تم تقديم هذا الموضوع بتاريخ 24-8-2016 في منصّة (مُحترف الكتابة) خلال مهرجان حكايا مسك في الرياض.
كُنت كلما عدت إلى الرياض في إجازة سريعة خلال دراستي في أمريكا أقابل أسئلة من نوع “كيف شيكاغو والعصابات؟”، وأُجيب مصححًا: Chicago جميلة، وصدقني لا وجود لعصابات كما الأفلام” تصحيحي ليس للصورة النمطية الخاطئة عن شيكا؟ـو كمدينة غير آمنة رغم، بل هو تصحيح لطريقة نطق اسم المدينة، فلا وجود لحرف الغين في شيكا؟ـو!
يتساءل أحد الأطفال بعد قراءته قائمة الطعام المكتوبة بالعربية، لماذا يختلف نطقه لتلك الوجبة الغربية عن طريقة نطق النادل الذي يسجل الطلبات؟ لقد قرأها بشكلٍ صحيح، مكتوب برجر لكن النادل ينطقها بلا جيم!
الأمر محيّر جدًا خاصةً للذين لا يتقنون الإنـGـليزية، الذين يقرأون تلك الكلمات بحروف عربية، ويقعون في حرج عندما يقوم أحدهم بتصحيح نطق الكلمة. صحيح أن تعلُّم لغة أخرى أو أكثر أمر جيد، يحفز الذاكرة ويفتح آفاق جديدة للفرد، ولكن يجب ألا يكون الشخص مُجبرًا على إجادة لغة أخرى كي يقرأ، بشكلٍ صحيح، قائمة طعام مكتوبة بلغته الأم! يجب أن توفر له أبجديتيه المقابل المناسب لأصوات تلك الكلمات، هذا أمر متوقّع من أية لغة، لكن اللغة لن تقوم بهذا الدور لوحدها، فلم تقم الحروف العربية (بإضافة النقاط على نفسها) بل أبو الأسود الدؤلي من فعل، ولم تبتكر لغة الأوردو ذاتها، بل قرر حاكمٌ في دلهي أن يجمع كلمات وحروف ووضع قواعد لغوية يفهمها كل جنود دولته التي احتوت على 1652 لغة، ليكوّن لغة الأوردو التي تعني بالتركية “الجيش”. اللغة كائنٌ حيّ يعتمد على البشر كي يتغذى وينمو ويتطوّر بحسب متطلبات التفاهم لدى المجتمع، عندما تعجز أبجدية لغة ما عن التعبير عن كل الأصوات التي يستخدمها شعب تلك اللغة، فاللائمة تقع على شعبها الذي لم يقم بتحديثها كي تستوعب جميع الأصوات لديهم، حتى وإن كانت هذه الأصوات في كلمات مستوردة من لغات أخرى، فقد أصبحت جزء من ثقافة ذلك الشعب واستخداماته اليومية.
ما هي اللغة؟
ولأنه موضوعٌ حساس وقد يتداخل عند البعض مع الهوية والتاريخ والقدسية أو الثقافة العربية بشكلٍ عام، يجب أن نعود للخلف قليلاً ونبدأ بالتعريف.
فاللغة هي نسق من الأصوات المنطوقة اتفق عليه مجموعة من الناس لتشكيل كلمات تشير إلى أدوات وأحداث ورغبات، يُشار إلى كل صوت فيها برمز أو أكثر، وتعتبر أهم وسيلة للتفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع الواحد في جميع ميادين الحياة.
بهذا التعريف المبسط الذي يمكن أن يصاغ بطرقٍ مختلفة، نستطيع أن نتصوّر أن اللغة وجدت للتفاهم واستمر الإنسان بتطويرها لكي يتمكن من التعبير عن جميع أفكاره ورسم رموزها وحروفها لتشير إلى جميع الأصوات التي ينطقها، وفي المقابل ارتقت أفكاره وتطورت باتساع قالب لغته، فالأفكار العظمى تسجلها الشعوب التي تعرف كيف تتعامل مع لغاتها.
لمحة عن تاريخ اللغة والأبجدية العربية
إن مُعظم الأبحاث تُشير إلى أن الأبجدية العربيَّة نشأت وتطوَّرت من الأبجدية الآراميَّة، وأن أصول الحروف العربية كما نعرفها الآن، أُخذت من الأحرف الأبجدية الساميَّة الجنوبيَّة أو العربية الجنوبية، وأنَّها انتقلت إلى شبه الجزيرة العربيَّة عبر اللغة النبطيَّة في جنوب الشام.
فقد قسّم علماء الآثار اللغات العربية إلى قسمين عربية شمالية، وعربية جنوبية وتحت كل قسم تنسدل فروع لا حاجة لذكرها هنا. استعمل العرب الجنوبيون حرف النون كأداة للتعريف بوضعه آخر الكلمة (بيتن)، بينما استعمل العرب الشماليون حرف الهاء في بداية الكلمة كأداة للتعريف (هبيت) كما هو حال الآرامية والعبرية.
دلائل وآثار
أقرب النصوص القديمة للعربية الشمالية هو نقش النمارة الذي اُكتُشِف بجبل الدروز، مكتوب بالخط النبطي القريب من الخط العربي الحالي على ضريح امرئ القيس بن عمرو المؤرخ بـ328م.
الترجمة الصوتية | الترجمة |
«تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وجأ بزجي في حبج نجرن مدينت شمرو ملك معدو ونزل بنيه الشعوب ووكلهن فرس والروم فلم يبلغ مبلغه عكدي هلك سنت 223 يوم 7 بكلول بلسعد ذو ولده» |
تي نَفسُ (قبر) امرؤ القيس بن عَمرو مَلِكُ العرب، ولقبهُ ذو أسَد ومذحج. ومَلَكَ الأسديين ونزار وملوكهمْ وهَرَّبَ مذحج عَكدي (كلمة عامية تدمج الكلمتين “عن قضى”، بمعنى بعد ذلك) وجاء (اي امرؤ القيس) يزجها (يقاتلها بضراوة) في رُتِجِ (ابواب) نَجران، مدينة شمّر، ومَلَكَ معد (بنو مَعَدْ في اليمن) ونَبَلَ بنَبه الشعوب (عامل نبلائهم باحترام ولطف) ووكلهن (اي عين نبلائهم شيوخا للقبائل) فرأسو لروما (فاعترفوا بسيادة روما عليهم) فلم يبلغ ملك مَبلَغَه. عكدي (بعد ذلك) هلك سَنَة 223، يوم 7 بكسلول (كانون الأول)، يالِسَعْدِ ذو (الذي) والاهُ (بايعه او جعله وليا له). |
هنالك أيضًا نقش عين عبدات في صحراء النقب، ويعود تاريخه إلى القرن الأول بعد الميلاد، وقد نقشه شخص يدعى “جرم الهي” إذ كتب أول سطرين منه بالحروف الآرامية ثم قصيدة من ثلاثة سطور بالحروف النبطية، ووقعه في السطر السادس بالآرامي وجاء فيه:
الترجمة الصوتية | الترجمة |
ذكير بطب قرا قدس عبدت الها وذكير من ……………….. جرم الهي بر تيم الهي صلم لقبل عبدت الها فيفعلوا لافدا ولا اثرا فكن هنا يبغنا الموتو لا ابغه فكن هنا ارد جرحه لا يردنا جرم الهي كتب يده |
مذكور بخير القارئ قدام عبدة الاله مذكور من ………………………… جرم الله ابن تيم الله قدام عبدة الاله فيفعل لافدى ولا اثرا فكان ان يبغنا الموت لا ابغه فكان ان راد جرح لا يردنا جرم الله كتب بيده |
ونقش حرّان اللجاة جاء فيه «أنا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت ٤٦٣ بعد مفسد خيبر بعام»
وهناك نقوش أخرى في قرية الفاو عاصمة مملكة كندة وقد كتبت بالخط المسند وتعود إلى القرن الأول قبل الميلاد ووصف الباحثون لغة قرية الفاو بأنها “شبه سبئية” ومع ذلك فقد استخدموا الألف والميم كأداة للتعريف، وهذه الاستخدام لازال دارجًا في جنوب السعودية في منطقة تهامة وجازان.
ترتيب الحروف العربية
- الترتيب الأبجدي: ويتكون من حروف ذات الأصل الساميّ وأخرى عربية. أما السّاميّة فعددها اثنان وعشرون (22) حرفا وهي: أ، ب، ج، د، هـ، و، ز، ح، ط، ي، ك، ل، م، ن، س، ع، ف، ص، ق، ر، ش، ت. وأما العربية فهي ستة (6) أحرف أضافها العرب إلى الأصل السامي وانفردوا بها، وتسمى “الروادف” وهي : ث، خ، ذ، ض، ظ، غ.
- الترتيب الهجائي: وهو ترتيب شكلي يعتمد على الأشباه والنظائر -تشابه في الرسم- ويرجع هذا الترتيب إلى نصر بن عاصم الليثي بتكليف من الحجاج بن يوسف الثقفي. وهو كالتالي: أ، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ، ع، غ، ف، ق، ك، ل، م، ن، هـ، و، ي.
- الترتيب الصوتي: رتبت الحروف العربية ترتيبًا صوتيًّا بالاعتماد على مخارج الحروف، ويرجع هذا الترتيب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو الترتيب الأقل شهرة. – نظام الحروف فيه : ع، ح، هـ، خ، غ، ق، ك، ج، ش، ض، ص، س، ز، ط، ت، د، ظ، ذ، ث، ر، ل، ن، ف، ب، م، و، ي، أ.
اللغة والفكر
هنالك أمرٌ واحد لو اختفى من نسق الحروف والأصوات اختفت قيمتها، وهو الفكر. فاللغة قالبٌ لنقل الفِكر. يمكن للفرد أن يقدّس الفِكر، المعتقد، المعنى، ويؤمن به. ولكن في المقابل، فإنه مضيعة للوقت أن يقوم بتقديس لغة. اللغة كأصوات ورموز عشوائية خالية من الفكر، وليس من المجدي المفاضلة بين اللغات، وحدهُ الفكر الذي تحمله ما يستحق المفاضلة والمدح، الفكر الموجود في كتب الشعر، في القصص، في التاريخ، والفِكر الراقي، النبيل والسماويّ الموجود في القرآن، فقد قال تعالى في سورة الشعراء “وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)”، لم يقل بلسانٍ عربيّ مقدّس، ولا جميل ولا عظيم، بل مبين، أي واضح ويوصل لكم التعاليم السماوية يا مشركي قريش، كي لا تعرضوا عن الفكر الذي يحمله وتتحججوا بأنكم لم تفهموا معانيه لأنه بلغة أخرى مثلاً. والدليل على أنّ قيمة القرآن في الفكر الذي يحمله لا اللغة التي نقلته، ما جاء بعد تلك الآية “بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ(199)”، زبر الأولين لم تكن بالعربية، ومع ذلك فإن الله جلّ وعلا يؤكد أن الفكر الذي يحمله القرآن وهو سبب نزوله، موجودٌ في كتب الأولين ويعلمه علماء بني إسرائيل، ويقول أنه لو أن القرآن أنزل بالعربية على غير متحدثي العربية لما آمن به أحد، فاللغة ليست المؤثّر، بل ما تحمله من أفكار وتوجيهات.
وهنالك آيات وأمثلة أخرى وجميعها تشير إلى أن سبب نزول القرآن بالعربية هو أن نعقل التوجيه والفكر الموجود فيه لنتقِ ونعلم وندرك وننذر، لا أن نُقدس اللغة التي نزل بها.
ولأن اللغة تتطور، فتخفف فيها أصوات، وتقلب فيها حروف، وتستحدث كلمات، ولأن الأبجديات وُضعت لترميز أصوات شعوبها، فلماذا لا تتم إضافة وكتابة الأصوات المستخدمة لدى المجتمعات العربية إلى حروف لغتهم كأصوات إضافية لا أساسية؟ فقط لكي نتمكن من كتابة كل ما نقول من كلمات درجت على ألسن المجتمع، منها أصوات تتفرد بها اللهجة، ومنها ما يأتي في كلمات وأسماء أعجمية مستخدمة وليس لها مقابل عربي.
لماذا لا تتم ترجمة هذه المصطلحات إلى العربية؟
لأن الترجمة لا تنجح دائمًا، فالكثير من المصطلحات والأسماء المترجمة لم تحقق درجة الاستخدام الشعبي المرجوّ منها حتى في العصر الذي كان من المفترض أن تنجح الترجمة فيه، ففي القرن الماضي كانت الفرص مواتية، غالبية الدول العربية تنعم بالاستقرار، ذروة النتاج والحراك الفني والثقافي، مجامع عربية نشطة تقوم بدور فاعل، عدد الكلمات والمسميات الأعجمية الدخيلة قليل، البرامج التلفزيونية التعليمة تقوم بدور توعوي وتثقيفي على مستوى واسع، كان من المفترض أن تساعد كل هذه العناصر على إنجاح مشروع ترجمة أسماء المبتكرات الأجنبية، ولكن التاريخ يُثبت أن الشعوب تميل إلى تسمية الشيء باسمه، فالعالم أجمع يسمي الوجبة اليابانية سوشي بسوشي، فلم يأGــلزها الإنـGــليز، ولم يروسنها الروس، تمامًا كما هو الحال عند العرب فبقي الساندويتش ساندويتشًا لا شطيرة، وبقي الفاكس فاكسًا لا ناسوخًا. ربما تمكنت بعض الكلمات مثل الهاتف من النجاة ولكن ذلك لا يعني أنها دارجة أكثر من تلفون. كما أنه وقبل 1400 عام أتى القرآن الكريم بكلمات من أصول أعجمية أستخدمها العرب مثل قوله تعالى «عاليهم ثيابُ سندسٍ خضرٌ وإستبرقٌ وحلوا أساور» (الإنسان آية 21) فالسندس من أصل هندي وتعني الحرير الرقيق، أما الإستبرق فهي من أصل فارسي وتعني الحرير الغليظ، فالعرب يتقبلون الكلمات الأجنبية منذ ذلك الحين. فماذا عن هذا العصر؟ عصرنا الذي لا يمر أسبوع به حتى نفاجأ فيه بمسمى أو اصطلاح لابتكار جديد يسود ويُستخدم في أحاديثنا، بدءًا من “فيسبوك، وتويتر، وانتهاءً بانستـgـرام وسناﭘـشات” بالإضافة إلى المصطلحات التي تنشأ معها والتي قد نتفق على ترجمتها، كـ منشن وفالوو، وغيرها. ورغم أن نطقنا لمعظم أسماء هذه الابتكارات والأدوات يختلف عن طريقة كتابتنا لها إلا أننا إلى هذه اللحظة نصرّ على استخدام الأبجدية كما هي منذ مئات السنين للإشارة إليها بشكلٍ لا يعكس طريقة لفظها، فيما يتطور العالم وتدخل أصوات جديدة إلى معجمنا اللغوي المستخدم في تعاملاتنا اليومية دون أن نفرض المقابل لها في العربية. لا وقت أنسب من وقتنا هذا لإعطاء تلك الأصوات رموزًا تُضاف إلى أبجديتنا العربية كأصوات إضافية، تدخل في معاجمنا ومناهجنا التعليمية ونفرضها على شركات البرمجة والهاردوير كي تتحول إلى مفاتيح على الكيبورد، تسهل طباعتها وتسود كما ساد نطقها بين شعوبنا العربية.
الأصوات الثلاثة
هذه الجزئية تتمحور حول ثلاثة أصواتٍ أرى بأهمية توحيد استخدام رموزٍ عربية تمثلها في الكتابة، وهي الـP والـV والـG. إن ما يجعل أمر إيجاد الرموز سهلاً هو حقيقة أنها سبق وأن أضيفت لها رموز عربية جُلبت من لغات لثقافات قريبة ومجاورة لنا جغرافيًا، تلك الثقافات استخدمت رسم الحرف العربي للترميز إلى لغاتها التي تحتوي على هذه الأصوات، ومن ثم استعان العرب بهذه الرموز عند الترجمة الصوتية لكلمات أجنبية، مثل استخدام الحرف (ڤ) للدلالة على صوت الحرف (ـV)، وحرف الـ(پ) رمزًا لصوت الحرف (P)، ولكن كما يلاحظ الكثير أنه قلّ استخدام هذين الحرفين، وذلك لسببين: الأول هو غيابهما عن المناهج التعليمية، الثاني هو صعوبة طباعتهما على الكيبورد، وحده المتمرس لبرنامج الوورد والمهتم بصحة قراءة المتلقي لما يكتبه، من يتمكن من إيجاد الحرفين وطباعتهما. ولغيابهما عن مناهجنا واستبدالهما في الترجمة الصوتية بحرفي الباء والفاء، أصبح الكثير لا يفرقون بين الأصوات رغم اختلافها. أعرف أشخاصًا يتحدثون الإنـGـليزية بطلاقة ولكنهم يعجزون عن نطق الحرفين الـV والـP، وينطقون: Development مثلاً بالفاء، وParking بالباء، ويقعون حرج قول مالا يقصدون، فعندما تُنطق Parking بالباء يتحول معنى الكلمة من موقف سيارة إلى “نباح”. إن عدم استخدام الحروف المناسبة في الترجمة الصوتية لا يؤثر فقط على طريقة قراءة الكلمات بالعربية، بل يتجاوزه إلى التأثير إلى طريقة نطقك لكلمات في لغات أخرى إذا كنت مهتمًا بتعلمها.
الصوت الثالث والذي يزيد المسألة أهمية وذلك لكثرة الحروف المستخدمة للتعبير عنه هو حرف الـ(G)ـا. فمثلاً اسم الشخصية الهندية المشهورة Gandhi الذي درجت تسميته العربية الخاطئة بغاندي بسبب كتابته، أو محرك البحث Google، الذي لا نخطئ في نطق مسماه بسبب شهرة وعالمية لفظه وبسبب وجود صوت الݠاء في لهجاتنا العربية. ورغم وجود حرف (گ) الذي يرمز إلى الصوت المتمثل في حرف الـ(G)، إلا أننا لا نتفق على شكل عربي موحد لطريقة كتابته فنراها تكتب كـ: جوجل، قوقل، كوكل، غوغل، گوگل. جوجل يكتبها بعض أخوتنا المصريين بسبب واضح ومنطقي وهو صوت الجيم المصرية الذي يطابق صوت حرف G في الكلمة، وقوقل يكتبها بعض الخليجيين بسبب تخفيفهم في لهجاتهم لحرف القاف ليكون صوته مطابقًا لصوت الـG، وتختلف الحروف المستخدمة بحسب المرجعية الجغرافية للكاتب وخلفيته اللغوية.
مؤخرًا، قام مجمع اللغة الافتراضي، والذي يُدار على يد مجموعة من الأكاديميين وأساتذة اللغة برئاسة الدكتور عبدالرزاق الصاعدي، بإقرار رسم جديد لهذا الصوت، صوت القيف، على شكل (ق) بنقطتين أسفل الدائرة (ݠ)، وجاء في القرار “أن الصوت الواقع بين القاف والكاف الذي جرى على ألسنة أقوامٍ كُثُر من العرب قديماً وحديثاً ووصفه ابن قتيبة وابن فارس وابن خلدون يستحق أن يسمى: (صوت القَيْف) (وتنطق كلمة القَيْف على وزن السَّيْف، بنطقهم لذلك الحرف في لهجاتنا. وتم اختيار مصطلح (صوت القَيْف) لاختصاره ودقّته وبعده عن المناطقية والفئوية، لأن هذا الصوت شائع في مناطق متعددة ومتفرقة عند المشارقة والمغاربة. ولأن هذا الصوت يأتلف في نطقه ورسمه وينسجم مع أسماء الحروف العربية، وأنه صوت فرعي كما وصفه سيبويه وابن قتيبة وابن فارس وابن خلدون.” ومسوّغ القرار وفقًا لإعلان المجمع، “أن بعض القدامى في القرن الرابع يرسم صوت القيف بالكاف الفارسية (گــ) وبها رسم ابن دريد في الجمهرة وابن فارس في الصاحبي بيتاً لشاعرٍ تميميّ نجديٍّ بلغة القفقفة (ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوْمِ قَدْ نضجت) ولم تكن هذه الكاف الفارسية وجهاً أو اختياراً مناسباً، إذ نتج عنها انحرافٌ صوتيٌّ لهجيّ ولحن يتفاقم مع الأيام، وتحوّلت القَيْفُ إلى كاف خالصة، بسبب الرسم المشابه للكاف، وأسرعَ في ذلك تركُهم شرطة الكاف العليا فوقها تهاونا في أمرها، ورسمت القيف بكاف خالصة؛ لأنها غير مألوفة بشرطتها الفارسية الملتبسة بالفتحة، وحدث هذا التحوّل أو الانحراف الصوتي اللهجي في عدد من الأسماء في العراق والشام كثيرا، كالعلم (قاصد) ينطقونه بالقَيْف ويرسمونه بالكاف الفارسية، (گاسط) ولكنهم مع الأيام تناسوا أنها كافٌ فارسية واختفت الشرطة، فتوارثوا هذا الاسم وأمثاله بالكاف العربية (كاصد) فانحرف صوت القيف مع الأيام إلى كاف خالصة، ورأيتهم يكتبون (كاصد كريم) يعني قاصد كريم، ومثله (مطلق) كانوا ينطقونها في العراق كما ننطقها في لهجاتنا بحرف القيف، ولكنهم كتبوها بالكَاف الفارسية (مطلكَـ ) وتحوّلت مع الأيام بسبب وهم الكتابة إلى الكاف العربية، فكتبوها: (مطلك) ونطقوها بالكاف بدل القيف.” نهاية الاقتباس.
إن نشوء مثل هذا المجمع الافتراضي، أمرٌ مبهج، فنحن بحاجة إلى مرجعٍ لغوي مشكل من لجنة أكاديمية، يقوم بدفع دفة اللغة، هذا الكائن الحي، باتجاه التطور لتتماشى مع حاجات الناس ومتطلبات العصر اللغوية. فإقرار المجمع لصوت الݠيف يجعل المهتم منّا ملزمًا على توحيد كتابته العربية لهذا الصوت عند كتابة كلمات أو أسماء تنطق باللهجة العامية، أو كتابة ترجمات صوتية لكلمات أجنبية تحتوي على ذات الصوت. إن توحيد استخدام هذه الأصوات لا يتأتى بجهود المستخدمين للغة العربية وحدهم بل يحتاج إلى الجهود المنظمة والاتفاقيات على المستوى الرسمي، لذلك نتطلع إلى أن يتم تبني مخرجات هذا المجمع من قبل الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الحكومية لتحقيق الانتشار، فالمستفيد الأول والأخير هو نحن والأجيال القادمة الذين سيجدون أنفسهم مجبرين على الكتابة العربية مستخدمين حروف لغة أخرى، أو الاستغناء عن لغتهم إذا لم تنجح لغتهم الأم من احتواء ثقافتهم وتمكينهم من كتابة الكلمات تمامًا كما تُنطق في أحاديثهم.
هذه الخطوة بحاجة إلى دعم من المثقفين والإعلاميين والكتّاب وذلك باستخدام هذه الحروف والتوعية بها، كما تحتاج إلى دعم المصممين والمبرمجين لتصميم الرموز بكافة الخطوط العربية المتوفرة، وتعديل الترميزات الحالية للغة العربية في أنظمة الحاسوب والأجهزة الذكية كي تحتوي على الثلاثة أحرف (پ ݠ ڤ) بعد الاتفاق على مكان وكيفية الوصول إليهم في لوحة المفاتيح. حينها فقط سنتمكن من توسيع دائرة الوعي العربي، والتأكد من توحيد الاستخدام لهذه الأصوات عند الحاجة.
سأبدأ بكتابة شيكاݠو وإنݠليزي وسناپشات، متمنيًا ألا تستمر جهود توحيد رموز هذه الأصوات كمحاولات فردية تتنوّع ويكثر فيها الارتجال. أنا متفائل جدًا بجيل جديد واعٍ، فالتغيير لا يأتي إلا على يد من يتطلع إليه ويسعى إليه ولا يهابه، وهذا الجيل كبر وبين يديه أجهزه يتصفح خلالها جميع ثقافات العالم. التغيير يجيء منكم، جيل يحترم ثقافته وهويته، ولا يخشى التطوّر، لأنه يعي أن الارتقاء بالفِكر يتطلب تطويرًا لقالب لغته ليتّسع لكلّ الأفكار، والأصوات والمصطلحات التي يستخدمها مجتمعه.
موضوعات ذات علاقة:
القرار الحادي عشر: رسم حرف القيف: مجمع اللغة العربية: الأستاذ الدكتور عبدالرزاق الصاعدي
أبجديّة عربية
تاريخ الأبجدية العربية
خط المسند
أبجدية نبطية
خط الجزم ابن خط المُسند – محمد علي مادون
الفرق بين لوحة المفاتيح العربية 101 و 102
المحتوى العربي على الإنترنت بين الندرة والضياع
القصة القصيرة جدًا (ق ق ج) هي نوعٌ من أنواع السرد. ويتسم هذا الفن السردي بالاختزال الشديد وبمحدودية الشخصيات المستخدمة في القصة ومحدودية الأحداث. قد تقود ضرورة الاختزال النصَّ إلى الرمزية لتجنب الإطالة في وصف الحدث وقد تقود لغته إلى الشعرية، وفي الحالتين الأمر يعود إلى إمكانيات الكاتب ومدى استجابة فكرة النص إلى اللغة المستخدمة.
في زمن سرعة المعلومة، سرعة القراءة، الرسائل النصية القصيرة، والتويتر، وتعليقات الـ”على الطاير”، وجد هذا النوع السردي بيئته المناسبة للنمو برتم سريع، هذا لا يلغي أهمية وجمالية النصوص السردية الطويلة نسبيًا كالقصة القصيرة أو الطويلة جدًا كالرواية، فالكاتب يعرف جيدًا قيمتها ويجد راحته هناك حيث المساحة مناسبة لمخيلته الواسعة والباحثة عن الحرية وغياب الحدود. ولكنه مجبرٌ على تكييف قلمه لطريقة الحياة في عصره، ويتماشى مع متطلبات التطوّر الالكتروني الذي قاد إلى تغيير اجتماعي وثقافي كبير. بعض الكتاب سريعي البديهة فهموا تلك المتطلبات والمتغيرات، وأيقنوا أنه لكسب شريحة جديدة من القراء لأعمالهم الطويلة، عليهم دفع القارئ على البحث عما يكتبوه، وذلك باستعراض قدراتهم السردية داخل حدود وأطر الأماكن التي يتواجد بها جمهور اليوم، وذلك بتمرير قصص قصيرة جدًا في تويتر أو الفيسبوك، أو الواتساب وغيرها.
جربت كتابة الـ(ق ق ج) ونشرت بعضها في “احتمال وارد” عام 2007. ومؤخرًا زاد اهتمامي بهذا النوع السردي وقمت بالبحث في أروقة الإنترنت عن نصوص باللغة الإنجليزية، لم أتفاجأ عندما وجدت أكثر من اسم يُطلق على هذا النوع السردي وذلك لحداثته، ومن تلك المسميات:
Flash Fiction, Very Short Story, Nano Story, Nano Fiction, Micro Story and Micro Fiction.. etc.
كما لاحظت أن نسبة لا يمكن تجاهلها من المنشور باللغة الإنجليزية أو المترجم إلى الإنجليزية موغل في الاختزال لدرجة التخلص حتى من العنوان، لا شيء غير متن النص، وأنا أتفهم سبب القيام بذلك دون انحياز، فالداعي هو حقيقة أنها قصة قصيرة جدًا وسريعة كطلقة، كلمحة، كمفاجأة، والعنوان قد يقف عائقًا من تحقيق تلك المفاجأة. كما أن بعضها يُنشر في تويتر والمساحة هناك وطريقة تنسيق النص تجبرك على التخلص من العنوان والاكتفاء بتضمين مفهومه إلى النص، ولكن يبقى عائق الإشارة إلى النص في الفهرس عند نشره مثلاً في كتاب، فلا نستغرب أن تستبدل العناوين بالأرقام، ق ق ج 1، ق ق ج 2، إلخ.
ولكي أنهي المدونة بأمثلة، فقد قمت خلال الأشهر الماضية بترجمة بعض النصوص التي وجدتها في مواقع إنجليزية متفرقة ونشرت الترجمات على تويتر. وهنا سأقوم بجمع تلك التغريدات المتفرقة في مدونة لأرشفتها وحفظها في مكانٍ واحد للمن يهتم بقراءتها، ولحسن الحظ أن جميع ما قمت بترجمته إلى الآن معنوَن.
قراءة ممتعة!
-1-
My Father’s Mechanical Solution for Grieving, By Bob Thurber
الحل الميكانيكي للحزن عند أبي
وَصَفَ الأعجوبة بأنها جهاز يدويّ، دبوس صغير يحمل مروحة من المناشير الزجاجية. باستثناء أنها تعكس- عوضًا عن الضوء- ذكريات سعيدة. وادّعى أنها تعمل كالحلم، حلمٌ مطلق، تقوم بعرضنا سويّة، وكلنا على قيد الحياة، نلعب في الحديقة الخلفية، نثبُ من على البِرَك، ونتنقّل فوق أقواس قزح.
تأليف: بوب ثربر
-2-
Bedtime, By Juan J. Ruiz
وقت النوم
أبدأ بوضعه على السرير وتغطيته وهو يقول: “بابا، تأكد أنه لا يوجد وحوش تحت سريري”. ولتسليته أتطلع للأسفل وأراه، هو الآخر، تحت السرير، يحدق بوجهي مرتعشًا ويهمس، “بابا، هناك شخص ما على سريري.”
تأليف: خوان ج. رويز
-3-
Old Man At Prayer, By James Davis
الرجل العجوز في الدعاء
الوقت هو ما يقتله.
هو يطالب بالمزيد.
تأليف: جيمس دافيس
-4-
Voices, By Anonymous
أصوات
يقول دكتوري أن كل الأصوات التي أسمعها، هي في رأسي! كيف تمكن هو من الدخول؟
تأليف: مجهول
-5-
Bread, By Mathew Ferguson
خبزة
بمجرد انتهائك من قراءة هذا، سأكون خبزة.
رسالة انتحار الخباز.
تأليف: ماثيو فرغسون
-6-
The Dying Gasp of the Man Who Almost Had It All, By M. Stanley Bubien
الرمق الأخير للرجل الذي أوشك على امتلاك كل شيء
أنا… أريد…. كل… شيء ..
تأليف: م. ستانلي بوبين
-7-
Mama is in the Mirror, By Rebecca Danberry
ماما في المرآة
عندما كنتُ صغيرة، كان يراودني كابوس بشكلٍ متكرر، وفيه استُبدلت أمي بجنيّة تشبهها. لم أدرك الأمر، حتى بلغت الرابعة عشرة، عندما عرفت أن المسألة حقيقيّة… إذ رأيتها تحدّق بالمرآة، تبتسم وتغمز لأمي الآخذة بالصراخ.
تأليف: ربيكا دانبيري
-8-
Advance in Cloning Disclosed: Lab Yields Lamb with Human Gene, By H.G. Wells
اكتشاف متقدّم في علم الاستنساخ: مختبر لإنتاج أغنام بجينات بشرية
بدأتُ بخروف، وقتلته بعد يوم ونصف. أخذتُ خروفًا آخر، وتمكنت من خلق شيءٍ مكوّن من الألم والخوف، ثم تركته مقيّدًا حتى يتعافى. رغم أنه بدا بشريًا على نحوٍ تامّ بالنسبة لي، ولكني كنت مستاءً جدًا. إن هذه الأشياء المسكونة بالخوف والمدفوعة بالألم، ليست مناسبة أبدًا لصناعة الرجال.
تأليف: هـ. ج. ويلز
-9-
For Sale, By Ernest Hemingway
للبيع
حذاء طفل، لم يُلبس أبدًا.
تأليف: إرنست همينغوي
-10-
Individuality, By Mike Moser
شخصية
شخص: “هيه يا رجل، يبدو أنك تحاول أن تأخذ شخصيتي!”
شخص: “إذا كان بالإمكان أخذها منك، فأنت عديم الشخصية”
شخص: ” هذا ليس ما يقوله الناس!!”
تأليف: مايك موسر
-11-
PENGUIN PIGEON, By Steve Cushman
الحمامة البطريق
وأنا أقود تحت الجسر شاهدتُ طيرًا رماديًا وقلتُ بطريق. ضحكتْ زوجتي وقالتْ حمامة، مكررةً ذلك، حمامة، كما لو أنها كانت تتحدثُ إلى أحمق. تَنَهدَتْ واستدارتْ نحو النافذة تحدق بشيءٍ لم أتمكن من رؤيته. طرأ على بالي أن أقول بأنه كان خطأً، مجرد زلة لسان*، بالطبع كنت أعرف الفرق بين البطريق والحمامة، ولكن الوقت لطرح وجهة نظري بدا أنه فعلاً قد فات.
* في الإنجليزية يوجد تقارب صرفي بين الكلمتين بطريق وحمامة Penguin Pigeon
تأليف: ستيف كوشمان
-12-
FORTY-FOUR GOATS, By Simon Harris
أربع وأربعون مِعزة
وفقا للتقاليد، كانت هناك ثلاثة خيارات: الزواج أو الانتقام أو الماعز. رفضت عائلته اقتراح الشيوخ بأن نتزوّج بحجة أن عشيرتنا أدنى. وقد نوقش خيار الانتقام، ولكن، لطالما كان القتال مكلفًا، وإذا ما بدأ قد لا ينتهي أبدًا. قد يتقاتلون من أجل الماء أو الإبل، ولكن ليس النساء. وهكذا تبقى خيار الماعز.
القانون العرفي يحتّم أن يكون عدد المعزات اللازمة لتسوية المسألة أربع وأربعين. وصلتْ اليوم، جلبها عمه وأبناء عمومته بينما بقي الرجل في قريته. انتظر والدي جوار البوابة يتابع من خلف ستارة النافذة. بدى سطح المنزل المقابل خاليًا ولكنني أعرف أن اخوتي يختبئون هناك. فقد أعطاهم والدي تعليمات بقتل الجميع إذا ما شاهدوا إشارته. مع أي إساءة أو كان العدد أقل من الأربع وأربعين معزة المطلوبة، قال لهم والدي، أنه سيطلق النار، بمسدسٍ يحمله وراء ظهره، على أقرب رجل، وبعدها على إخواني فتح النار.
بدأتُ العد بمجرّد رؤيتي للماعز، ولكن لم يكن الأمر سهلاً من مسافة بعيدة. عندما يتحركون كقطيع، تختبئ الصغار منها وراء الكبار، ويتقافزن فوق بعضها البعض باستمرار، مجموعة من المعزات الصغيرة يتصارعن تحت أمهاتها بحثًا عن حليب أو لمجرد تجنب الدهس. بمرور أبناء عمومته واحدًا تلو الآخر تجاه خُدّامنا لبدء العد، أغمضتُ عينيّ ودعوت الله أن يكون العدد ناقصًا.
تأليف: سايمون هاريس
-13-
I Was a Soldier, By Brian E. Turner
كنتُ جنديًا
قفزت في حفرة للهرب من المعركة ووجدته هناك، كان يرتدي زيّه الأزرق، وأنا أرتدي زيي الأخضر. تطلّع إليَّ بألم في عينيه ونطق كلمةً بلغتي (ساق). أصيبت ساقه بالقرب من الكاحل. عظم مكسور وجلد مترهل. لا دم، مجرد كدمات زرقاء. أخرجت علبة إسعاف من حقيبة عتادي وقمت بتضميده قدر المستطاع. إذا لم يصله طبيب، فإن الغرغرينا ستفعل، جلسنا هناك في صمت. (سيجارة؟) أخرج علبةً من جيبه، وقدم لي واحدة. سجائر زرقاء. أشعل كل منا سيجارته وجلسنا ندخن بصمت. (زوجة) سحب صورة مطوية ومتآكلة من جيبه ومدها إليّ. بدت بملامح صارمة، امرأة غامضة تقف جوار طفلٍ يرتدي مَيْدَعة. أريته صورة ميتزي بشعرها الأشقر تقف تحت ضوء الشمس. ابتسم، وضغط بها على قلبه ثم اعادها إليَّ. جلسنا في صمت. خَفَتَ ضجيج المعركة وتصاعدت صيحات متفرقة للرفاق بأن المنطقة آمنة. التقطت بندقيتي، أطلقت رصاصة تخللت قلبه. إنه العدوّ.
بقلم براين إ. ترنر
-14-
Shod, By Christopher Kennedy
منتعل
مشيت بدهاءٍ إلى أقاصي الأرض، وقابلتُ رجلاً قال لي شيئًا استثنائيًا. قال “قد يكون عملاً عبقريًا، أو ما هو إلا الغباء المعتاد منتعلاً حذاءً باهظ الثمن.” رددت، “منتعلاً؟” كما لو أنها كانت أغرب ما قال.
تأليف: كريستوفر كينيدي
-15-
The Fool Who Invented Kissing, By Doug Long
الأحمق الذي ابتكر التقبيل
ضربها بالهراوة وجرها لمدخل الكهف. كرِهَتهُ بشدة. قام بغسل وجهها، وفك قيودها، وأعطاها آخر لحمة على النار. بدت اللحمة أشهى. شعر هو الآخر بالجوع، فانحنى يلعق أصابعها الدسمة، ثم وجهها، عبرت شفتاه من على شفتيها، توقف، ثم تلامستا مرة أخرى.
بدءًا من اليوم التالي، لم يتوقف عن قتل اللحم لأجلها.
تأليف: دوغ لونغ
شرفني الصديق الكاتب عبدالله الزماي بالمشاركة في تحقيق قام بإعداده ونشره في جريدة الرياض، العدد 17263، الثلاثاء 29-9-2015، قد لا ينطبق عنوان التحقيق عليّ بما أنني لم أرتكب جرم الرواية بعد، وقد يكون سبب وضعه من باب الجمع مع الأغلبية بما أن ثلاثة من أصل أربعة مشاركين هم روائيون. أما محور التحقيق فقد كان كالتالي: بصفتك ساردا ولأن السرد كثيرا ما يتقاطع مع السينما ما هو الفيلم السينمائي المفضل بالنسبة لك؟ أو الذي أثر فيك بشكل عميق؟ وكيف كان ذلك الأثر؟ أرجو التحدث عن هذا الموضوع بحدود مائة كلمة.
تحقيق عبدالله الزماي
كثيرا ما تتقاطع الرواية مع السينما، وكثيرا ما اعتمد أحدهما على الآخر أو تأثر به، فيتأثر الروائي بالسينما ويتأثر السينمائي بالرواية وهكذا. “ثقافة اليوم” التقت عددا من الروائيين للحديث عن أفلامهم المفضلة تلك التي تركت في ذاكرتهم أعمق الأثر.
الروائي السعودي بدر السماري أشار عن أكثر الأفلام التي لمست بداخله أعمق المناطق، حيث قال :” هناك العديد من الأفلام التي أحببتها وأحدثت تغييرا ما علي ككاتب سردي، وسأكتفي بالحديث عن فيلم”castaway”. قصة الفيلم بسيطة، مسؤول في شركة شحن ينجو من حادث طيارة ويصبح وحيدا في جزيرة نائية لعدة سنوات، ويبقى أكثر من نصف الفيلم وحيدا. قوة هذا الفيلم تكمن في القدرة على صنع دراما بوجود إنسان واحد، وكيف أبدع كاتب السيناريو في خلق شخصية إضافية وهي كرة الطائرة التي رسم عليها البطل وجها ومنحها اسما “نيلسون”، بوجود هذه الشخصية، خلقت مع البطل العديد من المشاهد المؤثرة، وكان من أهمها حين حطمت العاصفة قارب النجاة الذي صنعه البطل للعودة، وكاد “نيلسون” (الكرة) أن يبحر بعيدا عن الشاطئ. الأمر الآخر المدهش في الفيلم هو تشبث البطل بالحياة بعد الكارثة، وكيف أصبحت الحياة ثمينة حين رأى الموت، كيف أصبح كل شيء له قيمة عند البطل نولاند؟”. وأضاف السماري :”هذا الفيلم مدرسة في صناعة الدراما وصناعة حدث دون أدوات كثيرة، الفيلم لم يكن حول كارثة تحطم الطيارة ولكن ما بعد الكارثة .. هو بلا شك أحد الأفلام المغايرة، والتي تجلى فيها الكاتب والمخرج، وعلى رأسهم المبدع “توم هانكس”، وأظن انه قدم أحد أبرز أدواره السينمائية”.
القاص السعودي خالد الصامطي تحدث عن آخر الأفلام العظيمة التي شاهدتها بقوله :” سيكون من المجحف بحق ذائقةٍ توّاقة وعين نهمة، وبحق تاريخ سينمائي مثقل بأعمالٍ خالدة، أن أفضّل فيلمًا واحدًا فقط. ولكن، سأتجاوز التفضيل وأتحدث عما شاهدته هذا الأسبوع، وهو (إن شاء الله- Inch’Allah ) فيلم من إنتاج فرنسي كندي (2012) يعرض القضية الفلسطينية من وجهة نظر “كلوي” طبيبةُ نساء وولادة وهي تزاول نهارًا مهنتها مستقبلةً الحوامل في عيادة تابعة للUN تحت الحصار والقصف والفقر حيث تتلاشى كرامة الإنسان، وفي المساء تقف في طابور أمام نقطة تفتيش جيش الاحتلال، لتعود إلى ما خلف الجدار الفاصل حيث شقتها. تحاول الطبيبة العيش بحياد مقاومة صراع أفكارها، بين صديقتها الفلسطينية “رند” الشابة الفلسطينية الحامل، وبين صديقتها وجارتها الجندية الإسرائيلية “إﭬا”. أما الأثر الذي خلفه الفيلم، هو سقيا بذرة القضية بذاكرتي، بعد أن جففت أنانية الروتين تربتها، فبعد الفيلم نمت بداخلي شجرة زيتون مرةً أخرى.
كما تحدث الروائي الكويتي عبدالوهاب الحمادي عن عدد من الأفلام العالمية وأنه يعيد مشاهدة بعضها كثيرا. يقول :” ثمة مخرجين لا أترك لهم فيلما إلا وأنتظر عرضه وإن عرض أعدته مثنى وثلاث ورباع الخ…منهم؛ وودي آلين الساخر اليهودي/النيويوركي الذي عشق جزيرته التي تحكم العالم ماليا. ستيفن سبيلبيرج والإثارة الغامرة في أفلامه مثل؛ كاتش مي إف يو كان وغيرها والتي لا تفلت من مبحث يدعو للتفكير كفيلم ميونخ. مارتن سكورسيزي وتعاونه مع روبرت دينيرو ثم المبدع ليوناردو ديكابريو. وغيرهم من مخرجين. لكن ثمة مخرج ينسج أفلامه بحرفية عالية أستمتع بها وقد صنع الفيلم الأحب لقلبي: روبرت زيمكش وفيلمه فوريست غمب. الذي شاهدته -ربما- ثلاثين مرة.. منذ رأيت فوريست الصغير يركض وأنا أنسى الزمن عندما أشاهد هذه البانوراما التاريخية لوطن بطولاته هزائم في حق الإنسان. فوريست غمب يعبر كما عبر أجداده قبله محطات التاريخ الأمريكي المهمة منذ الهنود الحمر وصولا للأيدز أو الثمانينات، يشتبك في أهم اللحظات دون أن يلقي بالاً للصدفة التي رمت به. فيلم متقن استحق عليه توم هانكس الأوسكار. هناك فيلم كاست أواي لنفس المخرج والممثل وأفلام أخرى لاشك عشت معها لحظات ماتزال عالقة في الذاكرة. إلا أن صرخة: رن فوريست رن ماتزال الأثيرة لدي”.
كما اختار الروائي السعودي علوان السهيمي هذا الفيلم ليتحدث عنه بقوله :” الرجل العجوز يجلس على كرسي متحرك، تقف أمامه فتاة صغيرة وتسأله: كيف يمكن أن أكون كاتبة؟، نظر إليها العجوز وقال، إنني لست مقعدا، إن ما أقوم به حيلة، أنا أستطيع القيام الآن والركض أمامك، إنني أذهب في الأوقات التي لا يكون فيها أحد للمشي في الشوارع، إنني بهذه الطريقة، عندما أمثّل دور المقعد أتهرب من الضريبة ومن أشياء أخرى، لكنني في الحقيقة أستطيع المشي، وأجيد لعب الكرة، وأمارس حياتي بشكل طبيعي، حتى يراني أحدهم فأعود إلى كرسيّ، يمكنك أن تفكري كيف يمكنني أن أسير، وأعيش حياتي كأي سوي، فبدأت الفتاة تتخيل، فشاهدت الرجل العجوز وهو يركض ويمشي بشكل طبيعي، ويمارس حياته بكل أريحية، فذهبت، فصدمت من كلامه فذهبت إلى المنزل، في اليوم التالي عادت لتطلب منه قائلة: أريد أن أكون كاتبة؟ فرد عليها، هل تتذكرين كيف تأملت حياتي وأنا أسير على قدمي كأي إنسان طبيعي؟ قالت نعم: قال هذا ما تحتاجينه لتصبحي كاتبة، إنه الخيال، لأنني في حقيقة الأمر عجو مقعد”، بهذه الطريقة البسيطة والعميقة يعبر الممثل العجوز الأسمر مورجان فريمان لتلك الفتاة الصغيرة كيف يمكن أن تصبح كاتبة، في فيلم The Magic of Belle Isle الذي يحكي قصة كاتب روائي يريد العودة للإلهام الكتابي، فيسكن في كوخ بعيدا عن الناس بجانب أسرة مكونة من أم عازبة وثلاث فتيات، وكيف يمكنه في النهاية أن يصل إلى مراده”.
استدامة الأعمال والتعافي من الكوارث، هذا اسم إحدى المواد التي حضرت جزئيها في فصلين دراسيين متتاليين أثناء دراستي للماجستير. وهي باختصار تعطي دارسها أدوات تساعده على التخطيط المحكم لتجاوز الأزمات والكوارث. ما يجعلني أذكر تلك المادة الآن في مطلع هذه المدونة القصيرة، هو حقيقة ظهور صورة معلمة المادة العجوز ساندي في مخيلتي كلما أردت أن أضرب مثالاً على الفكرة التي تقول أن مستقبل الإنسان محكوم بمدى تفاؤله. لا أعرف إذا ما زالت ساندي على قيد الحياة، لأنه أمرٌ محيّر إذا ما أخذت شخصيتها في الاعتبار، ولكنني أتفاءل بأنها حية ترزق، وأنها بحكم التخصص تنجح دائمًا من التعافي من كوارث الحياة التي تجذبها أفكارها.
أذكر أنني كنت أشفق عليها كثيراً، ليس لنحولها وبروز عظامها، ولا لطيبتها وتشتتها الجلي حال الحديث، ولكن لأنها كانت، بالنسبة لي، أول نموذج حي جعلني أفكر بالحديث القدسي القائل “أنا عند حسن ظن عبدي بي”، ومقولة “تفاءلوا بالخير تجدوه”، وكثيرة هي النصوص والأقوال التي تؤكد على أن مستقبل الإنسان رغم ضبابيته يمكن تجهيزه من خلال أفكارنا، في أدمغتنا التي نشكلها لتكون إما مصانع للحظ السعيد أو مصانع لتعاسة الحظ. يقول بوذا، “يتم تشكيلنا وفق أفكارنا، فنصبح ما نفكر به. عندما يكون العقل نقيًا، تتبعه السعادة كظل لا يغادر أبدًا”.
وفي عقل ساندي كانت تسكن كل كوارث الدنيا من حرائق وزلازل وبراكين ولصوص وحروب وفيضانات، تفكر بها كل يوم وتعلم الطلاب كيف يضعون خططاً للتأهب والتأقلم، بحيث تُمكن المنظمات، التي سيعمل هؤلاء الطلاب لصالحها بعد تخرجهم، من التعافي المبكر من المصائب وضمان استمرارية أعمالهم مع أقل قدر من الخسائر والتأثيرات المادية والمعلوماتية.
عندما كنت على مقاعد الدراسة، أخبرتنا ساندي أنها تدرس المادة منذ أربعة عشر عامًا، وهي التي أسستها في الجامعة وأضافتها إلى مواد التخصص. لم تكن معلمة سيئة على الإطلاق، بل تمكنت من جذب انتباهنا باستطراداتها بالأمثلة التي لا تنضب، ليست أمثلة من تاريخ وتجارب الشركات الكبرى وحسب، بل كانت أمثله نابعة من تجارب شخصية، فهي التي احترق بيتها مرتان، وتعرض للسطو أربع مرات، وسقط عمود كهرباء على حجرة نومها مخترقًا النافذة، وتعرضت لأكثر من عشرة حوادث سير، وكادت تغرق يومًا، وأصيبت بعيارٍ ناري طائش وهي تسير باتجاه محطة القطار في أحد أحياء العصابات وبرأسها تحوم الأفكار الشائبة وتتبعها تعاسة المصير كالظل الذي لا يغادر أبدًا.
أن تجيء متأخرًا خير من ألا تجيء أبدًا.
قادتني المصادفة البحتة والصفحات التي تجر بعضها إلى مقال تركي الدخيل المعنون بـ(عبده خال .. المدينة تدمر الخيال!) والذي نشر في جريدة عكاظ يوم الخميس الموافق 27 مارس 2014، ورغم مرور ثمانية أشهر على نشره إلا أن الموضوع شخصية المقال تجبرني على التوقف وترك انطباع وأتمنى أن يصل دون أن يُربط بـأي انتماءات غير عشق السرد واحتفاءً برواده. وبما أن باب التعليق على المقال مقفل، فقد آثرت نشر التعليق مستقلاً في رصيف.
عبده، كما هو قامة أدبية عملاقة احتفى بها العالم العربي، فهو كما وُصف في المقال إنسان خلوق ومتواضع يجبرك على احترامه. إنه من الكتاب القلة الذين تعجب بنتاجاتهم الأدبية وعندما تلتقيهم تؤخذ بشخصياتهم الساحرة والمؤثرة، هو أيضًا ذو حس مرهف ويتضح ذلك في كتاباته التي لا تخلو من معاناة، حب، صراع طبقي، فقر وحالات إنسانية لا يستطيع القبض عليها، تجريدها، وتصويرها بذلك الأسلوب السردي سوى شخص عاشها أو عايشها ولمسها في حيوات الناس البسطاء حوله، كما يستطيع المتابع له ملامسة ذلك في حديثه ومراعاته لنوعيات المتلقين على اختلاف أيدولوجياتهم.
شخصيًا، أكنّ لعبده خال الكثير من الاحترام، وهو أحد الشخصيات الأدبية التي يعود إليها الفضل في تعلقي بالسرد، كانت “مدن تأكل العشب” الرواية التي جرتني إلى نهم القراءة وعشق الكتابة. شكرًا تركي على حفاوتك بهذا الرجل، فمثله يستحق الإشادة. تمنياتي لك ولعبده الصحة وراحة البال.
كنت أجلس مع أحد الأصدقاء قبل أيام، والذي بدوره كان يمارس الكتابة بشكلٍ متواصل ثم توقف، وتحدثنا عن غياب هاجس الكتابة. وفي منتصف الحديث لاحظت أننا نعرف المشكلة جيدًا، ولكننا حين تحدثنا عن السبب، كنا ندور في مساحة كبيرة مليئة بالأسباب التي تنطبق على كلينا أو تنطبق على أحدنا دونًا عن الآخر. بعدها بأيام هاتفتُ أحد الأصدقاء لسؤاله عن أمرٍ ما، في نهاية المكالمة سألني عما إذا ما كتبت شيئًا جديدًا، فأخبرته أنني لم أعد أفكر ككاتب. وأنا فعلاً لم أعد أفعل. وما قيامي الآن بمحاولة الكتابة عن مشكلة عدم الكتابة إلا محاولة أخرى لتجاوز هذا المأزق.
المأزق يتلخص في خمول منطقة من الدماغ كانت تقوم بعملية غربلة وتحليل خاصة لجميع المشاهدات والأحداث والتجارب اليومية والتقويم السريع والتلقائي لمدى صلاحيتها للكتابة. وأعني إما كتابتها كفكرة مستقلة أو استخدامها بداخل نص آخر كفكرة داعمة أو كما هي بشكلها المجرد كجملة بهارية لإضافة نكهة معينة على ذلك النص.
خمول هذه المنطقة يوقف القدرة على الكتابة الإبداعية، لكونها المرحلة التي تقوم بجمع كم لا بأس به من الأفكار الصالحة للكتابة وتنتهي بإضافتها إلى جدول أولويات الشخص، لتتحول إلى بند ينتظر التطبيق.
كل بند من مكونات ذلك الجدول الافتراضي في الذاكرة، يستمر كهاجس يحتاج إلى حسم. فتجد الفكرة تقبع على سبيل المثال بين هاجسيّ: لا تنسى أن تحضر ثيابك من المغسلة الليلة، ولابد أن تدفع فاتورة الجوال قبل قطع الخدمة، فتكون بينهما مثلاً كهاجس يخبرك بشكل مستمر:
– إن فكرة صوت التنسيم من رأس رجل، بحاجة إلى كتابة.
– يجب التخلص من تلك الفكرة خلال نص حالاً. يمكنك أن تكتب أن الصوت تسسسسس يلفت انتباه كل من يعبر جواره.
– يا رجل ابدأ بكتابتها على الأقل!
– ليس بالضرورة أن تنهيها اليلة، المهم أن تبدأ! قل مثلاً أنه يشعر بألفة لا يعرف سرها كلما مر من أمام باب محل البنشري.
ويستمرّ الهاجس بالإلحاح حتى تنفذ طلبه أو يقوم بلخبطة أفكارك ويفقد أصدقاؤك القدرة على فهمك وقد يتجنبون اتصالاتك مستقبلاً!
وكما أنك لن تتمكن من الذهاب إلى عملك بلا ثوب، ولن تتجاهل دفع فاتورة هاتفك أيضًا، فأنت حتمًا لن ترتاح حتى تنجز تلك الفكرة التي لم تعد مجرد حاجة للكتابة، بل أحد البنود التي قام النظام بتصنيفه ضمن قائمة من الأولويات المهمة التي تصدر تنبيها طوال الوقت، حتى عندما تحيل مود رأسك إلى الصامت، فتقض مضجعك، وإن تمكنت من النوم أخيرًا، فهنالك احتمال كبير أن تستيقظ منتصف الليل بشكلٍ مفاجئ وقد حلمت بالفكرة وكيفية البدء بكتابتها، وتجد نفسك تباشر الكتابة حينها على أقرب نوتة أو شاشة.
هذا وصف لآلية عمل تلك المنطقة التي تقوم بأهم إجراء لدى كل من يمارس الكتابة، الإجراء المولد للحافز، وهو ذاته الإجراء الذي اكتشفت أن طبيعة عملي والحياة جعلتني أتجاهله حتى تعرض للخمول الآن. وأصبحت أقود السيارة عائدًا للبيت من العمل وأنا أفكر بالعشاء، أو الاشتراك في نادي وعدم الذهاب، وأحيانًا أفكر بلا شيء تمامًا، فأستفيق من نوبة الخمول الكلية للدماغ أمام باب البيت وأنا أوقف السيارة، وأتساءل: كيف وصلت؟ ربك ستر!!
ثمة الكثير من الأسباب التي أدت إلى تحويل مسار جميع الأفكار المستوعبة وجعلها تتجاوز ذلك الإجراء الذي يشكل الفارق بين الكاتب الإبداعي وكاتب العدل، واكتشفتُ أن هذه الأسباب التي اعتقد بمسؤوليتها تحيط ببعض ممن أعرف من الكتاب ومع ذلك لا زالوا ينتجون ويشاركون في الحراك. وهذا ما يقلقني.
إن من أهم تلك الأسباب المؤدية للخمول، هو نشوء إجراء جديد يقوم بتحليل الأفكار الصالحة لمهام ومشاريع الوظيفة والتزامات العائلة، وكيفية الاستمتاع بنهاية الأسبوع بعيدًا عن شاشة كمبيوتر وأزرار الكيبورد. فالعمل في وظيفة تستهلكك لفترة طويلة من اليوم ولا تغادرك آثارها وتبعاتها حتى وأنت في بيتك، هو أمر يجبرك على إعادة ترتيب قائمة اهتماماتك. فحتى عندما تتفرغ أخيرًا لنفسك وبيتك ومن حولك، تكون في مزاج يستثقل مجرد التفكير بتشغيل اللابتوب أو قراءة كتاب، كل ما ترغب به هو إراحة ظهرك ومدّ قدميك على صوفا طويلة أمام التلفاز، مشاهدة مسلسل كوميدي أو فيلم جديد أو برنامج وثائقي على إحدى قنوات OSN قبل أن تنتقل إلى مباراة كرة قدم لتجهز نفسك لموضوع قد يسألك عنه زملاءك الموظفين غدًا. وإن كان هنالك متسع للخروج تلك الليلة، فلن يكون لحضور أمسية أو اجتماع بنادٍ ثقافي، بل تفضل تناول كوب شاي أخضر مع أقرب الأصدقاء أو الذهاب للعب البولينغ أو الفرفيرة حيث تجتمع الشلّة البعيدة اهتمامات أفرادها عن الكتابة.
لا أخفيكم أنني أشعر بالأسف على ذلك، أعني على غياب هاجس الكتابة، رغم اقتناعي التام بمنطقية وأهمية الأشياء الأخرى التي أمارسها الآن، لأنها السيناريوهات الوحيدة التي تتماشى مع جدول الأولويات الجديد والمفروض علي بسبب الالتزامات القانونية والاجتماعية.
ولكن الحقيقة هي أنني أفتقد الكتابة لأجل الكتابة ولأجل الفن والمتعة، أفتقد اصطياد فكرة نص قصصي، أفتقد طفرة الوقت، وترف الساعات أمام شاشة اللابتوب أو خلف دفتي كتاب. وأتطلع إلى يومٍ أستطيع فيه إدارة الوقت بمدينة لا أستطيع إدارة مدة المشوار فيها بين العمل والبيت أبدًا، رغم التكرار اليومي إلا أن الشوارع لا يمكن التنبؤ بها، وعدم التفكير خلال القيادة حل أفضل من الصراخ على قائد المركبة المجاورة.
أعدت قراءة هذا المقال، ولاحظت مدى تأثير العمل على طريقة الكتابة هنا وعرض الفكرة، ففي هذه المنطقة الجديدة، وخلال هذا الإجراء التحليلي الجديد، تعبر أفكار من يعمل على مشاريع نظم وتقنية المعلومات طوال اليوم. وبعد أن أنهيت الكتابة، فكرت لوهلة أن أجعل العنوان:
Inactive Process in Thoughts’ System Flow
ولكني تراجعت.
بعد الثانوية، عملت في حقل مبيعات الخضار والفواكه لسنتين، فبدأت بسنترال في ثلاجة تستورد الفواكه، وانتهى بي الحال أبيع الخضار ما بين البسطة في عتيقة وسوق الجملة في العزيزية. وكنتُ أبحث خلال تلك الفترة عن جامعة تقبلني. كنتُ أسافر لكل كلية تفتتح أبوابها للقبول في أية منطقة، وأعود خائبًا. أما والدي الذي لم يتقن، رغبةً منه، لغة الواسطة، فكان يذهب معي في بعض محاولات التقديم داخل الرياض برجاء الأب وصور شهادتي ومستقبل مجهول. بعد سنتين، أي عام ١٤٢١، دخل معي إلى مكتب عميد القبول والتسجيل في جامعة الملك سعود، كان يوم الاثنين حيث يستقبل سيادته المواطنين ويستمع إليهم كشيخ قبيلة. قام أبي، في محاولة مبتكرة ويائسة، بعرض رسوماتي على العميد وهو يقنعه: “اقبلوه في كلية الفنّ التشكيلي، الولد رسام.” حدث أمرٌ غريب وجديد حينها، حيث قام سيادة العميد بإلصاق ورقة صفراء على ملفي بعد أن وقع عليها:
“الرجاء عمل اللازم”
كانت أول مرة أقرأ فيها هذه الجملة السحرية التي جعلت من موظفي القبول والتسجيل ينهون إجراءات قبولي خلال ساعة واحدة. لم أكترث حينها بصرفهم إيايَ، كسبعة هاص مقطوعة واللعب صن، إلى كلية الزراعة، ولم أتمادى كثيرًا في تحليل العلاقة بين الرسم والشجر، فربما كان دافعهم هو التصاق بعض أوراق الفجل والخسّ بملابسي، ولكن المهم أنني قُبلت، وسأستدرك الأمر لاحقًا وأقوم بالتحويل إلى كلية اللغات والترجمة.
لم تتمكن مخيلتي اللزجة من نفض تلك الجملة التي كنت أجهل لعامين أنها حل لمشكلتي -وسأكتشف مستقبلاً أنها حلّ للسواد الأعظم من مشاكل الناس في السعودية- أمست تزورني في الليل نائمًا، أراها بسقف الحجرة، ثم تتشكل على الصدّامات الخلفية للمراكب السائرة أمامي في طريقي إلى الجامعة، وكنتُ أحلم بعالم توزع فيه تلك الأوراق الصفراء بالمجان عند الإشارات كالماء والتمر في رمضان، ثم انتهيت بكتابتها على دفاتري خلال الفراغات بين المحاضرات وأتبعها بلقب مراهق متحمس:
“الرجاء عمل اللازم.. ذكريات المشتاق ٢٠٠١”
مرّت السنوات، وشاهدتُ تلك الورقة أكثر من مرّة على معاملات الأصدقاء والأقرباء، وبدأ المنطق بفرقعة نفسه كثيرًا ودائمًا في مخيلتي، وفكرت: إذا كان الإجراء لازمًا، فلماذا يتمرمط الناس ويفرقعوا أنفسهم ويتوسلون في سبيل الحصول عليه؟
كم هو سخيف أن تُختَصر حقوقك وأحلامك في جملة على ورقة صفراء يكتبها من يصنع سعادته بتطبيل المساكين ودعواتهم. كم هو محبط أن تتحوّل أحلام الشباب السعودي من أن يكونوا مهندسين وأطباء ومحاضرين في الجامعات ومشاركين في خدمة البلد وسكانه، إلى أن يكونوا رجالاً كاملي الدسم يقضون أيامهم بتجاهل مصالح الناس ويكتفون بحل الكلمات المتقاطعة وإلصاق الأوراق الصفراء على المعاملات في أيام تتنزل عليهم الرحمة، وأنا لا أتهم هنا العميد حينها بتجاهل مصالح الناس ولكن أنا أتحدث بعمومية، فكم هو مخجل أن تتحول حقوق الناس من مطلب يجب توفيرها ومعاقبة المقصرين في تحقيق عدالتها، إلى صدقة تمنح لهم بمنّة.
وكم أنا متحمس، لأن أخبركم الآن، أن جميع سكان السعودية من مواطنين ومقيمين سيحصلون على ثلاثة كراتين ممتلئة بجميع حقوقهم “اللازمة”، إذا ما توقفوا عن طلب الواسطة والتطبيل لكاتبي تلك الأوراق البالية، فقد انتهت صلاحيتها وصلاحية أقلامهم الفاسدة، فمن الآن وصاعدًا، سنكتب ونطالب بحقنا وحق الوطن بأنفسنا.
لأننا لو نشعر بذلك، برغبتك الواضحة في عودتنا، لن يفكر أحدٌ، مجرّد التفكير، بالبقاء في الغربة. سنعود وليست الشهادة التي تدفعنا إلى العودة، فهي لا تتجاوز كونها ورقة لا تختلف عن مثيلاتها التي عُلقت لأجيال على جدران إدارات مؤسساتك يا وطني، تلك التي أنتهك بعض حامليها بنيتك التحتيّة ولعبوا المونوبولي ببيوتك الشعبية وغير الشعبية، ووزعوا بيادقهم على شطرنج مخططاتك، ثم تركوك عاجزًا أمام تهديد السحاب، الزائر الخفيف الذي يأتي مرةً في العام. سنعود وليس من المهم معرفة مسميات الدول التي درسنا بها، أو مواقعها على الخريطة، ولا مدى ارتباطها بالوثن أو اهتمامها بالقبلة، ففي النهاية هي دولٌ تعترفُ بحقّ الإنسان بها، الذي كرّمه الله عن بقية الخلق. سنعود إذا أردتنا أن نفعل، ولكننا لا نسمع صوتك يا وطن، هل ترغب في أن نعود؟
لقد تعلمنا الآن يا وطن، أليس هذا هو الغرض من خروجنا في بادئ الأمر؟ لقد تعلمنا أن نفصح عما نريد. العلاقة بين الناس لن تنجح إذا ما كانت الرغبات والشكاوى لا تُفصح، وإذا قيلت كُممت الأفواه وفتحت أبواب الزنازين لمساجين رأيٍ وتوجُّه. لقد تعلمنا في الغربة أن نعرف ما لنا وما علينا، حتّى حقّك علينا يا وطن عرفناه هنا، ذلك الحق الذي أشغلنا عنه صخب شكوانا. لقد عرفنا قيمتك عندما غادرناك، ولكننا نخسرك بمجرد أن نصل إلى جمارك مطاراتك.
لأنه من تلك الأصوات التي تصل، أصوات الفنانين الذين كبرنا وارتبطت ذكرياتنا وأحداثها بأغانيهم، من غاب منهم لم تغب عنّا أعمالهم، ومنهم من لا يزال يصنع الفنّ الذي يمس حياة الناس البسطاء، ويوزّع الذكريات على أسماع هذا الجيل، كما فعل مع الجيل الذي سبقه. إنها الأصوات التي تغني تفاصيل الحياة اليومية، تحكي قصص الكادحين، وتصبّ برد الاطمئنان على قلب المكبوت والمُنهك من حياته، أغانٍ تدوّن أحداث المجتمعات وتُرقّم صفحات كتبُ تاريخنا بالنوتة الموسيقيّة. تلك الأغاني التي تتجاوز ردة فعل سماعها التحرّك العاطفي لتصل إلى درجة التحرّك بفيزيائيته، كما فعلت أغنية الفنان اليمني أيوب طارش “وا مفارق” الأغنية التي نادت الغائب اليمني وهيّجت في ذاكرته صورة الأرض، الوطن، ونكأت جروحًا كان يواريها في غربته وأيوب ينادي: “الحزن بعدكم أطفأ شموع المسرّة، والندى في الحقول يبكي على كل زهرة.” سمعها المغتربون اليمنيّون وعاد الكثير منهم بسببها، مئات الآلاف كما قيل. ورغم تباين أعداد المغتربين العائدين وكثرة الأقوال حولها، وعدم وجود أي معلومة موثقة، إلاّ أنَّ مجرّد فكرة أنْ تُعيد أغنيةً ما ولو عشرة أشخاص، فإن ذلك كافٍ لأن يجبرني على رفع القبّعة احترامًا لفنانين كهؤلاء، تمامًا كما رفعتُ القُبّعة للفنان “حسين الشبيلي” الذي وجدتُ نفسي أكتبُ له هذه الرسالة وأنشرها عوضًا عن إرسالها.
عرفتُ حسين الشبيلي عام 2005 حين جمعتنا العاصمة السودانية الخرطوم، خلال المهرجان الثقافي للشباب العربي العاشر، حيث ذهبت مشاركًا ككاتب قصة، وكان الشبيلي مشاركًا ضمن طاقم فرقة الفنون الشعبية السعودية. عرفتهُ راقصًا شعبيًا مذهلاً، يبتهج بخطواته على الأرضِ مطبطبًا على كتفها، راسمًا بحركاته تفاصيل ريفها وجبالها وأوديتها وصحرائها وبحرها، مؤديًا طقوس امتنانه للحياة عليها، فالأرض لا تفهم من لغة البشر سوى خطوهم، والرقصُ كما يؤمن “زوربا” لغةٌ تفهمها كل الحضارات. وكانت الوفود العربية المشاركة تجتمع مساءات المهرجان الجميلة، خارج إطار الفعاليات، في جلسات غناء، طرب أصيل لفنانين تشترك الذاكرة العربية في حفظ أغانيهم، يؤديها عازفون من دولٍ عربية مختلفة وبآلات موسيقية متنوعة، يعزفون ويغنون بصوتِ الكل، وبصوت الفرد. لم أكن المُفاجَأ الوحيد عندما التقط حسين العود وأخذ يشارك الجمع بالعزف والغنّاء، ولكن، رغم فنية أدائه وروعته، لم يخطر في بالي حينها أبدًا أنني سأتفأجأ به مرةً أخرى عندما أستمع إليه بعد خمس سنواتٍ من وراء بحور وعلى بُعد آلاف الأميال. ذلك يجعلني أفكر: الفنانون الحقيقيون هم الذين يُجيدون صُنع المفاجأة أكثر من مرّة.
خلال ليلة باردة من ليالي شيكاغو وجدتُ الدفء في أغانيه على موقع اليوتيوب عن طريق صدفةٍ أجمل من ألفين وخمسة مواعيد، حيثُ أرفقَ الصديق مصلح جميل في أحد المواقع الاجتماعية رابط أغنية له. الأغنية عُنونت بـ”كلما جاني عريس”، على لسان امرأةٍ أربعينيةٍ تشتكي استغلال والدها الذي أغلق عليها وأخواتها أبواب الزواج كي لا يشاركه أحد في رواتبهن. ثم بدأتُ أستمع إلى أغانيه الموجودة على الموقع واحدةٍ تلو الأخرى، لأٌفاجأ بهذا الفنان الذي يكتب ويلحنّ ويغني هم الإنسان الكادح كوحدة أساسية في أي مجتمع.
لقد غنى حسين التفاصيل المألوفة من حياة مجتمعه، يجاري الشارع في مدينته، يجاري الأب الذي يجلس على همومه الصدئة في دكانه ويستمع إلى مثل هذه الأغاني، والأم التي تقف على كدرها ساعاتٍ في صباحات مليئة بالطبخ والنفخ والتنظيف، غنى الشجر، الوادي، القرية وغنّى الأصحاب. حتى الحبّ غناه ببساطته، بتفاصيله الصغيرة التي نسيناها، فبكاءات المحبين أمست مستهلكةً ولم تعد مقنعة، لقد انحدرت كما انحدر الغناء مع كثرة المغنين لا الفنانين، وطغيان الفكر التجاري والربحي على الفكر الفنّي إلى أن حوّله إلى مسخ آخر في زحام ثقافي يحتاج إلى غربلة. وبعيدًا عن ذلك الزحام، هناك في الحارات الصغيرة، والقرى المترامية، بداخل السيارات التي تسير بفجاجة مسجلات كاسيت ونوافذ تٌفتحُ بالهندل، تصدح أصوات فنانين يغنون ما يحكي تلك الحياة، ويمس أولئك الأشخاص، كلامًا يألفه السامع وصوتًا يطربه، عندما يغنون عن الشتاء والطفولة وطائرات الورق، كما يفعل علي بن محمد ويغني عن المدرسة وطابور الصباح، كما فعل أيوب، وكما يفعل حسين الشبيلي.
ربّما لأنه يرغب أن يمثل لسان مجتمعهِ وثقافته، قدّم حسين الشبيلي أغلب أغانيه بلهجته التهاميّة أو لهجة الكثير من قرى ومحافظات جيزان، وبألحان من المخزون الموسيقي لمنطقته الريفية. هذه هي الأصوات التي تبقى، والكلمات التي تمسّ شيئًا في دواخلنا. فنانون، مطربون وشعراء، يعزفون ويكتبون ذاكراتنا القديمة، وانتماءاتنا البعيدة جدًا، بُعد شيكاگو عن الطرشية. فشكرًا يا حسين الشبيلي، صوتك وصل.
خالد الصامطي
27 يناير 2010
محاولة للتفكير بصوت عالٍ..
“الترجمة طريق مختلف، بشكل مثير للانتباه، يمكنني من الاهتمام بالشعر وباللغة التي وجدت نفسي أعيش بداخلها معظم الوقت، أعتقد أنهما يغذيان بعضهما البعض.” -مارلين هاكر
في أحدى جلسات جماعة السرد بأدبي الرياض قمنا بتخصيص جلسة، مع بداية انطلاقة النشاطات الأسبوعية، لقراءة قصص عبرية مترجمة، كان ذلك في شهر يونيو من عام 2005 -وأنا أكتبُ التاريخ أدهشتني حقيقة أن خمسة أعوامٍ مضت هكذا (وفرقع بإصبعيه الوسطى والإبهام)- حيث قمت بترجمة بضع نصوص قصصيّة عبرية إلى العربية. كانت المسألة تدريبًا جيّدًا على الترجمة الأدبية. ولا أخفي أنني وقعت عدّة مرات، خلال عملية الترجمة، في حيرة، وخصوصًا عندما أقف على مسألة تتعلق بترجمة جزئية من ثقافة اللغة العبرية إلى ثقافة اللغة العربية، ومصطلح ثقافة اللغة يُعنى بثقافة أهل اللغة خلال حقبة كتابة النّص ويغطي ذلك زمن أحداث النّص نفسه، وقمتُ كما يقوم أيّ مترجم بالمساومة والصلح بين الثقافتين، ذلك الصُلح الذي لا يخلو من الخيانة، الخيانة التي يقوم بها أي مُترجم. وعلى الرغم من أن الخيانة فعل سلبي صادم، إلا أنه مع الترجمة فعلٌ متلازم لأي عملية نقل، ولولا الخيانة لما تمكّن أحمد النجفي وأحمد رامي من إظهار رباعيات الخيّام بذلك الشكل الإبداعي الباذخ، لغةً وفكرةً وبناءً. عمومًا، منذ تجربتي تلك إلى تجربتي مع الإنگليزية الآن، انظم هاجسٌ جديدٌ إلى القائمة التي تنتابني حالَ الكتابة السردية، هاجس قد يشاركني فيه أيّ سارد مهتمّ بعلوم اللغة، وهو قلق الترجمة، فيغلبني أحيانًا وأغلبه أحيانًا أخرى..
رابط المقال المنشور في صحيفة إيلاف الإلكترونية، بتاريخ 30 أبريل 2010
“يرغب وزير التجارة والصناعة السعودي بالاجتماع والحديث مع الطلاب السعوديين المبتعثين في شيكاغو ويدعوهم للمشاركة مع اللجنة التنظيمية للمنتدى.” هذا ما قاله “موسى” صديقي وشريكي في السّكن، وهو يسألني إذا ما كنت أرغب بالذهاب معه والتطوّع بمساعدة منظميّ “منتدى فرص العمل السعودي الأميركي”، أجبته بالإيجاب، وكنتُ أفكر: هل أحضر كطالب، أم صحافيّ؟ الحقّ، أنني بمجرد سماعي لاسم وزير التجارة والصناعة عبدالله زينل، فكرتُ باقتناص الفرصة، والحديث معه في حوارٍ سريع على هامش الفعاليات رغم أنني أعرف عن حرصه الدائم على ترك مسافة طويلة بينه والصحافة، لأسباب نجهلها ولا يرغب سيادة الوزير بالتصريح بها. حزمتُ دفتري وقلمي والكاميرا في حقيبة الظهر، ولبست ابتسامةَ طالبٍ ممتن، وفي القطار كتبتُ أسئلتي وأنا متجهٌ إلى فندق شيراتون حيث تقام فعاليات المنتدى.
في اليوم الأول، الأربعاء 28 أبريل 2010، قابلت سكرتيرة وزير التجارة وأخبرتها عن رغبتي في الحصول على عشر دقائق مع الوزير لعمل حوار سريع حول المنتدى وقضايا أخرى متعلقة بعمل الوزارة. وعدتني بالرد عليّ هاتفيًا عندما يجد الوزير فرصة. فعقدتُ أملي حول ذلك الوعد، ثم اتجهت إلى القاعة حيث يجتمع الحفل.
خلال انتظار وجبة الغداء توزع الحضور على الطاولات، وعلى المنصة وقف الوزير عبد الله زينل ملقيًا كلمته الأولى إلى جموع الحاضرين. تحدث الوزير عن امتنانه وشكره للمشاركين من تجار ومسؤولين ومنظمين من الدولتين. “العلاقة بين السعوديّة وأميركا علاقة استراتيجيّة، صلبة، وسوف تستمر في التطور خلال السنوات القادمة. أنا أثق أنّ شراكتنا سوف تنجح في تجاوز الكثير من التحديات. هذه الشراكة المبنية على القيم والاحترام المشتركان والالتزام بالعمل جنبًا إلى جنب.” قال ذلك زينل بالإنجليزية وهو يقف ببدلته الرمادية موزعًا نظراته على الحضور، كمتحدثٍ محترف. “تركيزنا في هذا المنتدى، من الجانب السعودي، هو بناء ثقافة وفكر رأس مالي. إن هذا الجهد التعاوني بحاجة إلى أن يتحول إلى تعاون مؤسساتي، خصوصاً الآن، حيث يتعافى الاقتصاد العالمي، كما سمعنا من وزير ماليتنا اليوم.” ويواصل قوله ” تتوقّع السعودية بنهاية عام 2010 أن تستقبل 23% من إجمالي الصادرات الأمريكيّة للدول العربية، والذي قد تصل قيمته إلى 75 بليون دولار، وذلك يدل على أنّ السعودية هي السوق الأول في المنطقة، ويحتمل أن يصل رقم الصادرات الأمريكية إلى الضعف مع عام 2015، الأمر الذي يساعد على خلق مليوني وظيفة للشعب الأمريكي.”
“إن القطاع الخاص السعودي، الذي يمثله اليوم 250 رجل وامرأة أعمال، حضروا إلى هنا متحدين السحب والرماد البركاني في سماء العالم -وأنا فخور أنهم فعلوا ذلك- هذا القطاع سوف تتخطى مساهمته القطاع الحكومي والقطاع النفطي في الاقتصاد الكلي للسعودية.”
ثم واصل الوزير متحدثًا عن خطة السعودية لتخفيض اعتمادها على عوائد تصدير النفط، حيث أن ارتفاع الطلب على الطاقة في المملكة العربية السعودية قد يقلل إلى حد كبير من قدرتها على تصدير النفط إلى باقي دول العالم على مدار العقدين المقبلين كما صرح بذلك، قبل أيام، خالد الفالح، الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية. وقد قال الوزير في هذا الخصوص: “لتعجيل التنويع، وتخفيض نسبة الاعتماد على النفط، فإن المملكة العربية السعودية تعمل على تحسين نسبة المحفزات الربحية. فإن تسلّق سلّم القيمة سيكون الموجِّه الرئيسي لنا، لِهذا، بالرغم من أنَّ قطاعنا البتروكيمياوي وصل إلى الحقيبة العالمية، إلا أننا نستهدف الصناعات التي ستطوّر سلسلة البتروكيمياويات، مثل هندسة البلاستيك ومنتجات أخرى عالية القيمة. باختصار، السعوديّة ستتحولّ من كونها مجرد محطة وقود للعالم، إلى مختبر متطوّر للإبداع والبراعة والمعرفة.”
تحدث الوزير عن العمل الجدي الذي يظهر على الواقع الآن لفتح فرص استثمار كبيرة، والتي ستضاعف عوائدها المادية خلال العقد القادم، وأن لدى السعودية الإمكانيات والقدرة الاستيعابية لتحقيق ذلك. ثم أشار إلى أهمية تحويل سمة العمل الاستثماري والخط الإنتاجي إلى ما يخدم الإنسانية ويخفض نسبة التلوث البيئي والاحتباس الحراري. ثم انتقل إلى الحديث حول التعليم، وذكر أن أهم دور تقوم به الحكومة السعودية هو التركيز على الإنسان أولاً، حيث أنها تقوم ببناء جيل جديد من الشباب والشابات ذوي معرفة عالية، من خلال برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث. وأن السعودية تصرف ربع ميزانيتها على قطاع التعليم، وقال أنه “في نهاية عام 2006 كان هنالك 8 جامعات حكومية، وفي نهاية عام 2009 قفز ذلك الرقم إلى 25 جامعة. وعدد الطلاب السعوديين الذين يدرسون في الخارج زاد إلى سبعة أضعاف، وسيكون منهم 29 ألف طالب وطالبة سعوديّة في الولايات المتحدة فقط مع نهاية عام 2010″ ثم تطرق الوزير إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST) وعن الدور الريادي الذي ستسعى له من خلال توفير بيئة خصبة للبحث العلمي والتطوير المعرفي، وعن نظرة الملك عبد الله في أن تكون (KAUST) ضمن قائمة أفضل الجامعات العالمية، وأن تصبح بيتًا من المعرفة ومصدرًا للتنوير.” ثم ختم زينل كلمته باقتباس للرئيس الأمريكي السادس عشر، أبرهام لينكون: “أَنا أشدّ المؤمنين بالناس. يمكن الاعتماد عليهم في مواجهة أي أزمة وطنية إذا ما قيلت لهم الحقيقة. النقطة العظيمة هنا، هي أن يتم إعطاؤهم الوقائع الحقيقية.”
سعدتُ كثيرًا بسماع ذلك، فتبني سيادة الوزير لهذا الاقتباس جعلني أطمئن لحقيقة استعداده إلى مواجهة الصحافة والناس والإجابة على أسئلتهم، وتبادل الحقائق معهم.
في اليوم الثاني من فعاليات المنتدى، تلقيت اتصالاً من سكرتيرة الوزير، حيث أمليتُ عليها المحاور التي أنوي التطرق إليها خلال الحوار، ولكنها قالت أنها لا تعدني بإمكانية إجراء الحوار، فجدوله مزدحم. وبعد ظهر ذلك اليوم، كنتُ أجلس مع بقية الطلاب في اجتماعٍ مع الوزير، في إحدى قاعات فندق شيراتون، على هامش الفعاليات. تحدث الوزير عن تجربته كمبتعث سابق، وعن الحظوظ الجيدة التي تنتظر المبتعثين في الحصول على فرص وظيفية قيادية، وعن المستقبل المشرق للبلد، وأكّد على أن الحكومة السعودية تعوّل على المبتعثين كثيرًا عند إنهاء دراستهم. وقال أنه يجب الإيمان بأن التكنولوجيا لا تقود دفة الاقتصاد بل تستخدم للوصل إلى الأهداف الاقتصادية.
كما صرّح بعض الطلاب برغبتهم في اكتساب خبرة بالعمل في شركات أمريكية على الأقل لعامٍ واحد لاكتساب خبرة بالإضافة إلى ما تعلموه، بحجة أن التعليم وحده لا يكفي، وأنهم لابد أن يعيشوا بيئة عمل فهي المدرسة الحقيقية، كي يتمكنوا من تطبيق معرفتهم عند عودتهم إلى بيئات عمل الشركات السعودية مستقبلاً. ولكن المشكلة التي تواجه الطلاب هو أن الشركات الأمريكية مع الأوضاع الاقتصادية المتدنية حاليًا، لا تقوم بصرف رواتب للعاملين من خلال برامج الدورات، الأمر الذي يجعل من بقاء الطالب للعمل هنا بدون دخل أمرًا مستحيلاً، ووعد الوزير الطلاب بأنه سيقوم بالنظر في الموضوع، وربما بدء مناقشات لتوفير فرص عمل تدريبي للطلاب السعوديين في أميركا بمقابل، حتى لو اضطرت السعودية إلى توفير النصف والشركة الأمريكية النصف الآخر راتب المتدرب.
ثمة أسئلةٍ كثيرة تبحث عن إجابة، وأنا متأكد أن هذه الأسئلة والمطالبات يشاركني بها الكثير. للأسف أنه تم تجاهل رغبتي بالسؤال خلال اللقاء، وعند نهايته، سألتُ الوزير إذا ما كان بإمكانه إعطائي عشر دقائق من وقته للإجابة على المحاور التي ذكرتها لسكرتيرته، فأجاب:
أنا لا أجري حوارات مع الصحافة.
ثم جاء صحافي من جريدة سعودية معروفة، وسلم عليه، وطلب منه أن يقول انطباعه عن المهرجان ونجاحه والإنجازات الرائعة فيه وبقية الديباجة الأدبية، فوافق سيادة الوزير، وسألته عن ذلك، فقال:
أنا أعرف هذا الصحافي من زمان.
وبختُ نفسي على عدم تمكني من التعرف على سيادة الوزير من زمان. وبقيت أحمل أسئلتي عن تضخم الأسعار التي وعد بالقضاء عليها منذ تسلمه المنصب في 2008 وأسئلتي حول غياب كبير من معظم التجار عن مساعدة المتضررين في فيضانات جدّة، والنازحين في مخيمات أحد المسارحة إثر الحرب مع الحوثيين، وأسئلتي حول استغلال أغلب التجار للمصائب التي تحلّ بالناس هناك في سبيل مضاعفة تجارتهم، وأسئلتي حول دور التاجر في البرامج التطوعية والتوعية الاجتماعية. وبعد أنهى سيادة الوزير حديثه مع الصحافي الذي يعرفه من زمان، اعتذر عن عدم قدرته للحديث معي، فنثرت الأسئلة في حقيبتي وغادرت.
مجمل الكلام الذي نقلته هنا على لسان الوزير، كان كلامًا متفائلاً، وجميلاً، ويدل على عقلية واعية وإنسان ذو فكر اقتصادي متقدم. ولكن الغريب، أن الوزير رغم هذه القدرة الحوارية العالية، وحضوره الجميل، يرفض الحديث مع الصحافة، في قضايا تهم المواطن، الإنسان الذي يجب أن يعرف الحقيقة، كما قال ذلك في نهاية كلمته خلال اقتباسه مما قاله أبرهام لينكون.
أخيرًا، في القطار وأنا عائدٌ إلى شقتي، أخرجتُ ورقة الأسئلة، وكتبت في نهايتها اقتباسًا للرئيس الأميركي الثالث، توماس جيفرسون:
“إذا ما ترك لي الخيار في تقرير إما أن نحظى بحكومةٍ بدون صحافة، أو بصحافةٍ بدون حكومة، فلن أتردد للحظة في تفضيل الأخيرة.”
في رسالةٍ إلى صديق، كتبتُ بشكلٍ مختصرٍ عن اللغة والتنقيط (كترجمة للكلمة الإنجليزية Punctuation) أو الترقيم -كما يقول بها البعض- وأهميتها في النصوص الإبداعية بالنسبة للقارئ المهتمّ بها، المعتمد عليها لترتيب منطقيّة ما يقرأ، لن أقول القارئ المحترف، فثمة قرّاء نهمين لا يشكل التنقيط والنحو لديهم فارقًا كبيرًا، وباختصار، حديثي موجهٌ إلى الكاتب الذي يراعي تأثير هذه الأدوات على ذائقة القارئ المهتم بدلالة كلّ كلمة والعارف بوظائف كلّ علامة أو رمز داخل النّص، وعندما أقول “النص” فأنا أعني النّص الإبداعي المقروء. وجدتُ، بعد أن أنهيتُ الرسالة، أن هذه المعلومات –البديهية لدى البعض- تستحقّ النشر، ثمّ شدّني تعقيب على أحد النصوص يقول كاتبه بأن محاكمة اللغة والتنسيق في النصوص الإبداعية محاكمة غبية! وأن الفكرة هي الأهم. ها أنذا أضيف على الرسالة، وأنشرها لمن يرغب الفائدة.
اللغة في السّرد:
الإنسان كائن لغوي أولاً وأخيرًا. والعالم تحوّل إلى صحن مليء باللغة. حيواتنا حدث طويل نمارس فيه الحركة والشهيق والزفير واللغة. أنا لا أقلل من شأن الفكرة، بالعكس، أنا أرجح كفّة الفِكرة أكثر من اللغة، ولهذا قرأت كل ما وقعت يدي عليه من أعمال “الصادق النيهوم” الذي تحدّث عن هذين المكملين لبعضهما، اللغة والفكر، كثيرًا، ورغم أنه يقول أن اللغة قالب الفِكر، لكنه أبدًا لم يلغِ أهميتها ووجوب فهمها وتطويرها كي تجاري فِكر متحدثي اللغة. لولا إلحاح الفكرة لما ابتكر الإنسان اللغة، ولولا اللغة لما أوصلنا أفكارنا للآخر ولحيينا نشهق ونزفر ونفكر ونفكر، ثم نفكر أكثر، ثم نموت. النيهوم نفسه اهتمّ بلغته بقدر اهتمامه بفكرته، وبذلك القالب السردي الجميل استطاع أن يقود أفكاره للقارئ بكل عذوبة. واكتشفتُ أنني قرأت أعماله، وصفّقت لمقالاته، وأعجبت بأفكاره، أولاً وأخيرًا، لأنه عرف كيف يقدمها لي في طبقٍ لغويّ مشوّق جميل، متقن الصنع.
بعد عامين من البحلقة والتطلع باتجاه عمودٍ رخامي من زوايا مختلفة، نحت مايكل أنجلو تمثال ديفيد. لم يستخدم إزميلاً واحداً ولم يضرب الرخام بارتجالية، استخدم أزاميلاً متعددة، وكلّ ضربة عنت أمرًا وأوصلت جزءًا محددًا من الفكرة، وصنعت فرقًا مكّن العمل بأن يظهر بذلك الشكل البشري المذهل. وعلى شارعٍ آخر من نفس المدينة، وبعد سبع سنواتٍ -وقيل أكثر- من العمل على اللوحة، منها كما يشاع أربعُ سنواتٍ على الابتسامة فقط، أنهى ليوناردو دافنشي الموناليزا، وترك العالم لخمسمائة عام يتساءل: كم ريشة استخدم دافنشي في رسم هذه المرأة؟
هذا هو الإخلاص في العمل الإبداعي، رغم أنه فنّ مختلف ويتطلب وقتًا وجهدًا أكثر من كتابة نص، ولكن نحن نعرف جيدًا أنه كان بإمكان مايكل نحتَ رجل عريان في أسبوع، وهو ذات الوقت الذي قد يتمكن فيه دافنشي من رسم سيدة مربربة جالسة كالأهبل. ولكنهم قضوا الوقت يفكرون بالعمل، ثم قضوا وقتًا يتصورون العمل، يعملون، يختارون الأدوات، ويصححون ثم يتقوفون ويقولون للناس: شاهدوا هذا العمل الفني، للتوّ أنهيناه.
أنا أحبّ القراءة، وأحبّ الكتابة، وأفكر بقراءة ما لم يُقرأ وبكتابة ما لم يكتب في زمنٍ كُتب فيه كلّ شيء وقُرئ. وأحترم من يحترم هذا الفن من ممارسيه، واحترامه برأيي يأتي بإثبات الفنان أنه حريص على كلّ مقومات النص الإبداعي، بدءًا بالفكرة، مرورًا باللغة، وانتهاءً بعلامات الترقيم داخل النّص.
يالها من خسارة فادحة، صديقي الكاتب، أن تقدم لنا فكرتك العظيمة في لغة تخذلها وتأكل نصف حقيقتها، أو تشوّهها وتدخل عليها معنىً يقطع الحبل الأخير في أمل وصولها كما أردت. وأنا كقارئ، كيف أستطيع أن أحاكم الفكرة بحد ذاتها؟ كيف أستطيع أن أفصل الفكرة عن اللغة إذا كانت الفكرة في السرد لا يمكن أن تأتي إلاّ في لغة!
الحياة مليئة بالأفكار يا أصدقائي، ولكن السارد الناجح هو الذي يوصلها في قالب جيد يستطيع القارئ دون عناء أن يفهمه. بالنسبة لي، لم تكن الفكرة يومًا هاجسًا بقدر ما كانت الطريقة التي أستخدمها في التعامل مع الفكرة. الأفكار داجنة، قال ذلك منصور العتيق مجيبًا على سؤال بعد أمسية أقيمت له في جمعية الثقافة والفنون بالرياض في شهر أبريل من عام 2004 أي قبل ستّ سنواتٍ تمامًا، لا زلت أتصور شكله وهو يجلس على يمين الطاولة ويقولها بكلّ ثقة – وبالمناسبة، بذلك اليوم التقيت بشخصٍ مثير للفضول جوار مدخل الجمعية، كان من الأشخاص الذين تشعر عند لقائهم أنك بحاجة إلى التعرف عليهم، تبادلنا نظرات التيه، تساءلنا عن المكان، مشينا سويًا، اخترقنا تلك الحجرات والممرات الصغيرة، ونجحنا بالوصول إلى الخيمة، حيث الجميع ينتظر بدء الأمسية، وعندما انتهت، وقف ذلك الشخص وقبل أن يلقي بسؤاله عرف بنفسه: عبد الواحد الأنصاري، ابتسمت، قلتُ بصوتٍ سمعتهُ وحيدًا في رأسي: طبعًا! هذا الرجل لا يصلح أن يكون إلاّ عبد الواحد الأنصاري- أعود وأقول ما قاله منصور، الأفكار داجنة، تتربى في كل مكان. تجدها تحت كوب الشاي، في سقف الغرفة، على خطوط المشاة، أو أنت تهدهد انتظار الأصدقاء بليّ شيشة في قهوة مملة على طريق القصيم. يمكن للكاتب المتمكن، أن يصنع من اللاشيء شيئًا، من أية فكرة نصًا، وعندما أقول أية فكرة فأنا أعني ذلك تمامًا. يمكن أن تكتب نصًا عن الزر الثالث في قميصك ذو الخمسة أزرار، وتفاجئ القارئ بنص مدهش، تفلسف الأحداث، وتمسرح بيئة ومجتمع الأزرار، تعطي الزرّ الثالث دورًا مهمًا في الحياة، تجعله بطل النص، وتجعل القارئ يقتنع أنه لن ينام الليلة حتى يعرف ماذا جرى للزر الثالث في قميصك ذو الخمسة أزرار!.
أعرفُ أنّ هذا القسم مطبخٌ لتعاون الكتّاب ومحاكمة النصوص ونقدها، وتشذيب زوائدها والاستفادة من آراء الفنانين الآخرين، لذلك من الطبيعي أن نجدَ أعمالاً مبتدئة وأعمالاً متوسطة وأعمال متقدمة تحتاج إلى تعديل القيافة، وأعمال متقدمة جدًا جاهزة لأن تكون في كتاب. لكنه ليس من الطبيعي أبدًا، أن تكون محاولات نقد النصوص من خلال تركيبات جملها، اللغة بإملائها ونحوها وصرفها، الفواصل، وطريقة عرض النّص، محاولات متهمة بكونها محاكمات غبية. أخيرًا، دعونا نتوقف قليلاً، وننظر إلى نصوص عبد الواحد الأنصاري، لأنه فنان يعمل على ذاته بإخلاص، ويعامل نصوصه بإخلاص، لا يفشل أبدًا في خلق الدهشة حين قراءته. فلغته السليمة وتنسيقه الصحيح ينجحان دائمًا في صنع قالبٍ مدهش لأفكاره.
هي فقط دعوة، دعوة للمحاولة، أن نعتني باللغة كما نعتني بالفكرة. لا أتوقع أن أرى هنا نصًا كتمثال ديفيد، ولا الموناليزا، ولكني مؤمن أنه في أماكن كهذه سيظهر كتّاب يتعاملون مع الفن بإخلاص كما فعل مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي.
التنقيط في السّرد:
في بعض اللغات، الإنگليزية مثلاً، نجد أن التنقيط ضرورة، غيابها قد يفقد النّص منطقيّته أو حتى معناه بشكلٍ كامل. مثلاً:
Women, without her man, is nothing
Women: without her, man is nothing
الكلمات ذاتها، ولكن الجملة الأولى تفيد بأن: “المرأة، بدون رجلها، هي لا شيء.” والثانية: “المرأة: بدونها، لا شيء هو الرجل.” هذا يوضح أهميّة هذه الرموز -الموزعة بشكلٍ مدروس- بالنسبة للغة الإنگليزية وغيرها من اللغات.
تتميّز اللغة العربية، كما هو حال اللغة العبرية وبقيّة اللغات السامية، باحتوائها على أغلب وظائف هذه الأدوات من خلال تفريقها النحوي الصّوتي أثناء قول الجملة، وقد يشمل مصطلح “القول” القراءةَ أيضًا لأننا نقول ما نقرأهُ للمخيّلة كي تصنع وتصوّر الفكرة. فقد قام الإعراب والتشكيل باختصار الكثير من الوقت في تسهيل فهم منطقيّة اللغة المقروءة. تمّ ابتكار الحركات، كي تسهّل العملية القرائية، وتحدّ من تعدد معاني المقروء، وأيضًا يتمكّن دارس العربية من تجنّب اللّحن والحديث كالعربي في سلامةِ نطقه. وأغلبنا يعرف مثال: أكلتْ البنتُ الدجاجةَ، وأكلتْ البنتَ الدجاجةُ. في الأولى كانت الدجاجة مأكولةً، وتحوّلت إلى آكلةٍ في الثانية، رغم التناسخ الإملائي بين الجملتين. خارقةٌ هي قدرةُ تلك الرموز الصغيرة التي بإمكانها قلب دلالة جملتها رأسًا على عقب.
لكن ماذا عن متحدثيّ اللغات التي لا تملك هذه المطاطية والقدرة على التحوّل مع بقاء الشكل الإملائي على ما هو؟
التنقيط. الحلّ الأمثل، فلكي يُفهم منطق الجملة المقروءة كان لزامًا عليهم أن يقسموا مقاطع الجملة برموز تعطي القراءة منطقها. الجميل في الأمر، أنها بالإضافة إلى كونها تحدد الفاعل والمفعول به، الشرط وجوابه، والمواقع الإعرابية لكل كلمة، فهي أيضًا توضح حالة الجملة، علاقتها بالجملة التي تسبقها أو تتبعها، ودرجة الصوت عند قولها. هذه هي عملية “التنقيط”.
السارد يجري في نصوصه مغمض العينين؛ هو المبدع المُمَهِّد لطُرق نصّه. القارئ جديدٌ على تلك الشوارع، يحتاج إلى محطات وقوف، ينظر خلالها إلى الخارطة، ليفهم اتجاه الطريق. النصوص التي يتم فيها مراعاة التنقيط، تشبه الطريق من جدة إلى مكة، مليء بالمحطات وكوشكات القهوة، وعلامات فارقة “Land Marks”. النصوص غير المنقطة، تشبه الثمانية كيلو مترات ما بين صامطة وبحر الموّسّم، مساحةٌ فارغة، لا محطات ولا قهوة، وفكرة مثل: هل أنا على الطريق الصحيح؟ لا تفارق رأسك، إذا ما كنت جديدًا على تلك الطُرق.
لن أتدخل في مسألة متى تضع الفاصلة ومتى تضع النقطة في النصوص الإبداعية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بتلاعبات فنية يقوم بها الكاتب ليتحكم بسرعة القراءة ونفس القارئ كي يصنع جملة موسيقية في نصه. لأنني أؤمن أنه في الكتابة الإبداعية يتحكم الكاتب بفواصله ونقاطه، ويتحكم بسرعة وكيفية قراءة القارئ لما يكتبه. أحيانًا يجد الفنان أنه من المهم أن يجعلك كقارئ تتوقف. أن تأخذ نفسًا. أو يجعل من الجملةِ نوتة، لتموسق ترتيبَ الأحداث و تخلق شعورًا مختلفًا، مركزًا، باللغة والفواصل والأرقام ووقفات التقاط الأنفاس، كالحزن والغربة هنا:
1- روما اختفت في قبعات السوّاح
وبراميل النبيذ تجرها البغال، والشوارع تختنق بالحجاج وشرطة المرور وباعة اليانصيب البُلهاء، روما –ملتقى الطرق- اختفت في قبعات السوّاح.2- «فلا تمت من الوحدة»
تقول روزيتا بعينيها «لا تتيبّس في ركن المقهى مثل دودة عجوز، ولا تدع البابا يصيبك بالذعر من نار جهنم» وأومئ لها، وأدعوها إلى قدحٍ من القهوة. كم أتمنى يا سيدتي لو أنني أعرف اللسان الروحي لكي أفهم ما يقوله البابا.. ولكنني مجردُ دودة عجوز.
وتضوع رائحة القهوة. ويتسلق الدخان زجاج النافذة إلى فوهة التهوية عند السقف، ويسعل أحد الروّاد، ويقول لروزيتا هل هو مفلس؟
أجل.دعيه وشأنه.
أعني إذا كان مفلسًا حقًا، دعيه وشأنه، إن المدينة مليئةٌ بالسوّاح، وتنهض السيّدة، وتترك لي ابتسامة قديمة فوق المنضدة، وأنطوي في الركن وراء جدارٍ لزج من رائحة أحذية الروّاد، وأقضم أظافري.3- «فلا تمت من الوحدة»
لا تدع الصدأ يأكلك مثل لغمٍ ضائعٍ في الرمل، اشتر لنفسك عاهرة وعلبة تبغ وكثيرًا من الطعام المعلّب، وامش على رأسك إلى القوارب المقلوبة فوق أحجار الليدو، وهناك، أعني تحت أحد القوارب ستقتل وحدتك، وتنعم بالأكاذيب والقصص القديمة المملة إلى حدّ الموت، وتقول لك السيّدة أنك أحسن بضاعة في السوق.
مقطع من نص “المقهى” للصادق النيهوم، تمامًا كما أخرجه كاتبه.
كما قلت، أنني أؤمن أنه في الكتابة الإبداعية الكاتب يتحكم بطريقة التنقيط، ولكن بشكل مدروس يضيف معنى للنص، وليس فقط لمجرد الشكل. كما ألاحظ في بعض النصوص هنا، فليس من المنطقي استخدام علامة تعجّب في نهاية كل جملة أو براگراف فقط لأن شكلها أفضل من النقطة. البعض يستخدم نقطتين متتاليتين وعلامة تعجب كثيرًا في نصوصهم دون حاجة لذلك، ودون غرض فقط لأن ذاكرة أصابعه على الكيبورد اعتادت على ذلك. ما أعنيه أنه إذا لم تعنِ علامات الترقيم التي تأتي في غير مكانها فكرةً أراد الكاتب إيصالها للقارئ فلا حاجة لها والأفضل فنيًا في رأيي أن تستبدل بالعلامة المتعارف عليها، وفي مثالنا النقطتان المتتاليتان.. تستبدل بالفاصلة، أو النقطة، بحسب وضع الجملة السابقة. أيضاً طريقة التنقيط هكذا:
الفاصلة، والنقطة. والنقطتان: وعلامة التعجب! وعلامة الاستفهام؟ كلها علامات تلتصق بالكلمة التي تسبقها. القوسين (القوس الأول يلتصق بالكلمة التي تليه، والثاني يلتصق بالكلمة التي تسبقه) والشرطتان –اللتان تعنيان أن ما بينهما جملة تفسيرية أو عرضية- قاعدتها نفس قاعدة الأقواس، الشرطة الأولى تلتصق بما بعدها، والثانية بما قبلها، وعندما أقول تلتصق، فأنا أعني أنه لا توجد مسافة بينهما. الفاصلة العربية على الكيبورد هي زر الشفت وحرف النون، البعض يستخدم زر الشفت وحرف الواو، وهذه الفاصلة هي الفاصلة الإنگليزية وتشبه حرف واو صغير جدًا.
أخيرًا، عزيزي الكاتب، بهذه الطريقة تجعل النص يبدو متماسكًا، والقارئ الملمّ، سوف يلاحظ ذلك ويعرف أنه يقرأ لشخص ليس مبدعًا وحسب، بل كاتبًا محترفًا ودارسًا لتقنيات الكتابة. علامات التنقيط كثيرة، لكن الوقت وطبيعة هذا الموضوع لا يسمحان لي بالتفصيل أكثر، من أراد القراءة عن جميع الرموز ووظائفها، فهنالك صفحات كثيرة على الإنترنت، التفصيلات والمدارس التي تحدثت عن هذا العلم بشكلٍ موسع متوفرة في مواقع كثيرة باللغة الإنگليزية، وبالعربية بشكلٍ متواضع لكنه مفيد جدًا. أتمنى لكم كتابة موفقة.
تعرّف “هاتشيكو” على شوارع إحدى ضواحي طوكيو عندما دخلها لأول مرة في عام 1924م مع صديقه البروفسور “هتسابورو أوينو” وهو أستاذ في قسم الزراعة في جامعة طوكيو. ومنذ أن عرف تفاصيل المكان وحفظ ملامح المارة وأتقن أصواتهم واعتاد على روائحهم المختلفة كان هاتشيكو يودّع البروفسور في صباح كلّ يوم عمل وينظر إليه وهو يمشي خارجًا من باب البيت مبتعدًا إلى أن تخبئه المباني وتبتلعه الشوارع. وفي نهاية اليوم يذهب هاتشيكو إلى محطة القطار “شيبويا” القريبة وينتظر عودة صديقه ويستقبله بفرح الأطفال مع عودة آبائهم بقطع الحلوى، الفرق الوحيد هو أن هاتشيكو لم يكن يبحث عن حلوى أو أي مقابل، ما كان يبحث عنه ويحتفل به على طريقته هي عودة صديقه من الجامعة. لم يعد هاتشيكو يقاوم البقاء في البيت، ولم يكتفِ بمجرّد النظر إلى صديقه وهو يغادر، بل أصبح يرافقه ويمشي معه إلى المحطة، وبعد أن يودّعه، يعود إلى البيت، وينتظر وقت قدوم القطار ليذهب مجددًا في انتظاره. لم يكن ذلك مجرد عادة أو روتين يومي، ولم يلمس الأمر مجرد حياتيهما، بل تعدّى ذلك ليصل إلى أفراد الحيّ جميعًا، فقد صنع هاتشيكو خلال الوقت صداقة مع أصحاب المحلات في الطريق إلى محطة القطار، وعلاقة صداقة مع ركّاب القطار العائدين من أعمالهم في نهاية اليوم، ثمّ علَّمهم، دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة طوال حياته، أن للصداقة معانٍ أسمى من مجرّد المعرفة وتبادل المصالح، تبدأ بالحبّ وتنتهي بالولاء. كان يجلس مقابل باب المحطة، وينتظر بصمت وهو ينظر إلى بابها مترقبًا صديقه البروفسور، وعندما يتشكل جسده من خلف الباب، يقفز ويحتضنه بحميمية وسعادة لا يمكن مقايضتها، ومن ثمّ يعودان إلى البيت سويّة.
وفي يومٍ حزين من أيّام مايو من عام 1925 طال انتظار هاتشيكو أمام المحطة، الكلّ خرج من ذلك الباب، جميع الوجوه المألوفة التي اعتاد على تجاهلها كلّ يوم، ولم يعد صديقه، انتظره طيلة الليل ولم يعد. ما لم يعلمه هاتشيكو هو أن صديقه البروفسور قد أصيبَ بجلطةٍ في الدماغ ذلك اليوم وهو يلقي إحدى محاضراته بحماس وربما يفكر بصديقه الذي يجلس أمام باب المحطة. توفي البروفسور هتسابورو أوينو، ولم يعد أبدًا إلى محطة القطار حيث ينتظره هاتشيكو.
هاتشيكو لم يعلم ما الذي حصل لصديقه، ولم يتمكن أحد من أفراد الحيّ من إخباره بما حصل. فهام على وجهه في أزقة المدينة ولم يستطع البقاء في البيت أبدًا بعد ذلك. ورغم الحزن الذي خلفه غياب صديقه، إلاّ أنه استمرّ في ممارسة الحياة والمرور كلّ صباح أمام منزل البروفسور، ومع الوقت أيقن أنه لن يعود إلى المنزل. فتوقف عن الذهاب إلى هناك، وأصبح يكتفي بالانتظار أمام باب محطة القطار حيث كان يودعه ويستقبله. وهذا ما استمر هاتشيكو بفعله، فقد كان يتواجد أمام الباب كلّ مساء في موعد قدوم القطار، وكل يوم لا يرى صديقه بين الركاب الخارجين من المحطة، فيجمع خيبته وينسحب إلى ظلام أزقة المدينة، لينام في الشارع ويعود إلى أملٍ آخر في اليوم التالي.
تعاطف العابرون والخارجون من محطة القطار معه هو يجلس على ذات الرصيف كلّ يوم، ولمسوا ذلك الوفاء الذي يُقرأ في ملاحم تاريخية عن الأصدقاء القدامى أكثر من أن يُطبّق على الواقع. وتذكروا أيام ما كانوا يشاهدون الصديقين سوية في صباحات العمل ومساءات العودة من العمل. فأصبح الكثير منهم يحضر الطعام لهاتشيكو كي يأكل في لحظات انتظاره لصديقه التي استمرت لمدة 10 سنوات، ولو كان بإمكانه الانتظار أكثر لفعل ذلك، ولكن الموت جاءه في أحد المساءات وهو ينتظر أمام باب محطة القطار “شيبويا”، فتمدد مطلقًا روحه للسماء، حيث سيلتحق بصديقه ويجتمعان مرةً أخرى.
قبل عامٍ من موت هاتشيكو، بالتحديد عام 1933م، قام أحد الفنانين اليابانيين، الذين تأثروا بقصته، بنحت تمثالٍ له وقامت بلدية المدينة مع حضور هاتشيكو نفسه بتدشينه أمام بوابة محطة شيبويا الذي انتظر أمامه هذا الصديق لسنوات. وفي عام 1948 قام فنانٌ آخر بإبداله بتمثالٍ جديدٍ من البرونز، وأصبح مسمّى البوابة “هاتشيكو گوتشي” والذي يعني “مخرج هاتشيكو” وهي إحدى البوابات الخمسة للمحطة. ومُذّاك، أصبح المكان معلمًا تاريخيًا قبل أن يكون مزارًا للسياح، مكانًا للقاء العشاق والأصدقاء المنتظرين.
خلال السنوات التي تلت موته، كُتبت الكتب، وتحدثت الإذاعات، وانسابت قصة هاتشيكو من أفواه الجدّات، وفي الكتب المدرسية كمثالٍ على الوفاء. وتمّ تمثيلها في فيلم ياباني عام 1987م تحت مسمّى “هاتشيكو مونوگاتاري” وكلمة مونوگاتاري تُطلق في اليابانية على الأعمال القصصية وخصوصًا تلك التي تمت كتابتها بين حقبتي الـ”هيان” والـ”موروماتشي” (794م – 1573م) رغم أن حياة هاتشيكو كانت من عام 1923 إلى عام 1934 إلاّ أنّ كاتب الفيلم استخدم كلمة مونوگاتاري لإعطاء النص قيمة أسطورية لعظمة قصته.
وفي شهر يونيو من عام 2009 تمت أمركة الفيلم على يد المخرج “لاس هولستورم” وبطولة “ريتشارد گير”، غير أن المكان بالطبع عوضًا عن اليابان كان في أمريكا، وعوضًا عن البروفسور هتسابورو أوينو أصبح اسمه البروفسور “باركر ويلسون”. ورغم أن الفيلم يحكي القصّة ويعرضها بالزِّيّ الهوليودي الربحي المبالغ في لمعانه، والذي عادة ما يبتعد عن عمق الطرح، إلاّ أن الفيلم أوصل هذا الدرس في الوفاء بطريقة مؤثرة وجميلة. حاول المخرج خلالها أن يعرض القصة من خلال حياتين، بالألوان واللغة كما كان يعيشها البروفسور وبتواتر الأبيض والأسود كما كان يراها هاتشيكو. أتى الفيلم تحت مسمّى “هاتشيكو: قصّة كلب”. صحيح، لقد فاتني أن أخبركم، هاتشيكو كان كلبًا، وكم أتقنت الكلاب فنّ الصداقة وأدبيات الوفاء.
خالد الصامطي
16 فبراير 2010 – شيكاگو.
البومة، التي كان صوتها يرتطم بجدران البنايات ويتلوى ليلاً على أسماعنا، تم حبسها. إنها المرأة ذات الصوت الساخر. الصارخة وهي تتحدثُ حديثاً عابرًا مع المرأة الأخرى التي تسكنُ في زاوية شارعنا، أو مع المُسن الذي يدخن أعقاب السجائر ويسكن بنفس العمارة التي تسكنها، أو ضحكاتها الرنانة مع موصل البيتزا بدراجته، أو حتى نقاشاتها الساخنة مع نفسها. كان صوتها يرافقنا ونحن نتابع التلفاز ليلاً منذ أن انتقلتُ أنا وصديقي إلى هذا الحيّ الذي يبعد عن وسط المدينة مسافةَ خمس صفحاتٍ من روايةٍ ما وأنت تستقل القطار.
كنّا نتأففُ. نتضايقُ نوعًا ما. كان صوتها مزعجاً إلى حدٍّ منطقي. ولكن، وبلا أي تدرّج، بلا أيّ تحرّكٍ تنازلي في نوعيّة ما يشكلهُ صوتها حينما نسمعه، وبسرعة التأقلم، تحوّل صوتها إلى عادة سمعيّة، خلفيّة صوتيّة تبدأ الساعة التاسعة مساءً وتنتهي في وقتٍ مجهول ونحنُ نيام. أصبحَ صوتًا لا يلفتُ الانتباه. كتلك الأصوات التي تُروّض نفسها، وتصبح جزءًا من الروتين السمعي غير المُلاحظ. كطقطقة قطرات الماء المتتالية من ماسورة القرية بجوار منزل جبران عندما ترتطم بقعر علبة حليب نيدو أكلها الصدأ. كأنين مُكيّف حجرتي بالرياض، المكيّف الذي لا يعني لي صوتهُ شيئًا عندما يعمل، ولكنهُ يعني النقص عندما لا يعمل. إنها الأصوات التي تتبدّل دلالاتها لتحلّ محلّ دلالة الصمت، السكون، الأصوات التي تعني السكون.
نتحدث، نحتسي شايًا بالحبق، نعمل على مشروع دراسي، نشاهدُ فيلمًا محرّضًا على الاندماج معه، تختلف وتستمرّ نشاطاتنا بداخل الشقة بشكلها الطبيعي، وبالخارج يستمرُّ ولا يختلفُ صوتها المتذبذب في الما حول، المقتحم نوافذ الشقّة بخفّةِ الحريص، المشكّل للهدوء الذي نفهم، المترنح في زوايا الحيّ والمقبرة القريبة، الصانعُ دوره كما يجب، طبقًا لسيناريو هذا الحيّ وربما الحيّ المجاور.
اليوم توقفت سيارتا شرطة بجوار العمارة التي تسكنها، نزل أربعة أفراد من الشرطة ثلاثة رجال وامرأة، بقي اثنان بالخارج يتحدث كلّ منهما من خلال راديو الشرطة، ودخلت المرأة والرجل الثالث. تلاشيا بالداخل لدقائق، ثم خرجا يقودان البومة وهي تصرخ وتولول، زجَّا بها على المقعد الخلفي، وأغلقا بابه، فتلاشى صوتها مع لحظة ارتطام الباب بكتف السيارة.
بالنسبة لي في العمارة المقابلة، خلف نافذتي، لم يكن الصوت دقيقًا في تعبيره عن فكرته. أعني أنه لم يوصل لي ما أرادتْ هي إيصاله خلال عملية الصراخ. ببساطة، كان مجرد صوتها الذي أسمعُ كلّ ليلة.
نظرتُ إلى مؤخرة رأسها وهي تجلس في سيارة الشرطة المغادرة، حتى اختفت بعد أن تجاوزوا المقبرة، وتعلق نظري هناك.
للمقابر حياتها، أشكالها. المقابر هنا خضراء، تحوي أشجارًا طويلة، وأحجارًا رخاميّةً نُحتت عليها أسماء أصحابها وتواريخ قدومهم للحياة وخروجهم منها، عدد السنين التي قضوها يمارسون دورهم طبقاً للسيناريو الأكبر، سيناريو الكون. المقبرة القريبة من شقتي الجديدة لها جاذبيّتها الخاصة، تتفرد بترك انطباعٍ حميمٍ جدًا. تختلف كليًّا عن مقبرة القرية، والتي تبعد مسافة اختباء وأنا طفلٌ ألعب “الساري” بجوار عشّة جبران. المقبرة التي دُفن فيها جدّي الذي لا أعرفه، الذي مات قبل أن تولد فكرة الزواج لدى والدي.
أذكرُ أول مرةٍ دخلتها. كنتُ في العاشرة ربما. أذكرُ أننا قضينا أجازة صيف ذلك العام كاملة في القرية كالعادة. وخلال ذلك الصيف كنتُ محظوظًا بحصولي على فرصة دخول المقبرة ثلاث مرات خلال ثلاثة أسابيع. كان أوّلها عندما قادني الفضول ومشيتُ خلفهم من المسجد حاملين جثّة رزّاع أمقحم. أُطلق عليه ذلك للتفريق بينه وبين ابنه رزّاع الابن. لقد عرفتُ أنني سأدخلها منذ عصر ذلك اليوم، فقد شاهدت بوابتها مشرعة. وخلال ما جمعته من ذاكرةٍ بصريةٍ للقرية إلى ذلك الوقت، لم أكن قد رأيتُ سور المقبرة الطويل ببوابةٍ مشرعة، بذلك الفراغ في منتصفه والمساحة الجرداء الممتدّة عمقًا بالداخل. وحينما سألتُ ابن خالتي أجابني وهو يركل الكرة باتجاهي أنهم يحفرون قبرًا لرزّاع أمقحم، وواصل يجري صوب المرمى متوقعًا تمريرةً مني ومتأهبًا لهدف.
كانت أرضاً جرداء إلاّ من حشائش متفرقة هنا وهناك، ونتوءات بنفس لونِ الأرض تغطي ثلثي مساحة المقبرة. لا أحجار رخامية، لا أخشاب، لا أسماء، ولا دلائل تشير لهوية الكائنين أسفلها ولا تواريخَ تشهدُ بعبورهم.
خالد الصامطي
شيكاگو
أبريل 27، 2009
قبل ذلك بيوم، كانَ يشغرُ السّريرَ شخصٌ آخر. عندما ينام “يشخر” كثيراً بشكلٍ مُخيف، بصوتٍ مرتفع، لدرجة أنّه بالإمكان أن يتحوّل إلى “أسد” أو ربما “دَبّاب سِباق” في أيّة لحظة يمكن أن يتخلّق من جديد، وينبت لهُ شعرٌ كثيف حول عنقه ورأسه، أو أطرافٌ من الـ”جنوط” والـ”تواير” -ككلمةٍ مُعرَّبة-. عندما ينام تجتمع الممرضات أمام الحجرة المكوّنة من سريرين، ويضحكن بالـ “تاگالوگ”. ضحكة لغة التاگالوگ غريبة، هي بشكلٍ ما تشبهُ الحديث العادي في لغة الدجاج.
هو شخصٌ سمينٌ جداً، ويعمل كـ”قائِل نكات” لدى أحد الأمراء. لا أدري هل فعلاً مُسمّى وظيفته “قائل نكات”، أو “خويّ” أو “بودي قارد” –فعلاً لا أدري بالضبط- المُهمّ أنهُ رجلٌ في نهايةِ الخمسينات من عمره، ويعملُ لدى أحد الأمراء. ولن نختلف على مسمّى الوظيفة، حتّى لو كانت “مصلّح ساعات” أو “تمرجي”. هذا الرجل الذي كانَ يشغل السّرير قبل ذلك بيوم –كما قلت في بداية النص- لهجته بدويّة قحّة. كانَ يشتكي من ألمٍ ما في “كليته” المزروعة، وبعد أن ظلّ ثلاثة ليالٍ في “الطوارئ” إلى أن فَرَغ هذا السَّرير، جاؤوا به، والمشكلة أنه عندما وصل، لم ينم سوى يومٍ واحد. في اليوم التالي، جئتُ صباحاً وقبّلتُ رأسَ جارهِ في السَّرير، الرجل الكبير الذي يعنيني أمره. المهم أنني اكتشفت أنَّ “قائل النكات” غادر، من الطبيعي أن أكتشف ذلك، لأنه ليس بطلنا على كلّ حال، ولأنّ “أبوفهد” كان نائماً على ذاتِ السرير، كـ حلٍ بديل، وشاغلٍ جديد للسرير ذلك اليوم.
“أبوفهد” بطلنا، رجلٌ في نهايةِ الخمسينات أيضاً. كانَ يعمل “وكيل رقيب” في الجيش. يقول أنّ الرئيس الأمريكي “كتينتون” منحهُ شهادة عندما زار الخفجي بعد حربِ الخليج الثانية. وكما يقول أنّه عندما دخل “الجهرا” شاهدَ فتاةً عمرها ثلاثة أعوام، كانت مذبوحة، حملها وبكى. هو لا يقرأ ولا يكتب، ومُتقاعدٌ حالياً. زرع كليته قبل عام. يقول أنّهُ عندما ركب الطائرة لأوّلِ مرّةٍ قادماً إلى الرياض قبل ثلاثين عام “كنتُ شاباً قوياً” هكذا يتنهّد، قام بوضع الفلفل والملح في الشاي الذي قدّمته المضيفة، لذعه الطعم واندلق الشاي على ثوبه. خلعه في حمّام الطائرة وشطفهُ.
“أبوفهد” لا يُحبّ الصّخب. لذلك هو لم يهتم بسخرية الآخرين في الطائرة عندما عاد إلى مقعده بسروال قصير وفنيلة “علاّقي”، بعد أن نشرَ الغسيل في ممرّ الطائرة لبعض الوقت. ولذلك أيضاً لا يهتمّ بتفسيرات الآخرين. هو يُحبّ أن يرى الحياة بعدستهِ الخاصّة. عدسته المُتخلّية عن قيود المثاليات ووجهات النظر المُخالفة. يصمت كثيراً، وعندما يتحدّث يحكي مواقفَ كثيرة. طبعاً ستكون كثيرة، لأنهُ عاشَ عمرهُ بتفاصيله، منذُ زمن وهو يعيشُ في هذهِ الدنيا، منذُ أن كان هناك شارعٌ في الرياض يُدعى “شارع البرسيم”.
ولنفسِ السّبب -أعني كونهُ لا يُحبّ الصّخب- يُشاهدُ التلفاز بلا صوت. يتأمّل الصور، المشاهد، الأفلام، البرامج الوثائقيّة، والمقاطع الأخباريّة، ويُفسّر كلّ ما يُشاهدُه بمزاجيّة طريفة. بطريقتهِ الخاصّة جداً. ذاتَ يوم كنتُ أشاهد معه التلفاز على طريقته، أشار إليه وقال لي [هذا زعلان عشان الحريري مات] كان مقطعاً إخبارياً يعرضُ أحد المسؤولين العراقيين يتحدّث بغضب وبيده صور وأوراق وأفلام فيديو، وفي الشريط أسفل الشاشة مكتوب [ظهور أدلّة جديدة تُدين القوات الأمريكيّة في جريمة تعذيب سجناء أبوغريب], هززتُ رأسي موافقاً، وسرحتُ بعيداً.
بشرتهُ سمراء داكنة، ووجهه ممتلئ بمرح وسماحة، ولأنهُ لم يحلق ذقنهُ منذُ أن دخل المستشفى. فقد بزغت شعراتهُ البيضاء مغطّيةً ذقنهُ وخدّيه، أعطتهُ هيبةً أخرى، أمسى وجههُ لوحة هوليوديّة. يليقُ بهِ أن يُمثّل دورَ الجدّ في عائلة سوداء. الجدّ الحكيم الذي فهم الحياة جيّداً وعاشَ فترةَ ما قبل النقلة الاجتماعيّة الجذريّة هناك وعاصر مارتن لوثر كينغ، ويتسلى عادةً بشذبِ العشبِ في الحديقة، والكلامِ العميق الممتلئ بالحكمة مع أحفادهِ المتهوّرين. ويبتسم للعابرين.
هو لا يهتمّ بالتسميات الصحيحة للأشياء. ببساطة يُكوّنُ جملةً تُفهم بعدّة اتجاهات. ربما لو كانَ كاتباً لمنح القارئ جميع حقوقه في الخيال، وفي فهم النّص المفتوح كما يشاء. لذلك عندما هبطت تلك الطائرة، قبل ثلاثين عام، كانَ الجوّ بارداً، ولازال ثوبهُ مُبتلاً، هبطتْ في المطار القديم، أوقفَ سيارة أجرة، وطلب منهُ أن يوصلهُ إلى “شارع الحشيش”. ولذلك أيضاً أخذتهُ فرقة من [المباحث] بعد أن أصرّ على أكثر من تاكسي بأن يذهب إلى الشارع الذي يبيعون فيه الحشيش في “برحة” كبيرة، دون أن تُدرك تلك الفرقة -سوى متأخراً- أنّ البرسيم أيضاً من حشائش الأرض. ودونَ أن يُدرك أبو فهد أنّ أهل المُدن يختلفون عن أهل القرى، لم تكن “موضة” النصّوص المفتوحة لأكثر من احتمال قد وصلت المُدن بعد.
في أحد الأيام، كنتُ نائماً على “الصوفا” بجوار سرير الشخص الذي يعنيني أمرهُ كثيراً، أكثر من أيّ شيء, أيقظني “أبوفهد” قال لي أنَّه لم يفهم ما تقوله الممرضة “برتقالة” –لقد منح كلّ موظفٍ في المستشفى مسمىً خاصاً، وبالمجّان أيضاً- بعد أن توجهت إليَّ بالحديث، وغادرتْ، ترجمتُ لهُ أنّها تريدُ منهُ ألاّ يأكل إلى الغدّ حيثُ سيأخذون من كليته عيّنة. والحقّ أنني لم استمتع بالنرجسيّة التي يشعر بها الشخص عادةً عندما يشرحُ للآخر شيئاً لا يفهمه، وهذا الشعور يكونُ مُضاعفاً عندما يتعلّق الأمر بالترجمة، لم استمتع لسببٍ بسيط وهو أنّني لم أُكمل ترجمتي، فقد سمعتُ صوتَ شخير، قادمٍ من خلفِ ستارة “أبوفهد”. عدتُ إلى وضعي على “الصوفا”، ونمتُ على صوتِ سمفونيّةٍ كانَ يؤدّيها جوقةُ موسيقيّين، مكوّنةٌ من حكيمين، قادمين من قرىً جنوبيةٍ متجاورة، قد يختلفان عن بعضهما ويتفقان، ينامانِ على سريرين متجاورين، ويهمّني أمرهما كثيراً.
من مقولات أبو فهد التي التصقت بالذاكرة: [الكلية حيوان ضعيف في جسم الإنسان، والإنسان كـ الآدمي, ما يصيبه إلاّ المكتوب].
منذُ أن قدم “أبوفهد” تحسّنت صحّة جارهِ السّريري الذي يُهمّني أمرهُ كثيراً، أصبح يبتسم، ويتحدث، ويحكي لي قصص طفولتي ويضحك. نفسيتهُ السعيدة أثّرت إيجاباً على وظائف جسدهِ العضويّة، غادر المستشفى بعد أكثر من شهر. ودّعنا “أبوفهد”، وهو بدورهِ وعدنا أنهُ سيخرجُ قريباً، وكأنهُ يحرصُ على رسمِ التفاؤلِ في الطُرقِ بعبثيّتهِ وقراراتهِ ومزاجيّتهِ الطريفة، يحرصُ على ذلك حتّى في الدقيقة الأخيرة. وعدتهُ بالزيارة، وخرجتُ بصحبةِ “والدي”، خرجتُ وبقي “أبوفهد” يُشاهد التلفاز بلا صوت.
إلى أبوفهد, الرجل الأُمّي, الذي باستطاعتهِ أن يقلب مفاهيم وناموس الحياة, دونَ أن يمسّ النظام الكونيّ, كأن يجعل من المستشفى روايةً لم تُكتب بعد, ومن الصوت مادةً غير ضروريّة لاستمرار السّماع. الآن عدتُ مُجدداً, أكتب, وأسمعُ جيداً.
_________________________
كتبتُ هذا النص بتاريخ 28.11.2005
وعلمتُ مؤخرًا، أن أبا فهد، قد تركَ الحياة بصخبها، ودّعها دون أن يمنحها متعة إزعاجه، ودعها مبتسماً، بعد أن أعطى لكلّ شيءٍ فيها اسماً من مخيلته، ولكلّ حدثٍ فيها معنى يفهمه ويعجبه.. رحل، وتركَ غبارهُ النقي في قلبِ الرجل الذي يهمني أمرهُ كثيرًا..
ليس بسبب البعد عن اللغة والانقطاع، ولا الأحداث الكثيرة والتفاصيل المُلحّة التي تتراكم كلّ يومٍ هنا، ولا السعادة المنتشرة بإفراط، ولا العودة إلى المنزلِ وحيدًا الليلة. ليس بسبب الأحزان القليلة جدًا والطارئة، ولا بسبب الانتشاء المعقول، ولا الأمطار المتتالية بكثافة، ولا تحوّل أوراق الشجرة -الطويلة بجوار البيتِ- إلى الأصفر خلال يومٍ واحد، ولا استمرار تساقطها منذ اليوم التالي. وليس بسبب قراءة “في مديح النساء الأكبر سنًّا”، ولا إصلاح سلسلة الدراجة ظُهر الأمس، ولا بسبب شكل زيت سلسلة الدراجة على أطراف أصابعي الذي يُذكّر بشكل أصابع صغيرة وقديمة. وليس بسبب جورج السحلية، ولا رائحة الهيل في المطبخ، ولا بسبب الأفكار العظيمة أو الأفكار الأعظم. وليس بسبب ضغط الدراسة، ولا السنجاب الذي يحاول التغريد، ولا الخمسة عشر دولارًا التي جلبتها رياح الكارما، ولا الفتاة التي أقابلها في باص 81، ولا بسبب باص 81، أو سائقة باص 81. إنما هي مجرد رغبة في الكتابة، الكتابة عن الأسباب االمختصرة ذات التوابع الشاسعة، الكتابة عن البعد عن اللغة والانقطاع الذي طال، وعن الأحداث الكثيرة والتفاصيل المُلحّة التي تتراكم كلّ يومٍ هنا. عن السعادة، الوحدة، الحزن الطارئ والانتشاء، عن أوراق الشجر الصفراء، والنساء الأكبر سنًّا. عن السحالي والهيل. عن الأفكار، الدراسة، السناجب وقلة المال. عن الفتاة التي أقابلها في باص، وعن الباص وسائقة الباص.
كتبه علي فايع الألمعي:
هناك نصوص قصصيّة تقرؤها دون حاجة إلى جهد أو عناء في هضمها، والسّبب – من وجهة نظري – أنّ كتّابها يجيدون رسم خطواتها دون حاجة إلى تكلّف يفسد جوّها العام، أو زيادات تسرق من النّصّ القصصي متعة قراءته، وإمكانيّة بناء معمار آخر يوازي أو يضاهي البناء لحظة الكتابة!
تلك الكتابات الإبداعيّة يمكن أن تلتقط مفرداتها وعناوينها وجلّ أفكارها من الحياة، فهي مسرح كبير للكتابة التي تحوّل الواقع إلى نصّ قصصي بديع، يُقرأ للمتعة، ويُقرأ للفنيّة، ويُقرأ للكتابة النّقديّة المثيرة والمثمرة في الوقت ذاته!
من أولئك الكتّاب، كاتب شابّ، يستعدّ لإصدار أولى مجموعاته القصصيّة، يكتب القصّة بخطوات هادئة، وحسّ أدبي واجتماعي وإنساني عال، له الكثير من النّصوص المنشورة في مواقع الإنترنت، ولديه مدوّنة خاصّة بعنوان ” رصيف ” يستطيع من خلالها إيصال رسالته الأدبيّة بشكل جيّد!
لم أقرأ له الكثير من النّصوص المنشورة في الصّحف اليوميّة،لكنني قرأت جلّ نصوصه التي كتبها هنا وهناك، يُعرف هذا القاصّ بأنّه مقلّ في الكتابة وإن كان يعمل على تجربته بشكل مدهش، وعذره في ذلك – كما قال عن نفسه ” كقاص أكتبُ ببطء وباهتمام مملّ، أكتب القصّة وأنهيها ثم أكتشف بعد أكثر من شهر، وثلاثة، أنني فعلت ذلك أكثر من أربع مرات، وأنتهي بأربعة نماذج مختلفة، أنشرُ آخرها في الشهر الخامس من بدء الكتابة، هذا أنا أبالغ في تعاملي مع ما أكتب “صحيفة الرياض العدد (العدد 14101)”.
لديه ميول ومواهب أخرى متعدّدة يبرز منها رسم الكاريكاتير الثقافي، ولديه ولع شديد بالسينما، ومع ذلك ما زال يكتب النّصّ القصصيّ بشكل لافت!
هذا المبدع هو القاصّ الشّاب: خالد الصامطي، الذي يمنح ولاءه للنصّ القصصي، ويدفع بموهبته الفعليّة إلى الكتابة الحديثة التي تركّز على أن تصل فكرته بشكل أدبي رائع وإنساني مقنع، فهو يعمد في جلّ نصوصه التي قرأتها له إلى توظيف الكتابة الشفافة،واللغة الموحية، وإبراز الجوانب المحيطة بالنّصّ وفق حاجات فعليّة يقتضيها الفعل الكتابي، ولديه قدرة فنيّة على تطويع الجمل السرديّة بشكل يلفت نظر القارئ إلى أبعادها التي عادة ما تختبئ خلف حدث أو شخصيّة أو مكان، أو مشاعر شخصيّة تتنوّع بحسب الموقف والحالة!
لدى ” خالد ” مجموعة لا بأس بها من النّصوص التي يمكن أن نعرّج على بعضها بذكر عناوينها مثل نصّ: ” أشعث أغبر ” الذي استخدم فيه ” تقنية ” الكولاج الفني من قصّ ولزق، من تقديم وتأخير، من حذف وإضافة، من تثبيت وإزاحة، وهي إحدى مظاهر الحداثة في النص القصصي حسب رأي القاص والناقد المصري – سمير الفيل -.
وكذلك نصّ ” خطّ البلدة لا ينتهي ” الذي يقرأ فيه القاصّ البيئة بعدسة فنّان، ويصوّر الشخصيّة بشكل مقنع، فهو يتكئ على القراءة النفسيّة التي تناسب حمولات النصّ، فتمنحه بعداً إنسانياً وفنّياً، وتعطي قيمة فعليّة لحالة ” الشّحاذ ” الذي يحتاج، لكنّه يحلم – أيضاً – بعيداً عن التضخيم أو التهويل، لتناسب في جملها الوصفيّة حالة الشعور، ودرجة التعايش مع الجوّ العام للحدث ” كلُّ الأشياء تلفظني، الشمس، الأسفلت، السيارات، النظرات، نادراً ما يحتويني صوتُ امرأةٍ عطوف من سيارةِ أجرة، أو وجهُ طفلٍ في مقعدٍ خلفي، فأنكفئ بينَ حاجبيهِ المائلين كرقم ثمانيةٍ مقطوع الزاوية، أستظلُّ قليلاً من وهجِ نبذهم وبقيةِ الحواجب، لا يهمُّ إن انتهيتُ فائزاً بورقةٍ نقديّةٍ يتفضلُ بها والده، أو بمجردِّ الهدهدة على حزني بـ(الله يعطينا ويعطيك) تأتي مكررةً ورتيبة من فمِ سائقٍ اعتاد قولها، ولا يُهمُّ أيضاً إن عُدتُ ليلاً بغَلّةٍ شحيحةٍ إلى أبي الفقير الحانق على كلّ شيء، ما يهم قولهُ الآن أنني شخصٌ بائسٌ جداً “!
كما أنّ لدى القاصّ ” خالد ” القدرة على تشكيل النّصّ السّردي وفق مقتضيات البوح، بعيداً عن سيطرة الكاتب، فهناك أفكار كثيرة يمكن أن يلج إليها النّصّ القصصي دون خروج عن فنيّته أو استطراد يُفسد على القارئ متعته، ويمكن أن نلحظ ذلك بشكل كبير في نصّ ” منيرة ” الذي يصوّر فيه حياة كانت، وحادثة عابرة تُقرأ ويمكن أن تشاهد: ” حصلنا في الأسبوع الأوّل من قدومها، على أشياء كثيرة. فإضافةً إلى الحلوى ومشاهدة امرأة بشعرٍ بنّيّ تتسلقُ شجرةً، وتركلُ كرةً في الشارع، فقد حصلنا مثلاً: على حكيٍ وافرٍ نتداولهُ عندما نسهر على “الدَّكة” نلعب “أونو” أو “كيرَم” ونستعيدُ صورَ الحرمة الغريبة التي تسكنُ في البيتِ المجاور، تصرفاتها، جُرأتها، كانت موضوعاً شيّقاً، وجديداً بالنسبةِ لنا، المسألة كانت بمثابةِ صدمةٍ مؤثرة، نقلةٍ بتاريخنا البَصَريِّ في الحارة، حتّى إنّ أحدنا يغشّ أثناء اللعب ولا نكترث، فالنقاشُ محتدم “!
ولأنّ أفكار النصوص التي يكتبها خالد الصامطي تستمدّ قوتها من بيئة ثريّة بالحكايات والقصص والأوجاع، فهي تعتمد كثيراً على ذاكرة تعشق استحضار الماضي بصورة أكثر حداثة وأكثر قدرة على التماهي مع الحياة الجديدة بأفكار تعيد لنا الأسئلة بشكل آخر مختلف!
وهي في نهاية الأمر قادرة على الحضور المقنع لقارئ يبحث عن استنتاجات لحياة كانت واجباً وأصبحت في عُرف الكتّاب قصصاً بديعة، وبطولات يمكن العودة إليها وقت استحضارها من جدي كما في نصّ “في جيدها عقد من بلد” والتي يقرن فيها بين “صفيّة” جدّته وكثير من ثقافاته المكتسبة بقوله “صفيّة، التي لولا أنّها وجدت نفسها -على سبيل القدر- امرأةً قرويّةً، ترعى الغنم، تطرحُ القصب لبقرتها، وتذهب كلّ صباحٍ للسقايّة، ولولا أنها أيضاً كانت تحصد “الخَضير” وتصدحُ بأهازيج المزارعين، لكانت شيئاً آخر لا يختلفُ كثيراً عنها، مثلاً: سيّدة إنجليزيّة نبيلة، من الطبقةِ الأرستقراطيّة طبعاً، تجمع اسطواناتٍ موسيقيّةٍ لـ”باخ”، وتحبُّ لوحات بيكاسو وموديلياني النادرة، تكتب مذكّراتها اليوميّة وتجاربَها القديمة بكلّ جرأة، أو لكانت في بيئةٍ مقاربةٍ لبيئتها، مثلاً: كعجوزٍ اسكتلنديّة تجلسُ على كُرسيٍّ هزّاز، تستظلُّ بمدخلِ منزلٍ ريفيّ، تغزلُ شالاتٍ صوفيّةٍ وهي تنتظرُ عودة جدّي من المزرعة”، لكنّ فارقها الوحيد أنّ البيئة يمكنها أن تقتل أهلها أو تخلّد سيرهم!
أخيراً يمكن القول إنّ لدى ” خالد الصامطي ” قدرة عالية في الكتابة السّلسة المشرّبة بعذوبة الإبداع – كما يقول – منصور المهوس – فهو يكتب بعين وروح ويد تعرف جيّداً أين تضع الحروف وإن أدمن فعل المراجعة والتصحيح وإعادة الكتابة!
alifayia@alwatan.com.sa
جريدة الجزيرة (المجلة الثقافية) الأثنين 3ربيع الثاني 1427 الموافق 1 مايو 2006م.
مقال: محمد جبر الحربي:
نشر الشاب المبدع خالد الصامطي قبل شهر تقريبا قصة قصيرة في هذه المجلة بعنوان (خط البلدة) بلغة عربية سليمة مبينة عالية، وبشحنة عاطفية متأججة، وتتابع جاذب، وفطنة كتابية، وحرفة قصصية خلابة، وإحساس واعٍ بالواقع مع رغبة في التغيير الموجب، ولا يكون ذلك إلا بمعايشة التفاصيل.
والحقيقة أنني بعد قراءتها لم أكن بحاجة للعودة إليها إلا للاستزادة من جمالها، ولم أشعر بصداعٍ، ولا اضطربت عيناي، ولا احترق رأسي كما يحدث لي مع الكتابات القصصية والسردية الشائعة اليوم. تلك الكتابات التي لا نعرف أولها من آخرها، وتكثر فيها علامات الاستفهام والتعجب والنقاط المتتابعة والأخطاء اللغوية. تلك المكتوبة إما بلغة ركيكة ضعيفة، أو بلغة متعالية مصطنعة مفتعلة لا تستطيع إزاحة الفقر لدى صاحبها، ناهيك عن تعمد استخدام ما لا يفهم ظناً بأن ذلك قمة التخييل أو التحديث أو التجريب. أؤكد لكم أنني عندما قرأتها لم تبرد أطرافي، ولا تبلد حسي، ولا شعرت أني بحاجة لطي الجريدة يأساً وأنا أتأفف وأشتم على غير عادتي لاعناً الشيطان نأياً عن لعن غيره، مع أنك لست بحاجة للعن (نص) هابط وهنا يجوز أن نطلق مفردة نص إذا كان معنى اللعن الطرد والإبعاد، فنصوص كهذه مطرودة مبعدة بالضرورة عن حقول الإبداع.
لقد جذبتي القصة من بدايتها جذباً، وفتحت لي الباب بابتسامة وترحيب عربي أصيل، وأشارت لي بالجلوس في صدر الديوان، وقدمت لي شاياً بالنعناع، بعد أن خيرتني بين عدة صنوف من الخضرة اليانعة العطرة. لقد كتبت أعلى (خط البلدة) إشارة تفيد بأنها: قصة قصيرة، وهي كذلك، ولم يكتب والحمد لله (نص) لندخل في متاهات تزيد في غربتنا ونحن نعيش التيه الأعظم.. وأنا، واغفروا لي تخلفي وقلة إدراكي، أحب أن يُكتب على القصة قصة قصيرة، وعلى القصيدة قصيدة أو شعر، وأن نترك النص لأصحاب النصوص المفتوحة أو المجروحة أو المطروحة دونما وعي أو هوية، أو عن تعمد وقصد، والله أعلم بالقصد. وخالد الصامطي إضافة إلى لغته العربية الجميلة، هو في الأشهر الأخيرة من دراسته الجامعية للعبرية في جامعة الملك سعود..
نحن إذاً أمام عربيةٍ وعبريةٍ وشابٍ بمواهب متعددة منها الصحافة، والتصوير، والكمبيوتر، والموسيقى. شاب بإيقاع، وإيقاعاته مرتبطة بالواقع. لذلك جاءت قصصه مرتبطة بالواقع، مرتبطة ببيئته الجنوبية – وهو الجنوبي- بذاته وأسرته ومحيطه. وما يميزه أنه لا يقلد الواقع، بل يستحثه هذا الواقع على التغيير، والنقش المميز، هي حفريات في جدار الواقع، فقصته خط البلدة تستصرخ ضمائرهم وضمائرنا المسترخية عند إشارات المرور كل حين. ويعجبني في قصص خالد حضور الناس والقرى والمدن، حضور الكائنات، وحضور الألم والحزن والأمل والفأل، وحضور اللغة التي تهشمت لدى السواد الأعظم من كتاب القصة أو من يدعون كتابتها وهي منهم براء.
وهنا يهمني أن أشير بأن هذه الكتابة الصغيرة الحجم ليست مديحاً مفرطاً لخالد، ولا هي للرد على من يقول بأنني أصطفي المبدعات أكثر من المبدعين، ولا هي للرد على من يعتبر أن هذه الكتابات غير مجدية وأنها مجاملة للمقربين من الأصدقاء.
هذه الكتابة وغيرها مثلها احتفاء من القلب بكل جمال، وتعبير عن مكنون حب لكل من يحاول أن يسلك هذا الطريق الصعب، طريق الإبداع، وزاده العناد في واقع صعب، وهدفه الناس والجمال.
هذه المساحة ومساحات قبلها وبعدها ليست ملكاً خاصاً لي، بل هي لكم جميعاً.. للناس جميعاً.
إنها التفاتة محبة، ومثال للجمال، وعلى الجمال.
mjharbi@hotmail.com
أحدث التعليقات