كانت لميلادي “السابع والعشرين” وهذا سبب منطقي جدًا ويستحق أن يردَ كسببٍ أول. الثاني لأنها أكبر من شقتي وفي مبنىً أحدث وأرقى، لذلك ستستوعب عددًا أكبر من الأصدقاء. الثالث لأنني منذ أن عرفتُ أن ثمة شيء يدعى “حفلة ميلاد”، تخيّلتُ حينها أني سأقيم أول حفلة عيد ميلادٍ لي في مكانٍ مناسب. ومنطقيًا كانت الشقة هناك أكثر مناسبةً للحفلةِ من شقتي. لذا جرى الأمر كما جرى.
– لم يتغير شيء. انتقالك، انتقالُ طالبٍ واحد من بين أكثر من ألفي طالب لا يحدثُ تغييرًا يُذكر!
أجابت زينب بضحكة.
زينب الفتاة التركية، التي شاركت “فيليبي” دراسة أحدى المواد التيرم الفائت، والتي تشاركني هذا التيرم دراسة أحدى المواد. حضرت الحفلة رغم أنها اعتذرت مسبقًا عن الحضور. هي لا تتحدثُ العربية ولكنها تتمنى ذلك. سألتني:
– هل تعتقد أنه من السهولة لمن يتحدث التركية أن يتعلم العربية؟
أجبتها بـ نعم. رغم أنني لستُ متأكدًا. ولكي أدعم إجابتي أضفتُ أن اللغة العربية تحتوي على عدّةِ كلمات من التركية كما هو حال اللغة التركية التي تحتوي على عدة كلماتٍ عربية، وأضفتُ أن ذلك بسبب الحكم العثماني الذي استمر لأجيال. أخرجت سيجارة وقلتُ “تتن”، ابتسمت زينب. ثم مشيتُ إلى الزاوية التي تقف فيها “بيانكا” و”فانيسا” لكي لا تحرجني زينب بأسئلتها المتوالية والتي لا أعرف لها إجابة، ولا أريد أن أعرف، أنا هنا في عيد أول حفلةِ عيد ميلادٍ لي، ولست في اختبار مقارنة للحضارات.
جاء أغلب من أعرف، منهم: يزيد، ديفيد، ووينغ، سلطان، غابرييل، و”إليوت” البريطاني الذي كلما أشاهده أبتسم. ليس لأنني أفرحُ بمشاهدته. ولكنني أتذكر مباشرة اليوم الذي كنا في شقته قبل شهرين نلعبُ لعبةً ليس الوقت مناسبًا لشرحها الآن، لعبة معقدة، تُعلبُ بالورق “كوتشينة”، في حال أن سحب أحد الأطراف ورقة “البنت” يلفظ كلمةً إنجليزية ذات معنى؛ وعلى جميع المشاركين بعدهُ أن يلفظوا كلمة بذات الوزن الصرفي. كان الدور على “فيليبي” وبالمصادفة سحب ورقة “البنت” فقال:
– Idiot، والتي تعني بالعربية “أبله”.
من سوء حظ “إليوت” أنه اللاعب الذي يلي “فيليبي” وعليه أن يقول كلمةً بوزن “إديوت”. لم يجد “إليوت” كلمة إنجليزيةً بنفس الوزن، وعندما إحمرّ وجهه وأوشك على البكاء، أيقنّا أنه ليس من السهولة إجاد كلمة إنجليزيةً تحمل ذات الوزن لكلمة “أبله” غير اسمه. لذلك توقفنا عن العب، لأسباب اختلقناها في لحظتها.
كان أحمد يعزف على العود، وكنتُ أضرب على الإيقاع. كنّا نُغنّي:
“بتروح لك مشوار!
إلتلاّ يا ريت.
آلت لكن إوعا تغار…
حوليّا العشاق كتار.
إلتلاّ بطلت…
خليني بالبيت.”
– يجب أن تحضر الجمعة إلى شقتي أنا و”فانيسا”، سنطبخ لك بمناسبة ميلادك.
قالت ذلك “بيانكا” قبل أن تغادر، أجبت بالموافقة.
في مساء ذات اليوم. كنتُ متمددًا على السرير. سعيدًا كما يجب على من أنهى للتوّ حفلة. تذكرت الشاهين عندما شاهدتُ حمامة خارج شباك حجرتي. قرعتُ النافذة بعنف، فطارت. وقبل أن أنام تذكرت رياض فتعوذتُ من الشيطان. ثم نمت. وبمساء يوم الجمعة، كنتُ أفكر بحذائي المغطى بالثلج عندما فتحت باب الشقة، هل أخلعه أم أنفضه جيدًا وأدخل مرتديًا حذائي؟ وخلال ذلك، كانت الشقة مظلمة، نظرت إلى اللاشيء حولي، لمحت رؤوسًا تخرج من كلّ زاوية، من خلف الصوفا، الحمام، المطبخ، ومن حجرة “بيانكا”، وآخرون من كل مكان. كانت لحظة حافلة بالرؤوس التي تخرج فجأةً من خلف الأشياء، من أماكن مختلفة في الـ ما حول.
عندما فتحت باب الشقة كنتُ أفكر بـ حذائي المغطى بالثلج، هل أخلعه أم أنفضه جيدًا وأدخل مرتديًا حذائي؟ وخلال ذلك، كانت الشقة مظلمة، نظرت إلى اللاشيء حولي، لمحت رؤوسًا تخرج من كلّ زاوية، من خلف الصوفا، الحمام، المطبخ، ومن حجرة “بيانكا”، وآخرون من حجرة “فانيسا”. كانت لحظة حافلة بالرؤوس التي تخرج فجأةً من خلف الأشياء، من أماكن مختلفة في الـ ما حول. لم أستوعب الأمر إلاّ عندما صاح الجميع:
– Surprise
لم أتمكن من الحراك. كنت أتساءل، ما الذي يجدر بي فعله؟ لوهلة شعرتُ بما لا أستطيع وصفه حينها ولا الآن. ربما شعرتُ برغبةٍ في البكاء كطفلٍ لا يدري ما يفعل، كطفلٍ كسرَ مزهريةً في منزل أحد الجيران وكان الجميع ينظر إليه! ولوهلة أخرى شعرتُ برغبة في الهرب. لكن تراجعت عندما علا الصوت القادم من الرؤوس التي ظهرت فجأة من خلف الأشياء، من كل مكان:
– هابي بيرث دي تووو يووو.. ها بي بيرث دي فور يووو… هابي بيرث دي دير خالد.. هابي بيرث دي توو يوو..
أحضان من بيانكا وفانيسا، ثم مصافحة من جاك وهو يبتسم: عيد ميلاد سعيد يا رجل. ثم “مات” ثم نيكول التي ستسافر إلى اليمن لشهرين وتريدني أن أرافقها، ثم الشاب الأبله الذي لا أعرفه. صافحني وسألني عن اسمي، أجبته، فقال: نايس. ثم جلس على الصوفا ويبدو أنه جلس ليكمل قطعة الكيك التي كان يأكلها عندما كنت أفكر بحذائي المغطى بالثلج وأنا أفتح الباب.
يتبع.
ستاربكس- ستيت آند بيرسون.
الأحد- 3 مارس 2008
– عندما أذهب إلى السعودية، سيقطعون يدي، أليس كذلك؟
– لماذا؟
– لا لا .. سيقطعون الشيء. أنت تعرف ماذا أعني!
– لماذا، يقطعونه!؟
– لأنني سأنظر إلى النساء وسأتحدث معهم!
فليبي يقول أنه يتمنى أن يذهب إلى السعودية، هو يعرف لحد الآن قدرًا لا بأس به من الجمل والكلمات العربية، وقبل فترة علمته أيضًا الأبجدية. وفي صباح اليوم الثاني، استيقظت ووجدته نائمًا وإلى جواره ورقة معبأة بكلمة عربية واحدة، اسمٌ لجزء في جسد المرأة! تخيّل يا شاهين، عوضًا عن “زرع” و”حصد” وجدتُ ورقةً شبيهة بها، ولكن تحتوي على الكلمة إيهاها، بخطّ طفولي كبير ومتعرج.
كل يوم يدخل اليوتيوب ويبحث عن أي مقطع يحتوي على فتيات عربيات. يقول أنه لم يشاهد مثل هذا الجمال من قبل. يحب نانسي عجرم وهيفاء وهبي. اليوم استيقظت على صوته وهو يغني في الحمام: بوس الواوا.
– البرازيل ليس مكانًا مناسبًا للعيش.
قال لي ذلك وهو يتذكر كيف قضى حياته في الشوارع، مشردًا، يجري هاربًا من مكان إلى آخر. خرج إلى الحياة كمكالمة هاتفية خاطئة، لكن هذه المكالمة ليست كبقية المكالمات التي تنتهي بقول الطرف الآخر أن الرقم الذي طلبته خاطئ، ومن ثم يقفل السماعة. لا، هذه المكالمة معقدة جدًا. لذا قرر والداه أن يتزوجا، وعندما بلغ الرابعة، تطلقا. ومذّاك، أعني منذ تسعة عشر عامًا، وهو يجري، وعندما يتعب، يتوقف في أحد الأندية الليلية، يتجرّع البيرة بسرعة من يشرب ماءً، ثم يبحث عن فتاة. وقبل شهر كان الجوّ باردًا جدًا وكنا نمشي في الهايد بارك -أحد أحياء شيكاغو- فقررنا أن نجري، جريت معه، لكنه جرى هاربًا. لم أتمكن من اللحاق به، وخيّل إليّ أنني لن أتمكن من اللحاق به أبدًا.
ستاربكس- ميشغان أفينيو.
الخميس 28 فبراير 2008 – 05:11 مساءً.
عندما أنهيت سيجارتي وعدتُ إلى داخل المقهى، وجلستُ هنا، أمام شاشة جهازي مرّةً أخرى، قال:
– You’re smoking too?
ابتسمت وأجبت “بالطبع أدخن”، لم أستغرب عندما رفع إبهامه مبتسماً: “Good for you” ، لأنني شاهدته يدخن في الخارج أيضاً قبل أن يدخل ويضع جهازه المحمول بجوار جهازي وحقيبته اليدوية على المقعد المجاور، ويطلب مني أن أراقب أغراضه إلى أن يعود من دورة المياه. اعتدتُ أن أجلس على البار عندما أذهب إلى أي مطعمٍ أو مقهى أو بار، خاصةً عندما أكون وحيدًا، وحيدًا عن قصد، وحيدًا مع سبق الإصرار.
سألني وهو يعمل على كتابة نوتة موسيقية على شاشته:
– Where are you from?
قبل أن أصل إلى الولايات المتحدة أخبرني بعض الأصدقاء أن الأمريكان يكرهون العرب، خاصة بعد أحداث الحادي عشر، لكن بعد أن وصلت إلى هنا، وعشت الوضع، عرفت أن معلومات الأصدقاء مغلوطة. المرة الأولى التي سئلت فيها هذا السؤال “من أي بلدٍ أنت؟” كانت في الأسبوع الأول من وصولي إلى شيكاغو، كان السائل “توني” الرجل السبعيني الذي يعمل في الفترة المسائية في “مايكس بار”، ترددتُ قليلاً ثم أجبته “السعودية” فاجأني باعتذارٍ عاجل وصادق على ما يحدث في العراق، وأن الشعب الأمريكي متعاطفٌ جدًا مع القضية الفلسطينية، وأنه ضدّ سياسة بلده! ياللشعور، أن تخبر أحدهم باسم بلدك، ثم يعقب باعتذار مع تقديم مشروبٍ مجّاني ومصافحة حميمة، أن تعيش هذه اللحظة، فأنت مقدمٌ على تجربةِ شعورٍ غريب، يشبه ذلك الشعور الذي يأتي بعد عدّة توقعات، بعد فترة من التساؤلات، الذي يأتي بعد ترقُّب، يشبه لحظة قراءة اسمك في الجريدة يوم نتائج المرحلة الثانوية.
– Saudi Arabia
أجبته مع ابتسامة محايدة.
– Woow far away from home? Huh
ابتسمت بالإيجاب، ثم واصلت الكتابة، وواصل هو العزف على لوحة المفاتيح، واصل كتابة النوتة.
واجهة المحل أمامي، البار على واجهة المقهى، وخلف الزجاج، شارع ميشغان، نعم يا مشعل أنت على حقّ، لا زال الشارع موجودًا، ولا زال الناس والسيارات يسيرون على مشيغان أفنيو، الشارع الأشهر في شيكاغو، الشارع الذي يبعد عن منزلي مسافة دقيقتين. الشارع المليء بالمحلات التجارية، المطاعم، المتاحف، المليء بالحياة. ليس عليك سوى السير على الرصيف، ستجد خلف المسنّ الذي يعزف موسيقى جاز على الساكسفون؛ ستجد فناناً تشكيليًا يجلس على الرصيف أيضاً، ويرسم بورتريهات للمارّة بعشرة دولارات، خلفه على بعد دقيقة ستجد رجلاً يدخل في صندوق صغير ويمارس عروض السيرك وهو يرتدي زيّ نمر. بين كلّ فنان وفنان ستجد فنانًا آخر، وكلّ خمس دقائق وأنت تسير ستستمتع بخلفيةٍ موسيقيةٍ جديدة. وخلال ذلك، ستظل مبتسمًا طوال الطريق. وعندما تدخل ستاربكس، سيجلسُ إلى جواركَ شابٌ مهووس بعزف البيانو والموسيقى، سيظل يكتب نوتةً وستلمح أصابعه تتحرك في الفراغ أمام الشاشة وهو يستمع إلى شيءٍ ما بواسطة سماعات الأذن. تتبادل أنت وهو الأدوار، مرّةً أنت تطلب منه مراقبة أغراضك وتخرج للتدخين، ومرةً يخرج هو. ستكتب، وتكتب، وتشعرُ بالحياة تتخلل جسدك كرعشةٍ كهربائيةٍ خفيفة، كمشروبٍ بارد بعد سباق ماراثون، كخبرٍ سعيدٍ جدًا ومفاجئ.
رياض، يبدو أنه لا مجال للتخلص من الذاكرة المعبأة بالأصدقاء الجميلين. الأصدقاء الذين تشاركت معهم السير في شوارع البلد، الأسواق القديمة، شواطئ جدّة، صحراء الرياض، حجرتي المنزوية فوق سطوح منزلٍ عتيق في “دخلٍ محدود” ما. والليالي التي رفعتنا كثيرًا للسماء.
أنا لا أحاول التخلّص من الأصدقاء! من قال ذلك؟ أنا أعني أنني أتذكر الأصدقاء كثيرًا.
كنّا نسير، أنت ومنصور وأحمد وستيفان وأنا في الساوث سايد من شيكاغو! لا أعرف كيف تجمّع هذا الحلم وزارني الأسبوع الفائت في نومةٍ عميقة. الساوث سايد من شيكاغو خطير. مكان تجمّع عصابات السود. لكننا كنا نسير باطمئنان. ستيفان السويسري يسير في المقدمة، ثم أحمد، ثم منصور، وكنا نسير أنا وأنت في المؤخرة. لا أعرف بالتحديد مالذي جلب ذلك الحيّ الباكستاني في الحلم، ولا أسمع قبلاً بأن ثمة حيّ باكستاني هنا، ولكننا دخلنا الحيّ الباكستاني. من زقاقٍ ضيّق ثمة مسيرةٍ قادمة، جموع من الباكستانيين يسيرون في تظاهرةٍ غريبة. يحيط بهم من الجانبين أشخاص لوّنوا وجوههم بالأبيض. وجوه بيضاء بلا ملامح. مهرجون لا يهرّجون. بل بملامح جامدة. يحيطون بالمسيرة. ستيفان اخترق الجمع أولاً، ثم تبعه أحمد ومنصور. ناديتُ أن يعودا بسرعة. عاد أحمد ومنصور، لكن ستيفان واصل اختراق الجمع وهو ينظر إلينا خلفه. ثم ابتسم. هنا ينقطع المشهد وتأتي صورة أخرى في شقة باردة مليئة بالخضروات الغريبة، جزر وفجل بحجم الإنسان، بامية طولها ذراع، وعندما أخذت واحدة ورججتها، سمعت صوت قلقلةٍ بداخلها، ثمة لبّ بداخلها وصوت يشبه ارتطام وتقلّب حبتي نرد على طاولة!
قال منصور أنها شقة والد محمد وعزيز، يجيء إليها كلّ عامٍ مرّة، يزور شيكاغو ليستمتع بالحياة ثم يعود إلى الرياض ليمارس دوره المعتاد. خرجنا إلى شقةٍ في مبنى السيريس تاور، من أطول خمس مباني في العالم. في الشقة ينتظرنا محمد وعزيز. قال منصور يجب ألاّ نخبرهما بأمر شقة والدهما، فهما لا يعلمان.
أين أحمد؟
خرج ليبحث عن برّادة كي يشرب.
هاشم؛ صاحبك مدمن حبق منذ سنوات، ارتبط الحبق لديّ بالكتابة، بالجلوس أمام الشاشة والكتابة. عانيت كثيرًا خلال الشهور الفائتة هنا. أعني في شيكاغو. بحثت كثيرًا ولم أجد متجرًا يبيع حبق. حتى المحلات العربية لا يوفرونه، وكثيرون لا يعرفون هذه النبتة.
قبل سفري بشهر، كنا أنا ورياض وابتهال، نجلس في “كفي شوب” في الحمراء بجدة. نتحدث عن الكمبيوتر والطعام والإنسان وعلم الحشّ، وكمثال كنا نحشّ في الأشخاص الجالسين على الطاولة المجاورة. كنتُ أقلّب قائمة المشروبات، توقفت عند قراءتي: شاي بالحبق. وبإصبعي قارنت المسمى العربي بالترجمة المقابلة للمشروب بالإنجليزي، حيث كُتب: Tea with basil
آها، إذن حبق بالإنجليزي تعني”Basil”، كررتُ لفظ المسمى سبع مرّات، ثم طلبت.
في الأسبوع الأول من وجودي في شيكاغو، ذهبت إلى سوبر ماركت كبير ولديه فروع كثيرة في المدينة، يدعى Jewel، أمام ثلاجة الخضروات والفواكه وقفت. إنشكحت أساريري عندما قرأت Basil على علبة بلاستيكية صغيرة وشفافة تضم غصنين أخضرين صغيرين، وجدتُ غرضي. عبأت سلة المشتريات بأكثر من عشر علب وأنا أغني: عطشان واسمع يا “حبق”.. عطشان.
في الشقة، سخّنت الماء، ووضعت الشاي، وفتحتُ إحدى العُلب بشراهةِ وعبثيةِ مدمنٍ سعيدٍ امتلكَ جرعتهُ أخيرًا. لكن السعادة لم تدم، ليس لأنني تذكرتُ جدتي مباشرة بعد أن فتحت العلبة، بل لأن الرائحة مختلفة، ليست رائحة حبق، إنها رائحة حميمة، تشبه رائحة جدّتي جدًا. مع الشعور بالإحباط وبخلفيةٍ موسيقية حزينة، في ذلك الموقف البائس، أخذتُ أعصر ذاكرتي بحزم، أنا أعرف هذه الرائحة جيدًا. أعرفها إنها مألوفةٌ وكثيرة في ذاكرتي الروائحية، أعني قِسْم الروائح في الذاكرة، أعني أن لها نصيبٌ كبير من تاريخي الشمّي. بعد دقيقة، لمبة صفراء أضاءت على رأسي عندما صحت:
وجدتها.. وجدتها!
ريحان؟
ريحان يا هاشم!
تخيل يا هاشم بعد هذه الشهور، وبعد ترديد اللفظة سبع مرات كل يوم قبل النوم. أشرب شاي بالريحان!
يالها من سخرية.
سكبتُ الشاي في حوض الغسيل بالمطبخ. لا طعم للشاي بلا حبق، ولا كتابة بلا حبق، ولا حبق في شيكاغو. أخذت أفكر، ماذا أفعل بكل هذه الكميّة من الريحان؟ الريحان هنا يستخدمونه مع السلطة وبعض الأطباق اللاتينية. وأنا لا آكل الريحان. تخيلتُ نفسي بقميص وإزارٍ ملوّن “مَصْنَف”، عاقصًا شالاً على رأسي مُعلقاً بضع أغصانٍ من الريحان على أُذنيّ، في زاويةٍ على ضفاف أحد الطرق الجبلية في إنديانا، أجلس وأمامي بضعة جوالين عسل للبيع! ثم تخيلتني أستخدم نفس الـ”Custom” كلبسٍ تنكري في عيد الهالويين.
بعد أربعة أشهر، أرسلت لي والدتي كيسًا كبيرًا من الحبق المجفف. وصلني عن طريق أحد الأصدقاء القادمين من السعودية. وبسبب ذات الكيس تأخر صديقي في المطار لساعة، بعد أن ظنّ المفتشون أنه ماريوانا. استقبلت صديقي. وقبّلتُ الحبق.
برد جدًا.
المدفأة في شقتي تعمل بشكلٍ شبه متواصل، لكن البرد مفرط.
البرد هنا يا شاهين مفرط.
صباحًا، أمشي على الرصيف. أرتدي قميصان قطنيان، جاكيت من الفرو والصوف، وآخر من القطن والنايلون للثلج، مع غطاء للرأس. شال عنق، غطاء للأذنين، قفّازات، ثلاثة جوارب، حذاء ضدّ الماء، وبنطلونان. أمشي كرائد فضاء، الجميع هنا روّاد فضاء، وشيكاغو قمر. قمرٌ مأهولٌ ومدنيٌّ جدًا. في هذه الحالة، حالة السير على الرصيف بردًا، أنت ستبكي حتمًا. أعني أنت ستدمع من شدّة التجمّد. تدمع دون شعور. جسدك يتخلص من السوائل عبر أنفك وعينيك. تدمع، وبعد دقيقة، ربما أقل، يتجمّد الدمع على مقلتيك. الطقس هنا يتلاعب بكلّ شيء. يتلاعب حتّى باللغة، بمفرداتها، دلالاتها. هنا لا تحتاجُ إلى منديلٍ لـ”تمسح” الدموع. أنت تحتاجه لـ”تقشّر” دموعك.
ممكن عود أسنان يا شاهين لو سمحت، لديّ دمعة عالقة أسفل رمشي السفلي الأيسر!
رغم أن ماما لم تسمع من قبل برحلة الشتاء والصيف. لكنها قالت اليوم في سبيل بدء محادثة؛ أنها تتمنى أن ترحل عن شيكاغو في الشتاء والصيف. أنت لا تعرف “ماما” ربما؟
ماريّا. العجوز اليونانية التي تملك وتدير هي وزوجها المطعم أسفل شقتي، “مايكس”. في اليوم الأول من سكني في هذه العمارة، التي تطفح برائحة التاريخ، طلبت منّي أن أناديها “ماما” كما يفعل الشباب من روّاد المحل، وزوجها “مايك” قال، يمكنك أن تناديني “بابا”. اليونانيون يستخدمون اللفظتين أيضًا لمناداة كبار السّن احترامًا لهم.
بعد الظهر. ماما تشتكي من كلّ شيء. من الطقس، من غلاء المعيشة، من إزعاج سيارات الإسعاف والإطفاء، من المتسولين، من الموسيقى المكسيكيّة، ومن الزبائن غير المحترمين. تقول غير المحترمين بلهجتها التشبه الإنجليزية الإيطالية، تقولها وهي تعني الزبائن الذين يغادرون دون أن يتركوا بقشيشًا. رغم أن اللوحة التي علّقها بابا على الزجاج خلف البار تنص على أنّ المحل لا يقبل غير النقد ولا يفرض البقشيش. لكنها تشتكي، وترفض أن تأخذ مني البقشيش، بل تغضب منّي إذا أعطيتها أكثر من حقّ السلعة، تقول أنني طالب، وعيسى يحبّ العلم. ثم تحضر لي “هوت دوغ” أو “شيز برغر” مجّاني وتأمرني بإخراج دفاتري وأبدأ بأداء فروضي المدرسية، قبل أن يجيء أصدقائي المكسيكان وأنشغل بلعب البلياردو.
ليلاً، قبل أن أنام بساعة، أحضِّرُ كوبًا من الشاي بالحبق، أتصفح الإنترنت، أقرأ ما تيسّر من الرسائل والنصوص، ثم أنام.
أحدث التعليقات