ToGoTea

الأرشيف

قصص قصيرة

ManFallFromSky

الرجل الذي سقط من السماء
فكرة استعصت على شرطيّ يطمح بأن يكون كاتبًا

استنفذ العريف “دليم” كل الحيل التي وفرها الجزء التحليلي من مخيلته وهو يسير بحذر في الموقع الصحراوي الذي يبعد بمسافة تتجاوز الكيلو عن الطريق الاسفلتي، بحثًا عن أثرٍ على التراب أو إشارةٍ من السماء أو أي خيط يفسر له طريقة وقوع الحادث بشكلٍ يختلف عن الإفادة المفزعة التي رواها الراعي “مناويشي”، الذي كان يقود مركبته الصدئة من نوع تايوتا هايلوكس موديل 80 بحثًا عن ناقة نأت عن القطيع. أشعل دليم سيجارته الثالثة منذ أن وصل إلى الموقع وهو يفكر بما يمكن كتابته في التقرير الرسمي كوصفٍ للحدث، “هذا الأمر يجب أن يكتب بأسلوب منطقي يتقبله الرؤساء” هكذا كان يفكر. ملامحه الحائرة تعترف بالمفاجأة التي خلّفها المشهد الجديد من نوعه، وهو الذي اعتقد مخطئًا، بعد أن قضى ثلاثين عامًا في السلك العسكري بهذه البلدة النائية، أنه قد شاهد كل شيء.

مسح بِكُمِّ بدلته الضيقة ما خلفته الشمس وسموم الربع الخالي على جبينه المجعّد من عرقٍ وذرات رمل، فبانت بقعة داكنة اللون حول ابطه وقد جفَّ محيطها مخلفًا حدودًا بيضاء، ثم انحنى محاولًا رؤية الجزء السفلي من مقدمة السيارة أو ما يمكن أن يكون تحت محركها، ولكن لا شيء يمكن رؤيته غير كومة الرمل التي تحيط بالصدّام والإطارين الأماميين نتيجة انغراسها بسطح الأرض.

– من السماء؟

بالتفاتةٍ يائسة وجه سؤاله للراعي مستجديًا إجابةٍ لم يسمعها، لكنه لم يجد غير الموافقة بهزة رأس.

– متأكد؟

– آي والله!

أجابه الراعي وهو يلوّح بيديه في الفراغ مؤكدًا حقيقة غياب الأعمدة والأشجار والأشياء المخوَّلة بإسقاط الكُتل من الأعلى. لا شيء حولهما سوى مركبة الراعي و”جيب” الشرطة، والفراغ.

بصعوبة الوصول وهدوء الاعتياد، أخرج العريف دليم جواله من جرابٍ يضعه جوار مسدسه المتصلب زناده دون علمه منذ زمن والمثبت على حزامه المحشور تحت كرشته البارزة أمامه بقدر ذراع، ثم أخذ يلتقط صورًا للجثة الهامدة على غطاء محرك الهايلوكس. لوهلة، بدا وكأنه محقق محترف يعرف جيدًا ما يجب القيام به، وقد شعر بذلك وأُعجب بالفكرة لدرجةٍ جعلته يوسّع دائرة وقوفه ويلتقط عدة صور من زوايا مختلفة. وقبل أن يلقي نظرة أخيرة على الصور ويعيد جواله إلى مكانه، أشار إلى الراعي بأن يقف جوار الجثة، الأمر الذي أربك الثاني وتبدّت قلّة خبرته في التموضع أمام الكاميرا. كيف له أن يعتاد على فعلٍ لم يمارسه سوى ست مرات طيلة حياته: عند استخراجه لبطاقة الهوية السودانية، وصورة لجواز السفر، وأربع مراتٍ مع كل تجديد متأخر لبطاقة المقيم الخاصة به، لذلك وجد العريف نفسه مجبرًا لأن ينتظر الراعي حتى تكفّ ذراعيه المرتبكة عن الحركة اللاإرادية أمام رهبة الكاميرا، ليلتقط الصورة العاشرة والأخيرة لمحضر الحادث، والسابعة لمناويشي.

لم يكن مناويشي يتوقع أنه من الممكن حصول أمر مماثل في الحياة. إذ لم يسبق لمخيلته المنبسطة كصحراء أن تصوّرت سقوط جسد آدميٍ من بطن السماء ولا في أكثر أفكاره غرابةً أو سوداوية رغم كثرتها. فهي تباغته كلما أمعن في تذكّر غربته، وهو يقضي لياليه يخربش على أوراقه وحيدًا في حجرةٍ من الطوب العاري بداخل “حوش” الإبل حيث لا شيء سوى الصحراء من كل جانب، ولا صوت سوى زفزفة الريح وصرير الجنادب، أو خشخشة جسدٍ ناقةٍ، تهرش القمل عن بشرتها المهتاجة بجدار حجرته الخشن.

بالنسبة له، لم يكن مشهد العريف دليم المتكئ على غطاء محرك سيارة الشرطة، يكتب التقرير في نسخته الرابعة بعد أن قام بتقطيع ثلاث ورقات قبلها، كافيًا لإلهائه عن التفكير بناقته التائهة وفي ردة الفعل المحتملة من رب عمله إذا ما سمع بخبر ضياعها! والحق، إن مشاعر كفيله، حاد الطباع، تفقد أهميتها مقارنة بالمصير المجهول الذي ينتظره وهو يقع في دائرة شكّ أمام جثة ترقد فوق غطاء محرك سيارته، إلا أن الأمر الذي يدفعه إلى التفكير بها متمنيًا السماح له بإكمال البحث عنها ليس الخوف المجرد من تاجر مواشٍ مسنّ، بل لعلاقته القديمة والمتينة بتلك الناقة، علاقة لم يحضَ بمثلها مع إنسان منذ أن غادر دياره قبل أكثر من عشرين عام.

– ممكن نعرف من سيادتكم اش الـ ممكن يحصل ليَّه؟

سأل الراعي بنبرة استعطاف وهو ينظر إلى ساعة يده الالكترونية من نوع كاسيو.

– اس، اسسس “والجثةُ ترقد فوق كبوت سيارته المطعوج…”.

قاطعه العريف بصوتٍ عالٍ آمرًا إياه بالصمت خشية أن تسقط من حبل أفكاره الجملة التي تمتم بها بعد ذلك بهدوء وهو يكتبها في التقرير. هكذا هو العريف دليم، من السهل تشتيت أفكاره، وكثيرًا ما يتمنى أن تتشكل حوله فقاعة عازلة للصوت حال الكتابة، فهو يطمح بأن يتقاعد مبكرًا ويتفرغ لكتابة المقالات. رغم أن أحدًا من رؤساء التحرير الذين أرسل لهم مقالاته لم يقم بالرد، ولا تبتعد كتاباته في الواتساب أكثر من خطوة إرسالها إلى المستقبِل الأول.

عندما انخرط بالسلك العسكري برتبة جندي، كان اسمه ومرجعه هو التشكيلة الصوتية الوحيدة التي يتقن رسمها على الورق. هكذا “الجندي دليّم صنوان الشرطة” بلا فواصل وبخطٍ هلامي يتعثر في ذاته. لم تمض سوى سنة من التحاقه بعمله حتى عرف أنه لن يتمكن من الارتقاء خطوة في السلم العسكري إلا بشهادة، لذلك عاد إلى مقاعد الدراسة الليلية، وهناك التقى بالرجل الذي غيّر حياته، معلم اللغة العربية كمال الذي أوقعه في غرام اللغة وزرع فيه بذرة الرغبة في التعبير عن كل ما يراه رغم قلة ما يمكن مشاهدته في بلدته النائية، نبت بداخله شيء لا يعرف كنهه، شيءٌ يشبه الثقة، شيءٌ مكّنَ خطّ يده من الاستقرار على سطر وقلمه من الاستمرار وإكمال صفحة بكلمات كثيرة ومنوعة. لكنه، وفي هذه اللحظة، يكره ذلك الشيء الذي توقف نموه باكرًا، الشيء الذي لم يتمكن من نيل إعجاب رؤساء التحرير، ولم يُمكّن مقالاته على الوتساب من الانتشار لأبعد من قائمة الأسماء المحفوظة، الشيء الذي يفشل في صياغة تقرير لأربع مرات متتالية.

– طب أروح يمكن ألاقي الناقة قبل الظلام يحل؟

قال ذلك مناويشي فيما كان العريف يفرك جبهته متأزمًا محاولاً استنطاق قلمه، ثم سار الراعي مبتعدًا يوزع نظره إلى البعيد عسى أن يرى سنامًا ناتئًا في المدى. وبعد وقتٍ من التفكير، تفاجأ العريف دليم بأنه يقف وحيدًا في الصحراء، صاح العريف دليم وقام بقطع النسخة الرابعة من المحضر وفي حلقة تتحشرج الشتائم، ثم قفز في مشهد درامي راميًا بدفتره في الهواء وملوحًا بذراعيه في جميع الاتجاهات، ثم ارتمى بداخل سيارته تاركًا بابها مشرعًا، وقاد عائدًا نحو الطريق الاسفلتي.

في وقتٍ متأخر من ذلك اليوم، بعد مسير يومٍ طويل، أخذت الناقة تهرش القمل عن بشرتها المهتاجة بجدار الحجرة الخشن، وفي داخلها يجلس مناويشي يخربش على أوراقه عن الرجل الذي، ببساطة، سقط من السماء.

لم أتوقع انتظاره لي خارج البقالة كما فعل يومًا أمام الخياط وأنا في البطحاء أفصل ثيابًا للعيد، تلك الفكرة الغائبة عن ذهني جعلته يتمكن من مباغتتي وركل خصيتيّ بسهولة وأنا على عتبة المحل، تقوّستُ فضرب مؤخرة رأسي بكوعه وسقطت. كهرباء قارصة تصاعدت من عانتي إلى عِرق أسفل أذني. استمرّ يركلُ ظهري وأنا أحاصر بيديّ الألم في حضني، ركلاته في الخلف لم تكن بذات أهمية حينها. خرج صاحب البقالة وأمسكه محاولاً التفريق بيننا، الأمر الذي أعطاني فرصة تسريب ألمي إلى باطن الأرض والنقمة إلى بقية أعضائي. التقطتُ قارورةَ بيرةٍ مكسورة من كيس الحاجيات التي اشتريتها، وأنا أستعيدُ توازني واقفًا سددتها نحو وجهه فتصداها بكفه وجُرح، ثم غرستُ حدّها في كتفه الملعونة. بعبثية المتألم تمكن من زحلقة القارورة من يدي لتتهشم بعيدًا، وأخذ يلكمني على وجهي وبطني وخاصرتي، أمسكتُ بيده السليمة ولففتها حول ظهره، وجريًا دفعته ليرتطم وجهه بجدار البقالة، وأخذتُ أركله على إليتيه بركبتي، ثم بباطن قدمي جررتُ أسفله تجاهي ودفعت نصفه الأعلى ليزحف صدره ووجهه للأسفل محتكًا بالجدار، امتدّ بطوله على الرصيف، وأطلقتُ قدمَيَّ ركلاً على رأسه وكليتيه وكتفه المجروحة.

تركتُ ابن الشرموطة يتأوّه على الرصيف ومن فمه يتطاير اللعاب المختلط بالدم والتهديد والشتائم، ثم ركبت سيارتي متجهًا إلى البيت.

أستيقظ الساعة السادسة صباحًا، أشرب قهوة وآكل موزة وأعبئ كوبًا آخر من القهوة للطريق، وأخرج إلى زحام يلعنُ حظّ الوقت حتى أصل إلى العمل. ينقضي نصف يومي في المكتب، ونصفه الآخر في مشوارين يستنزفان آخر رشفة صبر في كأسي، أرفعه وأقلبه فوق فمي المشرع، ولا شيء يقطر، أشتم قائد السيارة المجاورة ويشتمني في المقابل ولا يصلني صوته، زجاج سيارته مغلق، يبدو أن مكيفه يعمل بشكلٍ جيد، الغشيم يملك سيارة جديدة.

أنت حتمًا متأخر عندما يكون وقع السيارات الواقفة على المسار الأيمن والإشارة حمراء على نفسك أسوأ مما يُشعرك به شخصٌ يرفع إصبعه الوسطى ردًا على التحية ثم يبصق في وجهك. أنتظر، أفكر بالتملص والدخول إلى الحواري، ألوي ساعد ذاكرتي علها تعترف وتشير إلى الطريق الفارغ، ولكن لم يعد ذلك مجديًا، لقد فضح أمر كل الطرق المختصرة هنا، الكل يعرف عنها، والكل يسلكها. وأنا لا زلت أجهل كيف أصل إلى البيت خلال أقل من ساعة في كل ظهرية ساخطة.

يحل المساء، أعبئ كوب القهوة وأخرج، أحاول أن أكون إنسانًا طبيعيًا يخرج مع أصدقائه للعب البلياردو عندما يحل المساء. ثم إنه، في مدينة كهذه، يحتاج المرء لأن يكون مهووسًا بأمر يلهيه عن المآسي التي تعبث به حسب مزاجية القدر، والبلياردو هي هوسي.

السيجارة بين سبابة ووسطى يدي على المقود ترتعش، يدي ترتعش، والدخان يزحف على قعر الزجاجة الأمامية مرتفعًا كموج. نسيت كيف أستمتع بمشهد مماثل. صوت الأبواق خلفي وأمامي جعلني أنتبه إلى الإشارة الخضراء، وأنا أفكر لماذا أرتعش؟ ربما من القهوة. تحولت الإشارة إلى الأحمر مرةً أخرى ولم أقترب منها بعد.

في صالة البلياردو، أصوب المضرب فتتفرقع الطابات المرتبة على شكل مثلث وتنتشر على الطاولة، تسقط واحدة منها. يخبرني صديقي ومنافسي في اللعب عن الشاحنة التي قفزت من على جسر شعيب أوبير واحترقت. المسافة بين الجسر وقاع الوادي طويلة. أفكر: ربما، بالنسبة إلى سائقها، هي أول مرة يقطع فيها مسافة كتلك بسرعة وسلاسة دون وجود سيارات أمامه. هل توقفت لتشاهدها تحترق؟

– لم أفعل ذلك بإرادة، الشارع كله وقف لساعات يشاهد الدخان المتصاعد حتى تحركت العربات في آخر الجسر.

أنا أفهم ما يعنيه صديقي جيدًا، وأعتقد أن الشابين اللذان يلعبان البلياردو على الطاولة المجاورة يفهمان صديقي أيضًا. الوقوف أثناء السير، في حالات كثيرة، لا يكون بإرادتنا. أفرك بالطبشورة رأس المضرب، وألعب مصوبًا على التسعة، أفشل في إسقاطها. ثم أفكر كيف شعر السائق وهو يحترق. هل احترق وهو حي؟

– على الأرجح أنه مات مباشرة بعد الارتطام، ثم احترق.

سيكون الأمر مثيرًا للاهتمام لو أنه كان هندوسيًا، أعني لأخيه مثلاً بعد عام، حيث سيتذكره ثم يقول:

“لتحل الرحمة على أخي، لقد كان مراعيًا لمشاعرنا ولا يطلب الكثير حتى في موته، فقد اختصر حادثه علينا تكلفة مراسيم توديعه وإرساله إلى الجهة الأخرى.”

يغادر صديقي باكرًا كالعادة، وأبقى أنا أتمرن على ضرب الكرة بالطريقة الإنگليزية. عندما تصوب رأس العصا إلى يمين الطابة البيضاء تنطلق للأمام مبرومة حول محورها، ترتطم بحافة الطاولة وتعود متجهة إلى اليمين، وكذا عندما تضرب يسارها. الطريقة سهلة جدًا، وتجعلك تتحكم باتجاه عودتها، وبسعة الزاوية التي ترغب من الطابة البيضاء رسمها على الطاولة.

أخرج من الصالة، أركب سيارتي وأدير محركها، ومرةً أخرى يباغتني دون أن أتوقعه، يقفز على غطاء المحرك كما فعل يومًا وأنا خارج من مركز البريد، أفتح باب السيارة وأخرج لاعنًا إياه والرياض التي تجمعنا، سحبت قدمه القريبة بقوةٍ ليختل توازنه، سقط وارتطمت مؤخرته بالصدام الأمامي ثم كوعه قبل أن يثبت جالسًا على الأرض، تألم من إصابته في الكوع أكثر من مؤخرته لذلك انشغل بتدليكه متيحًا لي فرصة أن ألكمه على وجهه ثلاث مرات حتى نجح في تغيير اتجاه لكمتي الرابعة وبقدمه رفس باطن ركبتي وتمسك بي واقفًا ودافعًا إياي للأسفل اصطدم رأسي بمقدمة السيارة ليسلخ شبك التهوية الجهة اليمنى من وجهي. ثبّتَّ عنقي بين الصدام وركبته، وأخذ يلكمني بيده اليسرى، أمسكتُ ساقه ورفعتها للأعلى ثم عضضتها بقوة، حاول تخليصها فسحب وجهي معها وأعتقد أنني ابتلعت مع الريق شيئًا من دمه، أمسكت بقدمه الأخرى وساقه لا تزال بين فكيّ فتهاوى على الأرض هو الآخر، وسرعان ما قبض على يدي وشعرت بأسنانه تنغرس في ساعدي الأيمن. وبذات اليد التي يقضمها أمسكت أذنه وعصرتها للخارج، بقينا ممدين على الإسفلت، نحاول الصراخ ولا تسمح وضعية أفواهنا بإخراج أصوات أقوى من مجرد أنين، ولا أذن ستتمكن من تمييز الأنين من بين أبواق وصياح وشتائم العابرين.

20 أكتوبر 2011

المعلومة كانت بمثابة الشعرة والمؤامرة هي البعير الذي رافقه لعشرات الأعوام ثم قُصم ظهره، إذ لم يتمكن العم جابر من النوم عندما أُخبر بأنه لا يوجد “عسكري” بداخل الصراف الآلي كما كان يؤمن منذ أن تم تركيبه على جانب الطريق المسفلت القريب من قريته والذي يصلها والقرى المجاورة بالمدينة.

فكرة أن يتوقف الناس أمام الكشك ذي الصحن المعدني المثبت على سقفه، ويحصلون على أوراقٍ نقديةٍ دون وجود شخصٍ يعمل بداخله ويقوم بعملية الاستلام والتسليم وتنظيم الصرف، فكرة مجنونة! كيف للكشك أن يتعرف على الماثل أمامه ويقوم بالسحب من ماله هو بالذات دونًا عن أموال الآخرين؟ لا بد من وجود شخص، واحد على الأقل، يدير العملية من داخل الكشك، شخصٌ في زيٍّ عسكري كما تخيّله العم جابر محاولاً فهم المسألة. كانت تساؤلات مؤرقة على غير عادة الأسئلة التي اعتاد التفكير بها، لذلك لم يتمكن من النوم الليلةَ التي فاجأه حسن، شيخ القرية، بتلك الحقيقة ساخرًا وهما في طريقهما إلى بيتيهما بعد صلاة العشاء:

–       لا يا عم جابر، هذا جهاز يصرف للناس بروحه، مثل دابة ضيوف الوالد، تذكرها؟ هاهاها!

من الطبيعي أن نشعر بأن علمه بالأمر أتى متأخرًا جدًا، وأن نميل إلى الاستغراب من بدائية تفكيره في عصر الشبكات وتقنية المعلومات، وقد يتهمه البعض بمحدودية الأفق. ولكن كونه درس في الكتاتيب بوقتٍ لم تتوصل فيه العلوم لما توصلت إليه الآن، وتعلم من تأمله لمحيطه الصغير ومن أحاديث قديمة مع الرّحل الذين يتوقفون في القرية للتزود بالماء ومواصلة السير، وكونه يعيش في مكانٍ ناءٍ بعيدة عنه الخدمات، وكونه اتكل منذ أكثر من أربعين عامًا على أبنائه في تدبير أموره المالية وشراء حاجيات بيته، ولم يقم بعملية صرافة حديثة قط، ولم يراوده الطريق إلى المدينة عن طريقه اليومي إلى مزرعته سوى للسفر برًا إلى مكة ثلاث مرات كان آخرها قبل خمسة عشر عامًا، أو مرات معدودة ذهب خلالها إلى المدينة لتجديد بطاقة أو تخليص صكوك ومبايعات لأراضٍ ورثها من أقرباء مختلفين، كل ذلك يبرر لنا مفاجأته المتأخرة دون أن يتم اتهامه بالغباء. ومن المنصف ذكر أن العم جابر يفكر كثيرًا، ويتأمل ويحلل منطق أمور كثيرة تجاوزت الكون واللاهوت وتوقفت حيث تتوقف كل النظريات، حيث الحيرة تتلبس كلّ مفكر.

على عكس الليالي الأخرى التي تقطّع نومه الحاجة المستمرة للبول أو تلك الحالات من اليقظة التي بدأت تنتابه منذ عام ويفقد خلالها ارتباطه بالزمن ويعصر فيها ذاكرته محاولاً معرفة أين هو؟ ومن تكون العجوز المنكمشة التي تنام إلى جواره؟ بقي العم جابر مستيقظًا تلك الليلة على فراشه عارفًا بمكانه، وبزوجته الرابعة والمتآكلة بصمت تنتظر أن يفنيها المرض والكِبر كما فعل مع زوجاته السابقات. جلس واعيًا ومرتبطًا بواقعه كما لم يفعل من قبل، يعرفه جيدًا ويتذكر تفاصيل أعوام عمره الطويل الذي تجاوز المئة، يفكر في كل الأشياء التي تلاشت وتلك الأخرى التي شهد بداية اقتحامها الحياة لتفرض ذاتها جزءًا من محيطه، لقد أحسّ الآن، وبشكلٍ حتمي أن زمنه، الذي قضاه وهو يحاول فهم ما يجلبه إليه من ألغاز، هو مؤامرة طويلة وأنه أخيرًا سيتمكن من كشفها.

رجع بذاكرته ستين عامًا، اليوم الذي قرر فيه أن يعتزل، قدر ما يمكن، كلّ ما هو خارج القرية. لقد بدأت أحداث ذلك اليوم عندما نزل العم جابر طريق الوادي على حماره ذاهبًا إلى حقله كما كان يفعل كلّ يوم، وهو يوجه كلامه إلى حماره حول قرب موسم الأمطار، ونظرهُ إلى زبيرٍ في المدى حيث يتشكّل جسم منحدر من أعلاه عجِزَ منطِقهُ البصري عن فهمه، شيءٌ يقترب وتراب الأرض يتطاير ويتلوى خلفه، وهدير صوته يزحف قبله ممهدًا حضوره وكفيلاً بأن يغرس الرعب في نفس العم جابر ويحمله على القفز من على دابته فارًا إلى داخل أحراش الوادي، جلس هناك مرعوبًا، يستمع إلى صوت بوقٍ يقترب، كان وقعه كنفير حرب، ومع عبوره السريع استطاع العم جابر أن يشكلّ في ذاكرته صورةَ عربةٍ بلا دابة تجرّها، فكّر بذلك وقلبه يكاد يقفز خارجًا من بين أضلعه: “يجرّها الشرّ”.

بقي مختبئًا لبعض الوقت، يردد تعاويذ تارةً، ويهمس بأسماء شياطين تارةً أخرى علّها تنجده وأهل قريته من خطر ذلك الشيء، متخيلاً الدمار الذي سيحل بالقرية عندما يصلها. ظلّ مغروسًا بين شجيرات الأثل حتى أعادت الأرض ببطءٍ ذرات غبارها إليها، وخليَ الفضاء من رائحة احتراقٍ وصخبٍ جديد للتوّ تعرفت عليه أذناه.

بعد أن هدأ واستطاع أن يفكر بوضوح، مشى العم جابر قاصًا أثر ذلك الشيء، ومستعرضًا في مخيلته سيناريوهات مختلفة لما سيحدث لأهله والناس في قريته. من الصعب توضيح طريقة عمل الأفكار ومسارها بداخل رأس العمّ جابر حينها. المجتمعات التي تحدّ أفرادها إلى تعلم أساليب النجاة من الحروب ومواجهة الوحوش والسرقات والموت بشكلٍ مستمرّ تُعقد عمل المنطق وتراتبية سير أفكارهم وتحليلها، الأمر الذي يجعل من وصف وتبرير ردود أفعالهم عملاً صعبًا ومعقدًا، لأجل ذلك، من الصعب وصف السيناريوهات التي كان العمّ جابر يتخيلها ويجهزّ ذاته لمواجهتها حال حدوث أحدها.

تبع العم جابر الأثر حتى وصل إلى مشارف القرية حيث رأى “الشيء” أمام منزل الشيخ، وشباب من القرية يحيطون به. “مسكوها.. إي والله، مسكوها!” خرجت هذه الجملة على دفعتين من بين شفتيه الجافتين بصوتٍ لا يمكن وصفه كليًا بالمبتهج، إذ لم يزل ذلك الشيء موجودًا. مدّ خطواته مهرولاً ثم تسارعت ركضًا تجاههم وهو يلوّح بهراوته، عازمًا العراك.

الأمر الوحيد الذي بقي العم جابر نادمًا على عدم الاهتمام به، هو أنه عندما اقترب منهم لم يعطِ مجالاً للتوجّس أن يلفت انتباهه إلى حقيقة أنّ أحدًا لا يُظهر فزعًا من تلك العربة المتحركة بذاتها والواقفة حينها برغبتها! لم يلقِ بالاً إلى مشهدهم وهم يتلمسونها ويتحدثون بشغف حولها وعنها، كان من الممكن أن يقف بينهم ملتقطًا أنفاسه محاولاً إخفاء أية ملامح قد تبدي جلبةً في صدره، أن يتمهل ليكتشف من تخميناتهم وإجاباتهم عن أسئلةٍ قد تُطلق بعبثية، أنها عربة من صنع البشر جاءت تقل ضيوفًا من الحجاز لزيارة الشيخ! كان من الممكن أن يفعل ذلك ويضرب على مقدمة رأسه بصمت غير لائمٍ نفسه بقدر لومه زمنه ثم يعود ليبحث عن حماره ولا يتحدث عن الأمر مطلقًا.

لكنه استعجل، لأن المسألة بالنسبة إليه كانت خطيرة، مسألة شهامة ودفاعٍ ضد أمورٍ ما ورائية، مسألة هزم دخيلٍ مُسير بقوى خفية لا يمكن التنبؤ بما تخبئه، لذلك كان يقفز عاليًا مع تضاعف جرعات شجاعته أمام الجماعة، وشحنات الأدرينالين تتخلل عروقه وتدفع عزيمته، اخترق دائرتهم مصوبًا هراوته نحو العربة، ضربها مرتين وهو يصرخ بجُملِ انتصارٍ لم يتمكن أحد من فهمها ولا هو من إكمالها، حيث، بدفعةٍ اشترك في فعلها أربعة أفراد، وجد نفسه على الأرض متمرغًا بالتراب.

لقد فاجأه الأمر، وشعرَ بإهانةٍ وخيبة أمل! أقرانه الذين توقع عونهم طرحوه أرضًا، لاموه وسخروا منه حتى أطفال القرية ضحكوا عليه ومنهم حسن الذي كبر وأصبح شيخًا. وقع العم جابر ذلك اليوم على صخرةٍ شجّت رأسه، وبسبب وضعية سقوطه كُسرت إحدى أصابعه وشيءٌ آخر في نفسه لا يستطيع تحديد مكانه، ولو سُئل عنه لاكتفى بقول أنه شيء ما بداخله يمكن أن يكون في أيّة جهة.

نفض ذلك المشهد وهو يبتسم، وهو أمرٌ مستغرب، كونها ذكرى لم تجلب له سوى الشعور بالإهانة وقلة الحيلة. قام من على فراشه، فكّر أن اليوم هو الاثنين حيث تُدفع المياه من الخزان إلى ماسورة القرية، وتذكر أن ابنه الأصغر سيقوم بتعبئة الخزانات المعدنية فيما بعد، خرج إلى الفناء وتوضّأ من حنفية ماء “التحلية”. عاد إلى الحجرة وبدّل إزاره بواحدٍ جديد، التقط عكازه وخرج قبل أذان الفجر بنصف ساعة.

مشى العم جابر بسكينة وهو يتأمل النجوم والأفق، مشى ومن جدران بيوت القرية يرتد صدى قرع عكازه وخطوه الموزون مُنظمًا سيل صورٍ قديمةٍ متتالية تعرضها ذاكرته العتيقة وكله عزيمة على المضي.

سمع صوت موسيقى هادئة حذاء بيوت عمال البقالة الباكستانيين، وأخذ ينصت وتقوده أفكاره التي تتوالى بسرياليةٍ عجيبة إلى اليوم الذي أهداه ابنه الأكبر راديو. لقد كان يومًا حافلاً دون شكّ، ليس لكونه تمكن لسنوات من الاستمتاع بالموسيقى الكلاسيكية الساعة الثامنة كلّ ليلة، فهذا أمرٌ قد يستخدم كمبرر عندما يكون الحديث عن السكينة التي تحل عليه الساعة الثامنة، لكنه كان يومًا حافلاً، بالفضول مرةً أخرى، إذ لم يتمكن ابنه حينها، ولا آخرين من أفراد القرية فيما بعد، من الإجابة بمنطقية ووضوح عن تساؤلات العم جابر حول طريقة عمل الراديو: كيف تُعزف الموسيقى في لندن وأسمعها أنا من هنا؟ كيف يتم تجديد الكلام الذي يصدر يوميًا دون تدخل أحد؟

لم يكن العم جابر ممن يستسلمون أمام الغموض، كما اعتقد الكثير ممن عرفوه، ولكنه حين يتوقف عن السؤال فهو يعلقه في جزءٍ من ذاكرته، حيث يبقي الكثير من المسائل، يسترجعها ويلوكها مع نفسه وهو يمشي بأزقة القرية، الوادي، أو بين أشجار مزرعته. لقد فكر العمّ جابر كثيرًا، وربما طال عمره لأنه لم يتوصل بعد لتلك الفكرة، الفكرة الواحدة التي تقوده إلى حيث تنتظره كل الإجابات.

وصل إلى الشارع العام المظلم بعد ربع ساعة، خطى على الإسفلت قاطعًا إياه باتجاه الصراف الآلي. لا صوت في المحيط سوى صياح الديوك وعكازه الذي يسجّل على الإسفلت ثوانٍ تفصله عن فضح المؤامرة. وقف أمام الصراف، أخذ يتلمسه بيده تارة وبعكازه تارة أخرى، يدور حوله، وعلى وجهه ترتسم ابتسامة من يوشك على إيجاد الحلّ. تجاوز الصراف حتى اقترب من صخرة كبيرة مكنته من الجلوس على الأرض والاتكاء عليها. لم يمض وقتٌ طويل حتى انبعث صوت الأذان، أخذ العم جابر بالتسبيح والحوقلة، وعيناه مركزتان على منارة مسجد قريته المنكفئة خلف الصراف الآلي، انتهى الأذان وتلاه صرير وطقطقة مفتاح يدور داخل قفله، وفي مشهدٍ انتظره ليلةً بدت له عُمرا، ارتفع أحد الألواح الجانبية لجهاز الصراف الآلي وخرج من ورائه العسكري منحنيًا، أعاد إغلاق الصراف، ثم وقف متأملاً القرية مطلقًا ذراعيه للأعلى وهو يتثاءب، وخلفه العم جابر على الأرض تسند رأسه الخفيفة صخرة، في داخله التأمت كسور وأغلقت قضياه المعلقة.

لأن معرفة جنسه قبل الولادة لتغطية جسده بعدها لم يكن أمرًا مهما، كان والداه في حراج بن قاسم يبحثان عن ملابس مواليد عندما نشّز المخاض مشية والدته، وجعلها تطلب من والده أخذها إلى المستشفى في الحال. لذلك أطلقت عليه خالاته بادئ الأمر “رزق الحراج” وما إن كبر وبدأ يتجاوب مع محيطه، حتى تبدّى للجميع أنه يأخذ بالارتعاش ويفقد القدرة على التركيز بمجرد تجاوزه حدود أحياء الرياض الجنوبية، وسرعان ما أجمع الملتفون حوله من أقرباء وجيران على تسميته رزق منفوحة.

في البدء، شكّت عائلته أن للأمر علاقة بتعرضه للفحات الهواء الحار وهو يجلس مع قطيع إخوته في حوض سيارة والدهم الداتسون، ولكن الحالة تكررت كثيرًا، حتى عندما خرجوا به شمالاً في سيارة لينكون مكيّفة، استعارها والده خصيصًا لأجله من زميله في العمل.

قابلت رزق خارج أروقة مطار لاگارديا بنيويورك، حيث استقلينا، أنا وهو، إكسبرس شاتل إلى منهاتن- باص صغير يتسع لثمانية ركاب، يستقله عادة الباحثون عن أجرة توصيل رخيصة. وكما يشعر الغرباء بالراحة عندما يقابلون أشخاصًا يتحدثون لغتهم بعد نيفٍ من الحديث بلغة الآخرين، تحدثنا بسلاسة الحكايات المشتركة، الأمر الذي جعله يقرر، دون التصريح بذلك، مرافقتي إلى ذات الفندق الذي كنت أنوي السكن فيه. وعندما كنتُ أتحدث مع موظفة الاستقبال وأظهر امتعاضي من غلاء الحجرة وسعرها المختلف عن السعر المعروض في الكوبون الذي كنتُ قد طبعته مسبقًا من الإنترنت وجلبته معي من سياتل، سألها هو -دون أن يشاورني- عن سعر الجناح، وكان سعره مناسبًا جدًا إذا ما اقتسمناه، ما حدا به أن ينظر إلي وكأنه يحاول استنطاقي بنعم، ولولا تعبي ومحدودية ميزانيتي التي جمعتها من مكافآت أشهر سبقت ولا تكفي سوى لأسبوعٍ واحد في مدينةٍ تغلي بها الأسعار في عزّ الشتاء، لما كنتُ وافقت بمشاركة السكن مع شخصٍ غريب فقط لكونه يتحدث لغة عيال حارتنا، ويروّج رائحة أخي، ويشاركني ذاكرة أزقة حراج بن قاسم وسوق الحمام وفرقعات الكبريت برؤوس البواجي المذيّلة بالريش. استلمنا مفاتيح الجناح وحملنا حقائبنا، وأثناء لحظات الصمت التي تسود المصعد، ويقضيها الناس عادة وهم ينظرون إلى شاشة صغيرة تظهر فيها أرقام الأدوار، أسرّ إليّ:

– لا تفكر كثيرًا في المسألة، سأنام في حجرة المعيشة.. يعني في حالة أن تجلب معك فرخةً، ستتمكن من تناول وجبتك بهناء، وأتوقع منك أن تفعل المثل إذا ما حصلتُ أنا على دجاجة! أحب الدجاج أكثر.

قال ذلك وهو يضحك، وينظر إلى عداد الأدوار، تتحول ضحكته إلى ابتسامة، يصمت، ويفكر بأشياء أخرى أو ربما بالأشياء نفسها.

في المستشفى، أخبرَ آخرُ الأطباء والدَه أن جمود رزق الاجتماعي يدخله في حالة رهاب وتشنجات عصبية حال خروجه من محيط الراحة، الترجمة العربية للمصطلح الإنجليزي Comfort Zone، وقال بأنه في حاجة إلى جلسات وتقنيات علاجية غير معقدة ولكنها لا تتوافر لدى المستشفيات العامة. وبين مواعيد المستشفى، كان والده يعرضه على شيوخ يقرأون عليه وينفثون، ومعالجين شعبيين يكوونه بالنار، ولا تفلح جهودهم جميعًا، ويعود إلى البيت، ويكبُر.

تصالح رزق مع حالته في نفس الوقت الذي تصالحت الكرة معه، فهو يجيد ركلها باليسرى واليمنى، وعندما يستعرض مهاراته بها -كما فعل في حديقة السنترال بارك ونحن نلعب الكرة مع شباب مغاربة جمعتنا بهم الصدفة كما جمعتني به في المطار- يشعر الرائي وكأنه يرقص الهيب هوب. أخبرني أنه كان يتلقى طلبات من حارات أخرى للعب في فرقهم، وقد جاءه عرض من سمسار يمثل نادي الشباب بعد فوز فريق حارتهم بمباراة نهائية في ملعب الفريان، لكنه رفض العرض: النادي فادح الشمال، ثم أنني قد وعدتُ فريقي باللعب معهم الموسم القادم!.

كان يخرج من المدرسة ظهرًا، يمشي شرقًا إلى شارع البطحاء وعليه يتجه يسارًا ويجاهد فوقيّة الشمال إلى ميدان سميراميس، ذلك التقاطع الكبير، يقف على رصيفه يتأمل المدى الذي ينتهي بعمائر من الخرسان وجسر الوشم، يدخن سجائره الأولى حيث التقط عادة التدخين من أصدقاء الأول ثانوي وقهوة البستان، يتنفس الدخان وفكرة العبور، ومن خلفه تأتي متزاحمةً أصوات مزامير العربات وصياح سائقي الباصات ترتطم بزجاج عمارة السليمان، يرتدّ الصدى، ويستمرّ بالوقوف بين العمارة والخزّان، يستجلب الإصرار، تحت ظل ذلك المسمار الهائل الذي يُثبت جنوب المدينة، ويرسم آخر صورة في جغرافيا ذاكرته القصيرة. يحتاج لأن يقطع شارع الملك عبد العزيز إلى مبنى الأحوال المدنية كي يستخرج بطاقة، ولكن قدماه لا تحملانه، ومدير المدرسة وبوّاب القهوة لا يتفهمان حالته، يتردد.. ويعود إلى منفوحة سيرًا على ذات الطريق إلى بيته.

– من المؤسف أن تكون البطحاء أقصى شمالك لكلّ تلك الأعوام، يا رزق!
– كنت سعيدًا بذلك، تصدق!

بعد فعاليات اليوم الأول لمؤتمر التجارة الإلكترونية، والذي حرصت على جعل وقت زيارتي لنيويورك يتوافق معه، اتفقنا على الالتقاء في ميدان تايم سكوير. شاهدته يقف مع امرأة تعلّق كاميرا على عنقها، كنت أنتظره على طاولة الميعاد، وكانت هي تتحدث إليه وتكتب شيئًا في ملفٍ تحمله. التقطتْ صورته مبتسمًا وهو يشكل بوسطاه وسبابته علامة السلام، ثم صافحها وأقبل يمشي منتصرًا. جلسنا نشرب القهوة، خلفنا شاشة كبيرة وأخريات صغيرات تتوزع في المكان، وحولنا محلات القهوة والبيگل والكعك، وعلى أرصفة القرميد تشكل وجوهَ العابرين خرائطَ العالم.

– من تكون تلك المرأة؟
– هه، تلك المرأة؟ كنا نتحدث حول أمرٍ ما. أنظر إلى تلك الحمامة، تسير مع الناس، ولا تخشى أن تُدهس!

لقد تجاهلني تمامًا، وأخذ ينظر إلى الحمامة! الحقّ، أنه كان منظرًا مبهرًا، الحمامة تمشي وسط الزحام وكأنها ترافق أحدهم على الرصيف، وكأنها ستتوقف لشراء فشار، ثم تقطع الشارع من على خطّ المشاة. أخرجت علبة سجائري، أشعلت واحدة، ومددت بأخرى إليه، فشكرني وقال أنه قرر ترك التدخين.

– متى؟
– اليوم.

رغم فضولي وشخصيته المحرضة على الاستكشاف، لم أكن مُلحًا في أحاديثي معه، كلّ ما أعرفه عنه بالإضافة إلى الحكايات التي يرويها لي ونحن نمشي على أرصفة منهاتن أو نأكل الحنيذ في مطعم اليمن السعيد في بروكلين، أنه حصل على بعثة بعد الثانوية قبل ابتداء برنامج الابتعاث السعودي ببضع سنوات، من خلال واسطة دبرها له والده الذي يعمل مراسلاً في وزارة التعليم العالي. أنهى البكالريوس في الهندسة المعمارية كتخصص أولي، ودراسات المجتمع المدني كتخصص ثانوي في جامعة لندن للاقتصاد، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على الماجستير في علم الاجتماع من جامعة فلوريدا، ويعمل حاليًا في سان فرانسيسكو في مؤسسة غير ربحية تشرف على تطوير مباني الأحياء الفقيرة بأكثر من ولاية.

– الصيف الماضي، ولأول مرةٍ في حياتي، جلستُ مع والدي في مقهىً على شارع التحلية. لم يدم جلوسنا طويلاً، حيث تركنا المكان، وذهبنا إلى بوفية العمّ محمد جوار بيتنا، طلبنا شايًا بالنعناع، مثل هذا.

قد تعتقد عزيزي القارئ أن ثمة نواقص في النص، أو أنني فشلت في ربط الحكاية، ولكن رزق قال “مثل هذا” وسكت يرتشف الشاي الذي قدّمه لنا النادل اليمني، وأخذ يتأمل شارع أتلانتك خلف الزجاج. وأنا لم أحاول استنطاقه، ولا أستطيع أن أُمنطَق حكاياته وأبررها أكثر مما هي عليه في هذا النص.

في اليوم الأخير من زيارتي لنيويورك عاد إلى الفندق ظهرًا بعد أن قضى الليلة بكاملها في الخارج. أخبرني ونحن نجهز أمتعتنا أنه أنهى اجتماعاته مع بلدية المدينة، وأنه قريبًا سيذهب إلى شنگهاي، لحضور مؤتمر يعرض آلية تعمير جديدة وسريعة وقليلة التكلفة قام الصينيون بتطويرها مؤخرًا. دفعنا أجرة الفندق، وخرج هو إلى المطار عائدًا إلى سان فرانسيسكو. ولأن رحلتي إلى سياتل متأخرة، قررتُ الجلوس والقراءة على إحدى طاولات ميدان تايم سكوير، تذكرت ميدان سميراميس، واكتشفت أنني لا أعرف كيف تمكن رزق من عبوره أخيرًا، كيف تعالج من حالة الرهاب: ربما كانت فكرة والده بأن يجعل العالم بأكمله جنوبًا! لقد فاتني أن أسأل رزق. حاولت جاهدًا تجاهل التساؤلات وحاجتي بمعرفة الجواب، وأخذتُ أقرأ كتابًا لهيمنگواي حتى تعبت، راقبت وجوه العابرين وتعبت، ثم لجأتُ إلى الكتابة.

بعد ساعتين، جمعت أوراقي وحقائبي مقررًا الذهاب إلى المطار، وقبل أن أنهض، ظهر إعلان في الشاشة الكبيرة، لمنظمة صحية، حيث يتم عرض صور لأشخاص قرروا ترك التدخين عن طريق المنظمة والتي بدورها تستمرّ بالتواصل معهم ومتابعتهم. ظهرت صورة رزق مبتسمًا، وكأنه عاد ليخبرني أمرًا، وأصبعاه تشكلان علامة السلام، وتحتها مكتوب بالإنجليزية:

أنا رزق، لقد أقلعت منذ يومين، وأعد العالم بأنني لن أدخن مرةً أخرى، للأبد.

إهداء إلى عقيل

مبخوت تساهيل جنيور:
انتحر، وهو في العشرين من عمره.
بعد أن عانت أمه “جلبة” هشاشة العظام لسنوات ولم تستطع الحراك إلى أن ماتت جوعًا، ومات “مجربي تساهيل” محمومًا، وامتلأت طُرق الأودية بالعسكر والدبابات، وحلّ دوي الطائرات والقنابل وفرقعات الرصاص محلّ الهدوء على الحدود، لم يجد مبخوت أمامه سببًا للبقاء، فلا الهرب سيفيده، ولا الجوع سيتجنبه، ولا أحد سيشتاق إليه، لذلك اختار الموت، ونفذه بطريقة مستهلكةٍ جدًا لا تحتاج إلى الكثير من التفصيل. هكذا مات:
وقف لخمس دقائق مختبئًا وراء جرفٍ خلَّفه السيل على طريق الوادي مابين قرية “الخضراء” ومحافظة “صامطة” بأقصى الجنوب الغربي السعوديّ، ثم جرى مواجهًا شاحنة وقود تنحدر من منعطف بداية الوادي، ولولا أن مسجلة المركبة معطوبة وقدم السائق لم تكن متكئة على دوّاسة الحركة، لما سمع السائق طقطقة عظام يتهشم تحت عجلات شاحنته، ولظنّ أنه دهس حجرًا أو غصن شجرة أراك جرفها السيل. وكما أتقن وامتهن التملص من الأنظار طوال حياته، نجح مبخوت ذلك المساء، بلمح بصر، في التملّص من حياته.

نشأته:
وُلد مبخوت في إقليم أخضر تحيط به جداول الريّ من كلّ جانب. بالتحديد، في قرية ريفية تدعى الرافعي، على الضفة الجنوبية من وادي “مور” تابعة لمحافظة الحديدة اليمنيّة. هناك، خلف حقلٍ صغير اتكأت أمه على شجرة مانجو طويلة، وأخذت تزحره بألم، ومجربي صاحب الحقل يسحبه بحرص، حتى خرجَ مغطىً بالغَدَر. قطع حبله السرّي، وغمسه بشكلٍ سريع في إناءٍ كبير مليء بالماء، ثم رفعه إلى الأعلى باتجاه الشمس. نظر الأربعيني مجربي إلى المولود الجديد مبتسمًا، ثم وضعه جوار والدته، ومرر يده على رقبتها: سلامتك يا جلبة. أرضعيه، وارتاحي لك شهر.

قضى مبخوت السنوات الأُول من حياتهِ في الحقل، ينام تحت ظلّ “السهوة” مع والدته، وفي النهار عندما تخرج هي للعمل مع زوجة مجربي، يقتل الوقت بالاستكشاف جريًا تحت ظلال أشجار المزارع القريبة أو اللعب مع مجربي الذي وجد من مبخوت ونزقه منفضةً يشتت بها ملل وحدته وألم الفقد.

خلال المغربيات التي يقوم فيها مجربي بجولات تفقّد داخل الحقل وحول حجرات البيت الثلاث، كان يلاحظ أنّ هنالك من يتبعه بخفة وحرص، فيواصل السير متظاهرًا الغفلة، ثم يلتفتُ مفاجئًا مبخوت، يقفز الأخير خلف شجرة، يضحك مجربي ويشعلُ سيجارة، ويقول بالدخان الخارج من صدره: لم أخطئ عندما سميّتك مبخوت تساهيل. في حالاتٍ كهذه فقط تضيع نظرته في المسافة ما بينه وبين التراب، ويتذكرُ أشياء كثيرة بحنين.

مبخوت تساهيل الأكبر:
هو الأخ التوأم لمجربي، مات وهو يهرّب الدقيق من الأراضي السعودية قبل ثلاثة أيّام من ولادة مبخوت جنيور. نشأ الأخوان تساهيل قريبين من بعضهما كما هي عادة التوائم، عانيا في طفولتهما الفقر، وفي شبابهما استطاعا أن يوفرا لقمة عيشهما بصعوبة عن طريق تشكيلهما عصابةَ تهريب، فبذكاء مجربي وخططه المحكمة، وبخفة مبخوت وسرعة بديهته، تمكن الأخوان، بتفرّد، من التحوّل إلى شبح يتناقل أخباره سلاح الحدود السعودي دون أن يتمكنوا يومًا من الإمساك بهما.

لقد تنبأ مبخوت بموته قبلها أكثر من مرة، حيث يلتفت إلى مجربي، وهم يسلكون طرق الأودية الترابية التي يحفظون تفاصيلها كحفظهم لأسمائهم، ويقول: “نموت هاربين، خير من أن نموت جياعًا.” الأمر الذي أقلق مجربي وصار شغله الشاغل، خصوصًا عندما يخرج مبخوت وحيدًا لقضاء التزاماته الشخصية خارج القرية، لذلك كان ينتظره على مدخل الحقل، وعندما يعود يهمس مجربي وهو يمرر يده على رقبة أخيه: اشتقت لك يا شقي.

ذات ليلة تنبئ بعاصفة رعدية، كان مبخوت يقود “الشاص” بسرعةِ الهرب كما اعتاد، قاطعًا وادي “تعشر”، ومجربي فوق أكياس الدقيق في حوض السيارة يعيد ربطها بعد أن سقط أحدها على الطريق، من خلفِ أثلة اعترض طريقهما حمارٌ أبيض يجري باتجاه السيارة، حاول مبخوت تفاديه، ارتقى زبيرًا بوضعٍ مائل، قفز مجربي ناجيًا بحياته، وعصرت السيارة وهي تنقلبُ بثقلها روحَ مبخوت إلى خارج جسده.

مبخوت تساهيل جنيور مرةً أخرى:
علمه مجربي الطُرق كلها إلى ما قبل الحدود، فحفظها بسرعة كمن سبق وأن رآها في منام. ثم درّبه على سرعة الاختباء، حتى أمسى يقفز إلى داخل الأحراش عندما يرى ضوء سيارةٍ يتهادى على الزُبر من بعيد، يتفقد الطريق، يرسل أذنيه في الخلاء، تستكشفان المدى، وبعد أن يغيب الضوء يقف ويواصل السير بحذر.

حين تأكد مجربي من جاهزية مبخوت، تواصل مع صديقه وزبونه الأفضل في السعودية نايف، وبدوره عبر عن أسفه لفقدان أخيه، وكرر رجاءه بأن يعود للعمل. أخبره مجربي بأنه لا يملك سيارة، بعد أن تمت مصادرة الشاص، وهو لا يجيد القياد تحت تلك الظروف، لذلك لن يكون وصول الحملات بذات السرعة، ولكنه أكّد بأنه لا يساوم على أمان وصولها ولا على صلاحيتها، ثم طلب منه تجهيز الدقيق.

وفي اليوم التالي، ذهبا إلى سوق القات، وهناك عبأ مجربي برادعه بثلاثين قُرْفٍ من القات ربطها داخل ملاءات مبلولة، وعلقها على ظهره وظهر مبخوت، ثم سار أمامه حتى اخترق الحدود السعودية باتجاه طُرقٍ يجيدها هو، ويتعلمها مبخوت. كان يتركه للحظات وحيدًا ويراقب تصرفاته، وكان مبخوت يفاجئه بالحنكة وسرعة البديهة، حيث يسير بحرص، ويتوقف للحظات، يستمع وينظر إلى المدى، ثم يواصل. في ذلك اليوم بدأ مبخوت يعتادُ على يدٍ تُمرر فوق رقبته، وصوت يهمس: أشتقت لك يا شقي.

وصلا إلى صامطة، ودخلا السوق المُرتجلة، وهو حوش محشور بين بيوتٍ على طرفِ الوادي، يجتمع فيه باعة القات الصغار الذين لم توفر لهم الحظوظ ولا إمكانياتهم التسويقية من تكوين سمعةٍ جيّدة، ويبيعون بضاعتهم بأرخص الأسعار، سوق رخيصة إلى درجة أطلق عليه زبائنها فيما بعد: سوق الريالين. احتفل باعة القات بمجربي، وهناك التقى بنايف الذي يدرّس الإنجليزي في الصباح ويبيع القات مساءً.

– هذا حمارك؟
قال ذلك المدرّس، بعد أن احتضن مجربي وتبادلا البنوط العريضة التي طرأت على حياتيهما منذ آخر لقاء.

– هذا مبخوت تساهيل.
– آها! إذن هذا مبخوت تساهيل جونيور.

لم يعلم مجربي أن جونيور في اللغة الإنجليزية تعني الأصغر، ولم يضطر أحدهما إلى توضيح اللقب أو التكفل بمشروع نشره، وبدون ترتيبٍ لذلك، مُضغت تلك الكلمة الإنجليزية مع أوراق القات، وتم تداولها على ألسنة الباعة، وسُجلت في ذاكرة المكان بعد التعريب والتلهيج: جنيور، بفتح الجيم. وبعدها، ولسنوات، أصبح مجربي يُحمّل القات على ظهر مبخوت ويطلقه إلى القدر، وينتظره فجر اليوم الثاني على الحدود، وتصاعدت أسطورة مبخوت تساهيل جنيور بداخل مجالس القرى المحيطة بصامطة مع أدخنة الشيشة، الحمار المعجزة الذي يُهرّب القات وحيدًا، يختبئ ويجري ويتملّص، من اليمن إلى السعودية، ثم يعود محملاً بالدقيق.

تعرّف “هاتشيكو” على شوارع إحدى ضواحي طوكيو عندما دخلها لأول مرة في عام 1924م مع صديقه البروفسور “هتسابورو أوينو” وهو أستاذ في قسم الزراعة في جامعة طوكيو. ومنذ أن عرف تفاصيل المكان وحفظ ملامح المارة وأتقن أصواتهم واعتاد على روائحهم المختلفة كان هاتشيكو يودّع البروفسور في صباح كلّ يوم عمل وينظر إليه وهو يمشي خارجًا من باب البيت مبتعدًا إلى أن تخبئه المباني وتبتلعه الشوارع. وفي نهاية اليوم يذهب هاتشيكو إلى محطة القطار “شيبويا” القريبة وينتظر عودة صديقه ويستقبله بفرح الأطفال مع عودة آبائهم بقطع الحلوى، الفرق الوحيد هو أن هاتشيكو لم يكن يبحث عن حلوى أو أي مقابل، ما كان يبحث عنه ويحتفل به على طريقته هي عودة صديقه من الجامعة. لم يعد هاتشيكو يقاوم البقاء في البيت، ولم يكتفِ بمجرّد النظر إلى صديقه وهو يغادر، بل أصبح يرافقه ويمشي معه إلى المحطة، وبعد أن يودّعه، يعود إلى البيت، وينتظر وقت قدوم القطار ليذهب مجددًا في انتظاره. لم يكن ذلك مجرد عادة أو روتين يومي، ولم يلمس الأمر مجرد حياتيهما، بل تعدّى ذلك ليصل إلى أفراد الحيّ جميعًا، فقد صنع هاتشيكو خلال الوقت صداقة مع أصحاب المحلات في الطريق إلى محطة القطار، وعلاقة صداقة مع ركّاب القطار العائدين من أعمالهم في نهاية اليوم، ثمّ علَّمهم، دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة طوال حياته، أن للصداقة معانٍ أسمى من مجرّد المعرفة وتبادل المصالح، تبدأ بالحبّ وتنتهي بالولاء. كان يجلس مقابل باب المحطة، وينتظر بصمت وهو ينظر إلى بابها مترقبًا صديقه البروفسور، وعندما يتشكل جسده من خلف الباب، يقفز ويحتضنه بحميمية وسعادة لا يمكن مقايضتها، ومن ثمّ يعودان إلى البيت سويّة.

وفي يومٍ حزين من أيّام مايو من عام 1925 طال انتظار هاتشيكو أمام المحطة، الكلّ خرج من ذلك الباب، جميع الوجوه المألوفة التي اعتاد على تجاهلها كلّ يوم، ولم يعد صديقه، انتظره طيلة الليل ولم يعد. ما لم يعلمه هاتشيكو هو أن صديقه البروفسور قد أصيبَ بجلطةٍ في الدماغ ذلك اليوم وهو يلقي إحدى محاضراته بحماس وربما يفكر بصديقه الذي يجلس أمام باب المحطة. توفي البروفسور هتسابورو أوينو، ولم يعد أبدًا إلى محطة القطار حيث ينتظره هاتشيكو.

هاتشيكو لم يعلم ما الذي حصل لصديقه، ولم يتمكن أحد من أفراد الحيّ من إخباره بما حصل. فهام على وجهه في أزقة المدينة ولم يستطع البقاء في البيت أبدًا بعد ذلك. ورغم الحزن الذي خلفه غياب صديقه، إلاّ أنه استمرّ في ممارسة الحياة والمرور كلّ صباح أمام منزل البروفسور، ومع الوقت أيقن أنه لن يعود إلى المنزل. فتوقف عن الذهاب إلى هناك، وأصبح يكتفي بالانتظار أمام باب محطة القطار حيث كان يودعه ويستقبله. وهذا ما استمر هاتشيكو بفعله، فقد كان يتواجد أمام الباب كلّ مساء في موعد قدوم القطار، وكل يوم لا يرى صديقه بين الركاب الخارجين من المحطة، فيجمع خيبته وينسحب إلى ظلام أزقة المدينة، لينام في الشارع ويعود إلى أملٍ آخر في اليوم التالي.

تعاطف العابرون والخارجون من محطة القطار معه هو يجلس على ذات الرصيف كلّ يوم، ولمسوا ذلك الوفاء الذي يُقرأ في ملاحم تاريخية عن الأصدقاء القدامى أكثر من أن يُطبّق على الواقع. وتذكروا أيام ما كانوا يشاهدون الصديقين سوية في صباحات العمل ومساءات العودة من العمل. فأصبح الكثير منهم يحضر الطعام لهاتشيكو كي يأكل في لحظات انتظاره لصديقه التي استمرت لمدة 10 سنوات، ولو كان بإمكانه الانتظار أكثر لفعل ذلك، ولكن الموت جاءه في أحد المساءات وهو ينتظر أمام باب محطة القطار “شيبويا”، فتمدد مطلقًا روحه للسماء، حيث سيلتحق بصديقه ويجتمعان مرةً أخرى.

قبل عامٍ من موت هاتشيكو، بالتحديد عام 1933م، قام أحد الفنانين اليابانيين، الذين تأثروا بقصته، بنحت تمثالٍ له وقامت بلدية المدينة مع حضور هاتشيكو نفسه بتدشينه أمام بوابة محطة شيبويا الذي انتظر أمامه هذا الصديق لسنوات. وفي عام 1948 قام فنانٌ آخر بإبداله بتمثالٍ جديدٍ من البرونز، وأصبح مسمّى البوابة “هاتشيكو گوتشي” والذي يعني “مخرج هاتشيكو” وهي إحدى البوابات الخمسة للمحطة. ومُذّاك، أصبح المكان معلمًا تاريخيًا قبل أن يكون مزارًا للسياح، مكانًا للقاء العشاق والأصدقاء المنتظرين.

خلال السنوات التي تلت موته، كُتبت الكتب، وتحدثت الإذاعات، وانسابت قصة هاتشيكو من أفواه الجدّات، وفي الكتب المدرسية كمثالٍ على الوفاء. وتمّ تمثيلها في فيلم ياباني عام 1987م تحت مسمّى “هاتشيكو مونوگاتاري” وكلمة مونوگاتاري تُطلق في اليابانية على الأعمال القصصية وخصوصًا تلك التي تمت كتابتها بين حقبتي الـ”هيان” والـ”موروماتشي” (794م – 1573م) رغم أن حياة هاتشيكو كانت من عام 1923 إلى عام 1934 إلاّ أنّ كاتب الفيلم استخدم كلمة مونوگاتاري لإعطاء النص قيمة أسطورية لعظمة قصته.

وفي شهر يونيو من عام 2009 تمت أمركة الفيلم على يد المخرج “لاس هولستورم” وبطولة “ريتشارد گير”، غير أن المكان بالطبع عوضًا عن اليابان كان في أمريكا، وعوضًا عن البروفسور هتسابورو أوينو أصبح اسمه البروفسور “باركر ويلسون”. ورغم أن الفيلم يحكي القصّة ويعرضها بالزِّيّ الهوليودي الربحي المبالغ في لمعانه، والذي عادة ما يبتعد عن عمق الطرح، إلاّ أن الفيلم أوصل هذا الدرس في الوفاء بطريقة مؤثرة وجميلة. حاول المخرج خلالها أن يعرض القصة من خلال حياتين، بالألوان واللغة كما كان يعيشها البروفسور وبتواتر الأبيض والأسود كما كان يراها هاتشيكو. أتى الفيلم تحت مسمّى “هاتشيكو: قصّة كلب”. صحيح، لقد فاتني أن أخبركم، هاتشيكو كان كلبًا، وكم أتقنت الكلاب فنّ الصداقة وأدبيات الوفاء.

خالد الصامطي
16 فبراير 2010 – شيكاگو.

euhh7.jpg

hachiko200505-4.jpg

lighting_from_the_window.jpg

استيقظتُ في تلك الليلة للمرة الأولى.

لا أذكر الحلم، ولكني أذكرُ أنني كنتُ خائفًا عندما استيقظت، بل فزعت، من غفوةٍ لا من نوم إن صحّ تحليلي لأحداث تلك الليلة. كنت متكئًا على طرف سرير، ممسكًا بسيجارة بين وسطى وسبابة يدي اليسرى، أنظرُ إلى حائط حجرةٍ مظلمة تتسرب إليها إضاءة الشارع بشكلٍ خافت من وراء ستارةٍ صفراء تحجب أكثر مما يفترض بها أن تفعل، تتكئ صوفا غامقة اللون على ركبة النافذة، تحبس آخر الستارة خلفها فبدت كمؤخرة امرأة مختبئة. بمخادعة بصرية كدتُ أنساق لتصديقها بدت لي أكياس بلاستيكية وأقراص ديفيدي وكأنها رسمٌ على السجاد.

أطفأتُ السيجارة ثم دخلت في نوبةٍ سعالٍ قوية جدًا، جرجرتني مترنحًا إلى الحمام. لا أذكر أنني قد رأيتني قبل تلك المرة. أخذتُ أسعل بقوّة، وأختلس النظر إلى وجهي في المرآة خلال ثواني الهُدن بين نوبات السعال. بدوت رجلاً في العقد الرابع من عمري، نحيلاً بشكلٍ يبرز طول أنفي، ولولا أنني أيقنتُ أنه أنا، لقلت أنه لصّ مريض، وبالتأكيد سأُشفق عليه. ثم تمكّنَتْ مني قسوة السعال مرةً أخيرةً وطويلة، وبعد الكثير من الحشرجة أخرجت كلّ ما بحلقي ولحقه ما ببطني دفعةً واحدة في تلك المغسلة التي كنتُ أفكر، وأنا أستفرغ، أنها مرتفعة بشكلٍ مبالغ فيه.

أخذتُ أتأمل وجهي كثيرًا، أنظر إلى ذلك الشخص في المرآة، ثم أنظر إلى ما خلفي وحولي ثم إليه مرةً أخرى. تمكنتُ بصعوبة من ردع ضحكة كانت تهتزّ في صدري. غسلت وجهي وخرجت. لاحظتُ وأنا أغادر الحمّام أنّني أمشي كالمتعثر في خطوِهِ، نسيتُ مشيتي، وكنتُ أحاول أن أختلق مشيةً جديدة، أخذتُ أمشي من المطبخ إلى الصالة إلى المطبخ مرةً أخرى، وهكذا حتّى رسوتُ على مشيةٍ مريحة. ثم التقطتُ علبة عصير أناناس وأعجبني مذاقه، ولم أتوقف عند فكرة إعجابي بالمذاق أبدًا، ربما كان الأناناس عصيري المفضل.

لا أعلم كم من الوقت جلست على تلك الصوفا أشرب العصير، أتأمل الحجرة، وأفركُ ذاكرتي ببرود. كنتُ ولازلت، ولأسباب لا يمكن فهمها، متصالحًا مع حالتي بشكلٍ أو بآخر.

في الصباح قمت بترتيب الشقة، تآلفتُ بشكلٍ ممتاز مع الحجرتين، الأدراج، خزانة الملابس، الصالة والمطبخ. كنتُ أتمتم بأغنية “اليوم يمكن تقولي.. يا نفس إنك سعيدة.” أستوعبُ حقيقةَ أنها لطلال مدّاح، وأذكر حدث سماعها مراتٍ كثيرة خالية من أيّ تصوّر للزمان أو للمكان. وخلال تنظيفي لملفاتٍ وأوراق جمعت فوقها طبقة من الغبار من النوع الذي يمنحك عطستين متتاليتين، وجدتُ شهاداتٍ تحمل ذات الاسم، بالطبع كان اسمي الذي لم أمنح اكتشافه فرصةً للاحتفال، فقد تجاوزته وأنا أشاهد صورًا كثيرةً لي. صورتي وأنا طفل حافيَ القدمين في فريق كرة قدم ينظر كلّ واحد منّا بأزيائنا المتباينة إلى زاويةٍ مختلفة باتجاه المُصوّر. صورة أخرى وأنا اجلس في حضن امرأةٍ تصلح هيئتها أن تكون أمي. أعجبتني فكرة أن تكون هي أمي. وبابتسامة واثقة احتفلت: إنها أمي. لقد تعرفتُ عليّ صغيًرا بشكلٍ سريع ومباشر، كان أمرًا منطقيًا جدًا ويمكن حدسه والتأكيد عليه بسهولة: إن ذلك الرجل الذي رأيته في مرآة الحمام لا يصلح أن يكون طفلاً إلا بهذا الشكل، بذات العينين الغائرتين، وزاوية حاجبٍ أيمنٍ مرتفعة، وأنف طويلة.

كنتُ مستمتعًا بتقليب صوري وقراءة رسائل موجهة إليّ حين علا صوت نغمة رنين مُتعَبة، كانت قادمة من الهاتف الجوال الذي وجدته في جيب ثوبٍ على الشماعة: “المتصل: المكتب الرئيسي”، أجبت. فحياني باسمي المكتوب في الشهادات والرسائل، من الحديث معه -عندما أقول الحديث فأنا أعني الاستدراج والإنصات في غالب الأمر- عرفت أني أعمل لدى شركة إعلامية ما، وهو يتحدث باسمها، أملى عليّ رقم تذكرة طيران الكترونية ذهاب وعودة. أخبرني أنهم متشوقون لرؤيتي في حفلة عيد ميلادي التاسع والعشرين، فشكرته بسعادة مريبة، من الصعب أن تثق في سعادة يتم الشعور بها في حالة مشابهة. طويتُ فضولي في حقيبةٍ صغيرةٍ وجدتها تحت السرير، وفي اليوم الثاني كنت هناك.

الشيء الوحيد الذي حرصتُ على ممارسته وأنا هناك كان الابتسام والناس يتحدثون حولي معي وعنّي، ثم وقف من قدموه على أنه رئيس تحرير الجريدة، وقال كلامًا كثيرًا عن صداقتنا وكيف أنه أعطاني الضوء الأخضر للسفر ولجمع ومطاردة الأخبار وكتابة الريبورتاجات، وعن مساهمتنا كفريق في رفع عوائد الإعلانات ومبيعات الجريدة، لم أكن أشعر بالرضا وأنا أستمع إليه. بعد أن أكلنا العشاء ووضع أناس يعرفونني جيدًا هداياهم على طاولتي، أغلقت الجوّال واستأذنتُ للذهاب إلى الحمام، امتدّ طريق الحمّام وقادني إلى المطار. وفي وقتٍ متأخرٍ من الليل دخلتُ شقتي بسعادة، تلك السعادة التي أعتقد أنه من الجنون استبدالها أو التفكير في مقايضتها بسعادةٍ أخرى. جلست على السرير وبي رغبة بتدليك رقبتي والكتفين. ومنذ ذلك اليوم وأنا أبتسم كلما استيقظتُ في حجرةٍ مظلمة تتسرب إليها إضاءة الشارع بشكلٍ خافت من وراء ستارةٍ صفراء تحجب أكثر مما يفترض بها أن تفعل، وعلى ركبة نافذتها تتكئ صوفا غامقة اللون، تحبس آخر الستارة خلفها لتبدو كمؤخرة امرأة مختبئة.

خالد الصامطي.
24 فبراير 2010– شيكاگو.

مجلة سين

إهداء إلى مطاعن.

اسمه عبده، وفي صبيحة يومٍ من أيام أبريل عام 1988 ونحن نجلس في حصّة تعبير الصف الأول المتوسط صرخ الأستاذ طه:

– أنت يا عبده أنجلو، قلنا أكتب عن أسبوع الشجرة، مش ترسمه!.

ليعلق اللقب في مخيلة كلّ من عرفه أو شاهدَ طلال مدّاح في “البَرَحَة”، ويُخلّد كرمزٍ لحارتنا التي لا يزال سكانها يتساءلون -وهم ينشرون الغسيل فوق سطوح منازلهم أو يطيرّون الحمام- عن سبب اختفاء عبده أنجلو.

لست متأكدًا إذا ما كان ذلك باتفاقٍ جرى بين آبائنا، أم إنها إحدى الصدف التي تجد نفسك تتأملها بتمعّن إذا ما كنت تهتمّ بفنّ الصُدفة ثم تهمس “صدفة تمّ الترتيب لها بشكلٍ جيّد!” فقد خرجنا، أنا وعبده، إلى الحياة سوية، أو لنقل بالتحديد أنه وُلد في الثالث من مارس من عام 1975 وجئت أنا متأخرًا يومين اثنين فقط، وكبرنا في الحارة ذاتها، الشميسي- شارع شلهوب. لم يكن يفصل بين بيتينا سوى سور سطوحٍ ذي علو سمحَ لنا بامتطائه خلال ظُهريات الطفولة، إما بدواعي اللعب وقطف حبّات “العبري”، أو بدواعي الطبخ واستعارة بصلة لأمهاتنا من وإلى البيتين.

عبده يعشق النحت والرّسم تمامًا كما كان يعشق تقرير ثم تنفيذ أحلامه التي دائمًا ما أتت مُفرطةً في الاختلاف. ذات ليلة خميس باردة، بعد أن شوينا وأكلنا ودخنّا الحشيش، كنّا نرسم على جدار سطوحنا ونكتب أبيات شعر أو اقتباسات من القصص والروايات التي كنّا نحصل على ثلاثة ريالات من والدي عند إنهاء قراءة إحداها خلال سنيّ طفولتنا، قال لي عبده، وأنا أنظر إلى بلورةِ فخرٍ تلمع في منتصفِ عينه القريبة، أنه بدأ الرسم وهو ينتظر في بطن أمه، وعندما تمتّ ولادته تخلّقت لها شامة على شكل ريحانة فوق سرّتها. تلك الليلة، رأيت فيها والدته عاريةً على جدار السطح.

أكاد أجزم أحيانًا، حينما أشاهده يعمل على لوحةٍ ما، ويصل إلى مرحلة الرضا عن تشكيله لفكرته، تنبتُ للريشةِ مفاصل فيحركها ويثنيها كإصبع سادس. إنه يرسم بخشوع، وينحتُ بلاهوتية مهيبة. ففي صباح أحد الأيام غادرت حجرتي فوق السطح، مارًا جوار الزاوية التي تحولت إلى مطبخ فني، بقطعٍ من الصفائح الزنكية والأحجار ولطخات الاسمنت بنيناها بأيدينا ورشةً للكتابة والرسم، للكتب والأخشاب والطين والأشياء التي تتحول على يد عبده إلى أصدقاء جدد وبأسماء نبتكرها في وقتها بحسب درجة انتشائنا ومزاجية الليل، وهناك سرقتْ انتباهي منحوتةٌ على هيئة طفل أقرع، كان قد أنهاها عبده في الليلة السابقة، متأكدٌ بأن الطفل انتظرني حتّى اتجه نظري إليه ثم رفع يده بحماس طالبٍ يعرف إجابة السؤال، ولكن بالنسبةِ لي فإن التفريق بين الخيال والواقع مسألةٌ غائبةُ الجدوى. ومن فكرةِ هذه الحادثة كتبتُ “التمثال الذي ربَّت على كتف نحّاته” القصة التي وصلت إلى بريد هذه المجلة في مظروفٍ أرسله عبده موقَعًا باسمي لتصبح أول ما نُشر لي، وخطوة البدء في مشوار عملٍ لم أكن قد أجدتُ بعد كيفية الحلم به لولا أنْ قررهُ عبده لي ثم نفّذه.

قبل أن ننهي الثانوية كنا قد تحدثنا كثيرًا عن خياراتنا بعدها، وكوّنّا فكرة عما يمكن فعله بشهاداتنا. لا شيء يُحرج فضولك غير أن تجهل أمرًا بشكلٍ كلّي، ولا عِلم يُخلّفُ جهلَهُ هذا الفراغَ غير علمِ اللغة، لذلك درس عبده في كلية اللغات والترجمة قسم اللغة الإيطالية وجاورتُه في كليّة الآداب قسم الأدب الإنجليزي.

ملأت سنوات الجامعة فراغًا كبيرًا، واستطعنا أن نسافر في رحلات إلى دول مجاورة ممثلين الجامعة في المهرجانات الشبابية. وعندما تخرجنا أصبحنا نقضي معظم أوقاتنا في الشميسي مجددًا، كانت أيامًا جميلة في البداية، ولكن الروتين صبغها بالملل. في إحدى الليالي صارحني عبده بشعوره أن الشميسي لم يعد كما كان، فقد بدأ يستجوب أحلامنا، بعد أن تساهل كثيرًا في احتواء الأحداث المثيرة، تلك التي كان عبده أنجلو يصنعها ويعلبها ثم يرتبها على رفوف سنواتنا. ومثلما أنني لا أرى الجدوى في التفريق بين الحلم والواقع، فعبده يؤمن، بما لا يقبل الشّك، أن ما يسمى واقعًا ليس سوى حلم يحاول الهرب من حقيقته. ولذلك كانت أحلام عبده تقفز إلى الشارع على مرأى سكّان الحارة، والحارات المجاورة، إلى أن عمّت أنباؤها أرجاء الرياض، وأصبح المسنون الجالسون على باب دكان حسن مرزوق يتمتمون: “وش باقي ما سويت يا عبده!” ونظراتهم معلقة بالسماء حيث يحلّق في الفضاء بالون هيليوم بقطر مترين وقد رُسمت عليه عينٌ كبيرة بحجم بالون.

قبل حادثة البالون بأربعة أعوام، بالتحديد في الحادي عشر من أغسطس من عام 2000 بادلته مشاعر الأسى والحزن، وأخبرني عبده بنبرة الحِداد أنه لن ينام في حجرته فوق سطوح بيتهم حتّى ينهي مشروعًا قرر بدءه. اعتزل الناس في (قلاّب) والده الواقف في البرحة القريبة من دوّار أم سليّم، قبل أن تبني فيها البلديّة صالات مكشوفة لألعاب الكرة. يجيء في الليل ملطخًا بالتراب والطين يشرب الشاي معي ويستمع إلى أغنية “أغراب” أو “الله يرد خطاك”، ثم يعود إلى القلاّب. وفي اليوم الثالث، استيقظت الحارة على دهشة تمثالٍ يقف بأعلى نقطةٍ من البرحة، بطول إنسان طبيعي، يُجسّد الراحل طلال مداح ممسكًا العودَ بيد، ورافعًا الأخرى سلامًا للعابرين.

انتشر خبر التمثال بسرعة الإلكترون داخل أسلاك الهاتف، واحتشد الناس حوله طوال اليوم، حتى أن حسن مرزوق أغلق دكانه في منتصف النهار لأول مرةٍ مذ عرَفته الحارة، وحضر الحشد مع أصدقائه المسنين. ثم جاء شبابٌ لا نعرفهم من حارات بعيدة بكاميرات ذات شاشات صغيرة، واكتفى شباب حارتنا بكاميرات التحميض. جاء بائعو أشرطة الأغاني المنسوخة بالتناوب، وعمال محلات الفيديو، والحلاقون الذين يتحولون إلى ختَّانين إذا ما دعت الحاجة، وبائعو القورة، وآباء يحملون أطفالهم على أكتافهم، التفوا للمرة الأخيرة حول “صوت الأرض” الذي تشكل مجددًا من طين البرحة. ولم تكد شمس ذلك اليوم تُقنع الليلَ بغروبها حتى تصاعدت سيارة من أسفل البرحة، كانت أسرع من التنبؤ بنية قائدها، ليس من الضروري معرفة من بها، ولا شكلها، ولا يُهم كونها بختمٍ حكومي أو شعار شركة مقاولات، كانت سيارة وحسب، انطلقت صوبَ التمثال، وحطمته كجدار قديم، مثل حِلمٍ تعثر في حقيقته.

اتفقنا ضمنيًا ألاّ نتكلم عن أحداث تلك الليلة، ولا أية أحداث مشابهة رغم كثرتها. وخلال بضع الأعوام التي تلت رسم عبده عشرات البورتريهات على جدران أزقة الحارة وصنع أربعة تماثيل في البرحة بعد تمثال طلال. وأمسى يتعرض إلى التهديد والمضايقات بشكلٍ متكرر الأمر الذي اضطره في النهاية إلى التوقف. كنت أراقب خفوت تلك اللمعة التي تشع من عينه منذ فتحها أول مرة، وقبل أن تختفي كلّيًا أسرّ لي أنه سيجرب مشروعًا جديدًا!.

لقد قرر عبده أن يذهب إلى المحكمة الكبرى بالرياض ويحضر إحدى المحاكمات ليرسم قاعتها وقاضيها وأطراف القضية. لم أحاول مناقشته في الأمر أو ثنيه عن تنفيذه، ولستُ نادمًا على أيةِ حال، ولكني شعرت تلك الليلة أنني حريص على تأمل صورته وحفظِها وهو يتحدث عن فكرته بحماسة، وأنني ولمرةٍ أولى استطعت التفريق بين الخيال والحقيقة.

ربما تمكّن من التسلل إلى قاعة المحكمة والجلوس في منتصفها، وربما كان مستمتعًا بالرسم عندما سأله القاضي عن سبب وجوده وأخبره بكلّ بساطة أنه رسام القضية، بالتأكيد لن يتمكن القاضي من فهم ما يقصده عبده بقوله أن الكاميرات ممنوعة في قاعات القضاء ولذلك نشأ فنّ رسم المحاكمات. ربما تمنى عبده من أعماق روحه المعتّقة بالحلم أن يسمح له القاضي بالجلوس بهدوء حتى ينهي لوحته. كثيرة هي “الربمات” التي لا يمكن لنا أن نؤكد احتمالية حدوث أيّة واحدة منها، ولا يهمنا ذلك الآن، الأهم هو أن عبده لم يعد بعدها مجددًا.

خلال الأسبوع الأول من غيابه، سمعتُ أن أحدهم رآه يُجلد في ساحة المحكمة، ورغم عدم ثقتي بأخبار مصدرها دكان الحارة، إلا أنني لم أتوقف عن البحث والسؤال عنه، ولم أجد إجابة واضحة من كتّاب العدل، فقد اتفقوا أنَّ اسمه غير موجود في قضايا الأسبوع، أما حرّاس قاعات القضاء فقد تجنبوا الحديث معي. توقفتُ عن البحث، عندما عدتُ إلى البيت إحدى الليالي بعد شهرٍ من اختفائه، ووجدتُ رسالة مغروسة في علبة عداد الكهرباء، كتب فيها عبده الكثير من الأسباب والقليل من الوصايا، وأفهمني أنه ذاهبٌ للبحثِ مكانٍ صالحٍ لتربية أحلامه.

اختفى عبده في العاشر من مارس عام 2004. غادر وترك حياته لأفراد الحارة يصبونها مع القهوة للسكان الجدد والزائرين من الحارات الأخرى، يسترجعونها وهم يشاهدون مباراة كرة قدم بملعب البرحة في ليالي رمضان، أو يتذكرونه ويبتسمون وهم يقطعون البرحة إلى الحارة المجاورة. يرِد طيفه كجملة “الله يذكرك بالخير يا عبده أنجلو”، يهمس بها بعضهم وعيونهم تبحث عن شيء قد ينبت من سطح البيت أو يحلّق في السماء.

ذات يوم، قال لي زميل لبناني في المجلة، عندما سردتُ له قصة صديقي عبده، أن زوجته الإيطالية التي جاءت تزوره، أخبرته عن شاب سعودي مهووس بالفنّ عمل لفترة قصيرة في ميناء جنوا. ومؤخرًا أقسم صالح بن حسن مرزوق أنه شاهده في مقطع على اليوتيوب يساعد بعض الغرقى خلال سيول جدّة، بحثت عن المقطع ولم أجده. ولا يهم، فالحقيقة الوحيدة التي يمكن قولها بإيمان مطلق أن عبده أنجلو كما أتقن الظهور، يتقن الاختباء حتى عن مكان وجوده، إنه الفكرة التي يصعب تخيّلها، الحلم الذي لا تمسك به حقيقته.

خالد الصامطي
26 فبراير 2010 – شيكاگو.

 

قبل ذلك بيوم، كانَ يشغرُ السّريرَ شخصٌ آخر. عندما ينام “يشخر” كثيراً بشكلٍ مُخيف، بصوتٍ مرتفع، لدرجة أنّه بالإمكان أن يتحوّل إلى “أسد” أو ربما “دَبّاب سِباق” في أيّة لحظة يمكن أن يتخلّق من جديد، وينبت لهُ شعرٌ كثيف حول عنقه ورأسه، أو أطرافٌ من الـ”جنوط” والـ”تواير” -ككلمةٍ مُعرَّبة-. عندما ينام تجتمع الممرضات أمام الحجرة المكوّنة من سريرين، ويضحكن بالـ “تاگالوگ”. ضحكة لغة التاگالوگ غريبة، هي بشكلٍ ما تشبهُ الحديث العادي في لغة الدجاج.

هو شخصٌ سمينٌ جداً، ويعمل كـ”قائِل نكات” لدى أحد الأمراء. لا أدري هل فعلاً مُسمّى وظيفته “قائل نكات”، أو “خويّ” أو “بودي قارد” –فعلاً لا أدري بالضبط- المُهمّ أنهُ رجلٌ في نهايةِ الخمسينات من عمره، ويعملُ لدى أحد الأمراء. ولن نختلف على مسمّى الوظيفة، حتّى لو كانت “مصلّح ساعات” أو “تمرجي”. هذا الرجل الذي كانَ يشغل السّرير قبل ذلك بيوم –كما قلت في بداية النص- لهجته بدويّة قحّة. كانَ يشتكي من ألمٍ ما في “كليته” المزروعة، وبعد أن ظلّ ثلاثة ليالٍ في “الطوارئ” إلى أن فَرَغ هذا السَّرير، جاؤوا به، والمشكلة أنه عندما وصل، لم ينم سوى يومٍ واحد. في اليوم التالي، جئتُ صباحاً وقبّلتُ رأسَ جارهِ في السَّرير، الرجل الكبير الذي يعنيني أمره. المهم أنني اكتشفت أنَّ “قائل النكات” غادر، من الطبيعي أن أكتشف ذلك، لأنه ليس بطلنا على كلّ حال، ولأنّ “أبوفهد” كان نائماً على ذاتِ السرير، كـ حلٍ بديل، وشاغلٍ جديد للسرير ذلك اليوم.

“أبوفهد” بطلنا، رجلٌ في نهايةِ الخمسينات أيضاً. كانَ يعمل “وكيل رقيب” في الجيش. يقول أنّ الرئيس الأمريكي “كتينتون” منحهُ شهادة عندما زار الخفجي بعد حربِ الخليج الثانية. وكما يقول أنّه عندما دخل “الجهرا” شاهدَ فتاةً عمرها ثلاثة أعوام، كانت مذبوحة، حملها وبكى. هو لا يقرأ ولا يكتب، ومُتقاعدٌ حالياً. زرع كليته قبل عام. يقول أنّهُ عندما ركب الطائرة لأوّلِ مرّةٍ قادماً إلى الرياض قبل ثلاثين عام “كنتُ شاباً قوياً” هكذا يتنهّد، قام بوضع الفلفل والملح في الشاي الذي قدّمته المضيفة، لذعه الطعم واندلق الشاي على ثوبه. خلعه في حمّام الطائرة وشطفهُ.

“أبوفهد” لا يُحبّ الصّخب. لذلك هو لم يهتم بسخرية الآخرين في الطائرة عندما عاد إلى مقعده بسروال قصير وفنيلة “علاّقي”، بعد أن نشرَ الغسيل في ممرّ الطائرة لبعض الوقت. ولذلك أيضاً لا يهتمّ بتفسيرات الآخرين. هو يُحبّ أن يرى الحياة بعدستهِ الخاصّة. عدسته المُتخلّية عن قيود المثاليات ووجهات النظر المُخالفة. يصمت كثيراً، وعندما يتحدّث يحكي مواقفَ كثيرة. طبعاً ستكون كثيرة، لأنهُ عاشَ عمرهُ بتفاصيله، منذُ زمن وهو يعيشُ في هذهِ الدنيا، منذُ أن كان هناك شارعٌ في الرياض يُدعى “شارع البرسيم”.

ولنفسِ السّبب -أعني كونهُ لا يُحبّ الصّخب- يُشاهدُ التلفاز بلا صوت. يتأمّل الصور، المشاهد، الأفلام، البرامج الوثائقيّة، والمقاطع الأخباريّة، ويُفسّر كلّ ما يُشاهدُه بمزاجيّة طريفة. بطريقتهِ الخاصّة جداً. ذاتَ يوم كنتُ أشاهد معه التلفاز على طريقته، أشار إليه وقال لي [هذا زعلان عشان الحريري مات] كان مقطعاً إخبارياً يعرضُ أحد المسؤولين العراقيين يتحدّث بغضب وبيده صور وأوراق وأفلام فيديو، وفي الشريط أسفل الشاشة مكتوب [ظهور أدلّة جديدة تُدين القوات الأمريكيّة في جريمة تعذيب سجناء أبوغريب], هززتُ رأسي موافقاً، وسرحتُ بعيداً.

بشرتهُ سمراء داكنة، ووجهه ممتلئ بمرح وسماحة، ولأنهُ لم يحلق ذقنهُ منذُ أن دخل المستشفى. فقد بزغت شعراتهُ البيضاء مغطّيةً ذقنهُ وخدّيه، أعطتهُ هيبةً أخرى، أمسى وجههُ لوحة هوليوديّة. يليقُ بهِ أن يُمثّل دورَ الجدّ في عائلة سوداء. الجدّ الحكيم الذي فهم الحياة جيّداً وعاشَ فترةَ ما قبل النقلة الاجتماعيّة الجذريّة هناك وعاصر مارتن لوثر كينغ، ويتسلى عادةً بشذبِ العشبِ في الحديقة، والكلامِ العميق الممتلئ بالحكمة مع أحفادهِ المتهوّرين. ويبتسم للعابرين.
هو لا يهتمّ بالتسميات الصحيحة للأشياء. ببساطة يُكوّنُ جملةً تُفهم بعدّة اتجاهات. ربما لو كانَ كاتباً لمنح القارئ جميع حقوقه في الخيال، وفي فهم النّص المفتوح كما يشاء. لذلك عندما هبطت تلك الطائرة، قبل ثلاثين عام، كانَ الجوّ بارداً، ولازال ثوبهُ مُبتلاً، هبطتْ في المطار القديم، أوقفَ سيارة أجرة، وطلب منهُ أن يوصلهُ إلى “شارع الحشيش”. ولذلك أيضاً أخذتهُ فرقة من [المباحث] بعد أن أصرّ على أكثر من تاكسي بأن يذهب إلى الشارع الذي يبيعون فيه الحشيش في “برحة” كبيرة، دون أن تُدرك تلك الفرقة -سوى متأخراً- أنّ البرسيم أيضاً من حشائش الأرض. ودونَ أن يُدرك أبو فهد أنّ أهل المُدن يختلفون عن أهل القرى، لم تكن “موضة” النصّوص المفتوحة لأكثر من احتمال قد وصلت المُدن بعد.

في أحد الأيام، كنتُ نائماً على “الصوفا” بجوار سرير الشخص الذي يعنيني أمرهُ كثيراً، أكثر من أيّ شيء, أيقظني “أبوفهد” قال لي أنَّه لم يفهم ما تقوله الممرضة “برتقالة” –لقد منح كلّ موظفٍ في المستشفى مسمىً خاصاً، وبالمجّان أيضاً- بعد أن توجهت إليَّ بالحديث، وغادرتْ، ترجمتُ لهُ أنّها تريدُ منهُ ألاّ يأكل إلى الغدّ حيثُ سيأخذون من كليته عيّنة. والحقّ أنني لم استمتع بالنرجسيّة التي يشعر بها الشخص عادةً عندما يشرحُ للآخر شيئاً لا يفهمه، وهذا الشعور يكونُ مُضاعفاً عندما يتعلّق الأمر بالترجمة، لم استمتع لسببٍ بسيط وهو أنّني لم أُكمل ترجمتي، فقد سمعتُ صوتَ شخير، قادمٍ من خلفِ ستارة “أبوفهد”. عدتُ إلى وضعي على “الصوفا”، ونمتُ على صوتِ سمفونيّةٍ كانَ يؤدّيها جوقةُ موسيقيّين، مكوّنةٌ من حكيمين، قادمين من قرىً جنوبيةٍ متجاورة، قد يختلفان عن بعضهما ويتفقان، ينامانِ على سريرين متجاورين، ويهمّني أمرهما كثيراً.

من مقولات أبو فهد التي التصقت بالذاكرة: [الكلية حيوان ضعيف في جسم الإنسان، والإنسان كـ الآدمي, ما يصيبه إلاّ المكتوب].

منذُ أن قدم “أبوفهد” تحسّنت صحّة جارهِ السّريري الذي يُهمّني أمرهُ كثيراً، أصبح يبتسم، ويتحدث، ويحكي لي قصص طفولتي ويضحك. نفسيتهُ السعيدة أثّرت إيجاباً على وظائف جسدهِ العضويّة، غادر المستشفى بعد أكثر من شهر. ودّعنا “أبوفهد”، وهو بدورهِ وعدنا أنهُ سيخرجُ قريباً، وكأنهُ يحرصُ على رسمِ التفاؤلِ في الطُرقِ بعبثيّتهِ وقراراتهِ ومزاجيّتهِ الطريفة، يحرصُ على ذلك حتّى في الدقيقة الأخيرة. وعدتهُ بالزيارة، وخرجتُ بصحبةِ “والدي”، خرجتُ وبقي “أبوفهد” يُشاهد التلفاز بلا صوت.
إلى أبوفهد, الرجل الأُمّي, الذي باستطاعتهِ أن يقلب مفاهيم وناموس الحياة, دونَ أن يمسّ النظام الكونيّ, كأن يجعل من المستشفى روايةً لم تُكتب بعد, ومن الصوت مادةً غير ضروريّة لاستمرار السّماع. الآن عدتُ مُجدداً, أكتب, وأسمعُ جيداً.
_________________________
كتبتُ هذا النص بتاريخ 28.11.2005
وعلمتُ مؤخرًا، أن أبا فهد، قد تركَ الحياة بصخبها، ودّعها دون أن يمنحها متعة إزعاجه، ودعها مبتسماً، بعد أن أعطى لكلّ شيءٍ فيها اسماً من مخيلته، ولكلّ حدثٍ فيها معنى يفهمه ويعجبه.. رحل، وتركَ غبارهُ النقي في قلبِ الرجل الذي يهمني أمرهُ كثيرًا..

ليس بسبب البعد عن اللغة والانقطاع، ولا الأحداث الكثيرة والتفاصيل المُلحّة التي تتراكم كلّ يومٍ هنا، ولا السعادة المنتشرة بإفراط، ولا العودة إلى المنزلِ وحيدًا الليلة. ليس بسبب الأحزان القليلة جدًا والطارئة، ولا بسبب الانتشاء المعقول، ولا الأمطار المتتالية بكثافة، ولا تحوّل أوراق الشجرة -الطويلة بجوار البيتِ- إلى الأصفر خلال يومٍ واحد، ولا استمرار تساقطها منذ اليوم التالي. وليس بسبب قراءة “في مديح النساء الأكبر سنًّا”، ولا إصلاح سلسلة الدراجة ظُهر الأمس، ولا بسبب شكل زيت سلسلة الدراجة على أطراف أصابعي الذي يُذكّر بشكل أصابع صغيرة وقديمة. وليس بسبب جورج السحلية، ولا رائحة الهيل في المطبخ، ولا بسبب الأفكار العظيمة أو الأفكار الأعظم. وليس بسبب ضغط الدراسة، ولا السنجاب الذي يحاول التغريد، ولا الخمسة عشر دولارًا التي جلبتها رياح الكارما، ولا الفتاة التي أقابلها في باص 81، ولا بسبب باص 81، أو سائقة باص 81. إنما هي مجرد رغبة في الكتابة، الكتابة عن الأسباب االمختصرة ذات التوابع الشاسعة، الكتابة عن البعد عن اللغة والانقطاع الذي طال، وعن الأحداث الكثيرة والتفاصيل المُلحّة التي تتراكم كلّ يومٍ هنا. عن السعادة، الوحدة، الحزن الطارئ والانتشاء، عن أوراق الشجر الصفراء، والنساء الأكبر سنًّا. عن السحالي والهيل. عن الأفكار، الدراسة، السناجب وقلة المال. عن الفتاة التي أقابلها في باص، وعن الباص وسائقة الباص.

 

كنتُ أدخن في الكابينة المخصصة للمدخنين بصالة الإنتظار، الساعة التاسعة صباحًا. درجة الحرارة خارج المطار 17 درجةً مئوية.

وبعد ثلاث ساعاتٍ من التسكع الفضولي بأروقة مطار فرانكفورت، تحركت الطائرة. تحركت إلى الخلف. كانت تسير إلى الوراء بشكلٍ بطيء في البداية، ثم أخذت تزداد سرعتها شيئًا فشيئًا.. شعرتُ أن الجميع غير مبال. أو ربما لم يلاحظ الأمرَ أحدٌ سواي! لا أعرف.. ولكن ما حدث؛ هو أن الطائرة كانت تسير للخلف بشكلٍ سريع، ثم ارتفعت مؤخرتها أولاً، مال رأسي على المقعد المقابل بشكلٍ بطيء، أخذت الطائرة بالارتفاع.. وأقلعتْ!
 

أخذتُ ألتفتُ يمنةً ويسرة، علَّ أحدًا من الركاب يوافقني بملامح ذعر، أو حتى إيماءة استغراب. نظرت في جميع الاتجاهات. الهدوء السائد بداخل الطائرة جعلني أزداد حيرة، ربما كان الأمر عاديًا بالنسبة لهم. ربما أن التكنولوجيا تقدمت خلال العام الذي قضيته في شيكاغو دون أن ألاحظ ذلك، ربما لأنني لم أكن أشاهد التلفاز كثيرًا، أو بالأصح لأنني لم أملك واحدًا هناك. ربما أن طريقة الإقلاع الخلفي تستهلكُ وقودًا أقل، وبذلك تسترشد شركات الطيران استخدامها للوقود خصوصًا مع الأسعار الخيالية له مؤخرًا. كان أمرًا عجيبًا. وكنتُ المستيقظ الوحيد في الطائرة.

عندما انطفأت إشارة ربط الأحزمة، قمت لأستطلع الأمر، مشيت في الممر المظلم الضيّق، عندما وصلت إلى قسم الدرجة الأولى ورجال الأعمال، رأيت باب كابينة القيادة مفتوحاً، كابتن الطائرة يضع يده اليمنى على مؤخرة المقعد المجاور وينظر للخلف بتركيز. كان ينظر باتجاهي. نظرتُ إلى الخلف عله يشاهد شيئاً في نهاية الممر، ولكن لا شيء غير الهدوء المظلم، والركاب النيام. صرخ: ابتعد دعني أرى.

فانسللتُ عائدًا إلى مقعدي وأنا أفكر: لماذا لا يتسخدم المرايا الجانبية!

بعد ست ساعاتٍ من التحليق الخلفي، أعلن الكابتن عن وصولنا إلى مطار الملك خالد، درجة الحرارة الخارجية 46 درجة مئوية. وبمجرد أن خرجنا من باب الطائرة، ومشينا بداخل الخرطوم الذي يقود إلى إحدى بوابات المطار، أشعل الرجل السائر أمامي سيجارة.

 behindglass

لا أدري لماذا ركبتُ أوتوبيس “خطّ البلدة” في هذهِ الليلةِ التعيسةِ الأخرى، ولا أدري أيضاً إلى أيّ مكانٍ سأنتهي. ما أعرفهُ أنني فرحتُ بعد أن هبط إلى “الشميسي” ذلك الراكب الذي خنقني برائحتهِ النتنة، أستطيعُ أن أستنشقَ بؤسي الآن بألمٍ عميق دونَ أدنى مُعكِّر.

في كلِّ يوم أستيقظُ باكراً، بعدَ النُباح مُباشرة، وقبلَ صِياح الديكِ بفترةٍ قصيرة. بالتحديد أستيقظُ عندما يصفعني والدي أو يتقيأ على جسدي النحيل ماءً كان يتمضمضُ بهِ جوار الصنبور المنخفض، وفي كلّ يومٍ أيضاً يبدأ بتوزيعِ تعليماتهِ ووصاياه على مسمعي ومسامعِ والدتي وأخوتي، والدي الذي سقطَ مغشياً عليهِ قبل عشر سنوات، ثم استيقظَ مشلولاً، ليعلنَ حنقهُ على كلّ شيء، ويسنّ قوانينهُ الجديدة، ويعطي دوراً لكلِّ فردٍ في العائلة.

دائماً ما أكون أوّلَ الخارجين من بيتنا المتهالك، وكأنني أستعجلُ الهربَ إلى جحيمي، الجحيم الأخفُّ وطأةً من البقاء في البيت، أهيمُ على سحنتي، أجدلُ خيوطَ الشمسِ الأولى وأشكالَ الصبيةِ السُعداء الذاهبين إلى المدارس، أجدلُ الأرصفة وأوراقَ الشجرِ وعُمّال النظافةَ البطيئين، بنظراتي أجدلُ كلَّ شيءٍ وأنا سائرٌ إلى مكانٍ يختلفُ عن مكانِ الأمس، يجب أن يختلف، وإلاّ سيغضبُ منّي والدي، ويجب أيضاً.. ألاّ يغضب!

أصلُ إلى موقعي، أقفُ بيأسي، أقفُ بعذاباتي جميعاً، تحتَ صخبِ الأبواق، وتحت دهشةِ المدينةِ المستيقظة للتوّ، ونظراتِ المستحقرين، أولئك الذين يرمقونني من خلفِ زجاجِ سياراتِهم، وكأنني أخطو على أنوفهم. أستهلُّ دوري دون رغبة، أقتربُ من أحدهم فيتجاهلني، أتثاقلُ سائراً إلى آخر، فيبصقُ نظرةً كاسرة، أتخطّاهُ، وتختلطُ الوجوه. أعرفُ تفاصيلها تماماً، دلالاتها، التقاطيع المُبشّرة والأخرى الفارغة، من الوجوه أستطيعُ تحديدَ مدى الرحمة والرفاهية والسهر والعجلة، حتى أنني أستطيعُ التنبؤ إذا ما كان الشخصُ قد تخاصمَ مع زوجته قبل أن يغادر إلى عملهِ أو لا. حركةُ الحاجبِ الواحد: تَعَجُّب، وانقباضُ الفمّ: امتعاض، انخفاضُ الأنفِ: تأفف، وأغلبها تعني: “أنْ لا تقترب أكثر” أعرفُ الكثير من صفعاتِ الملامح.

يمرُّ الوقتُ بطيئاً وترتفعُ الشمسُ متعريةً تماماً، فتعرّي النفوس، أمسحُ عرقي بأكمامي المتّسخة، أضعُ يدي على جيبي لأبقى متحسساً خيبتي وأنا أتنقل بين المركبات أستنشقُ كربون العادمات، وصدَّ العابرين. كلُّ الأشياء تلفظني؛ الشمس، الإسفلت، السيارات، النظرات، نادراً ما يحتويني صوتُ امرأةٍ عطوف من سيارةِ أجرة، أو وجهُ طفلٍ في مقعدٍ خلفي، فأنكفئ بينَ حاجبيهِ المائلين كرقم ثمانيةٍ مقطوع الزاوية، أستظلُّ قليلاً من وهجِ نبذهم وبقيةِ الحواجب، لا يهمُّ إن انتهيتُ فائزاً بورقةٍ نقديّةٍ يتفضلُ بها والده، أو بمجردِّ الهدهدة على حزني بـ “الله يعطينا ويعطيك” تأتي مكررةً ورتيبة من فمِ سائقٍ اعتاد قولها، ولا يُهمُّ أيضاً إن عُدتُ ليلاً بـ غَلّةٍ شحيحةٍ إلى أبي الفقير الحانق على كلّ شيء، ما يهم قولهُ الآن أنني شخصٌ بائسٌ جداً.

عندما أتعب, أجلسُ بجوار الإشارة، أمعنُ النظر في الأشياء، الشحاذين عندَ الإشارات الأخرى، الطائرات التي لا أعرفُ كيف تبدو من الداخل، بلاهة سائقي الأجرة، البُصاق، أقرأ لوحات السيارات، والمحال، وأقرأ أوراق الصحف والفواتير وكلّ ورقةٍ تأتي بها رياحُ السموم الجافّة، أفرحُ عندما أتذكرُ أنني أقرأ، وأحزنُ على حال أخويَّ اللذَين لم يتمكنّا من الدراسة، لأن العدّ كما قال لهم والدي -مُبرراً عدم قُبولهم- لا يحتاجُ إلى دراسة وهما لا يحتاجان لغير العدّ.

أشتتُ الوقتَ بحركاتٍ بلْهاء ونظراتٍ أشدُّ بلاهةً، أتمعّنُ في يافطات الإعلان، صور لأشخاصٍ يضحكون، أجهزة غريبة، مأكولاتٍ لم أرَ مثلها على الطبيعة، أتخيلني آكلها، فيتلاشى الخيال عندما تؤلمني إصبعي بعد قرضٍ متواصلٍ لظفري.

حياةٌ كئيبةٌ، تتشابهُ أيامها في مدينةٍ أشدّ كآبةً ورتابةً، يتشابهُ كلّ شيءٍ فيها ويتناقضُ بذاتِ الوقت، شوارعها، أناسها، طقسها، تخبئ في رحمها مولوداً مُشوهاً. مدينةٌ مُخادعة، كبضاعةِ بائعِ الخضار المغشوشة، ثمراتهُ المستويةُ والممتلئة تغطّي الفاسدَ منها والعفِن، هكذا هي الرياض، دسّت خلف بُهرجها فقراً مُدقعاً، بيوتاً لا تفرح، وأشخاصاً قدِموا إليها منذُ زمنٍ وعفّروا وجوههم في رمالها، ساعدوا في بنائها، وغاب عنهم آنذاك أن يرمموا بيوتهم.. كما غاب ذلك عن والدي. وجدتُ نفسي بها على الهامش، كالريال المعدني تبقى قيمتهُ لكن الجميع لا يستخدمهُ ولا يريده، حتّى أصحاب الدكاكين أمسوا يرفضون التعامل به. ولدتُ هنا، وأجزمُ بانتمائي لهذهِ الصحراء مُتجاهلاً قولَ أبي بأننا من بلدٍ آخر، مُتناسياً عدم قُبولي في الثانوية، ومتجنباً عيونَ أفرادِ “الجوازات”. فهذا الجدب بي، وبحياتي، وهذا البؤس، لا يصلحُ أن ينتمي أبداً إلاّ لهذهِ الصحراء.

في فترةِ الظُهر والعصر الطويلة، أواصلُ دوري مُترنحاً بإجهاد، فألجأ بين الحين والآخر إلى ظلالِ أشجارِ الطُرق، أحواضِ نخيل الأرصفة، أُلهي ذاتي عن الأكل بجمع الخنافس وقتل النمل، أختبئ من سخطِ السماء والأرض ومن عليها، من الشرطة، من سيارات الهيئةِ بأوقاتِ الصلاة، فلا أصلي لأن المساجد منطقةُ عملٍ مختصةٍ بوالدتي وأخويَّ الصغيرين، هكذا أبررُ لذاتي.

أفكرُ أحياناً بأن أحبّ فتاةً ما، أيّ فتاةٍ تنظر إليَّ بغرابة، أيّ فتاةٍ بإحدى السيارات العابرة، أريدُ أن أصنع نتوءاً في حياتي، شيئاً ما يجعلها مختلفة، أريد أن أجرّب الحُب، وأن أكتب رسالةً تحتَ ظلِّ نخلة، وأسقطها بداخلِ باصٍ متهالكٍ مفتوحُ النوافذ لجامعة عليشة، حيثُ ستدرس، أو بداخلِ أي مركبةِ ستستقلّها. لكني سرعان ما أعترفُ بسخفِ الفكرة وغبائي، ثم أقرعُ زجاجةَ أقرب سيارةٍ وأدعو لمن فيها بالتوفيق وكثرة المال.

إذا خيّم الليل، تخلعُ هذهِ الغانيةُ رداءها، وتمتلئ انثناءات جسدِها الغضّ بغرائزِ الشباب. تزدحم، تفيضُ الشوارع بالسيارات، وكأنَّهم جميعاً ذاهبون إلى مكانٍ واحد، وكأنَّهم يتسابقون، وكأنَّ الليل يتربّصُ بهم. أنا على يقينٍ من أنَّ نصفهم لا يدري أيَّ اتجاهٍ يسلك، وإلى أين يذهب! تنبعثُ الموسيقى الصاخبة من عرباتٍ فارهة، ومن نوافذِها تُغادرُ أيضاً أيادٍ نظيفةٍ بأوراقَ صغيرةٍ تحملُ أرقامَ هواتفٍ وقصصاً لم تُحكى بعد، قصص رغباتٍ مغيّبة. أخافُ هذا الوقت، وأخافُ منهم، وكلّ شيء. لا أنسى الأربعةَ الذين غادروني مضرّجاً بدموعي على الرصيف في ليلةِ فوزِ المنتخب بعد أن أخذوا حفنةَ الريالات منّي ربطوني بعلمٍ أحمرٍ ثم ضربوني. ولا أنسى أصحابَ الدباباتِ المزعجة، عندما طاردني أحدهم وأصطدمَ بي لأسقط، وبدأ باستعراضِ قوّةِ ركلاتهِ أمام أصدقائه، دون سبب، ركلني في بطني وعلى وجهي، ركلني كثيراً، ثمّ امتطوا دباباتهم ورحلوا، لا أنسى هاتين الليلتين، فقط، لأنني عندما عُدتُ إلى البيت في المرتين كنتُ أرى دموع والدي. والدي الحانق على كلّ شيء.

أنهي يومي بالهرب، كما قضيتهُ كاملاً بالهرب. أنهيهِ هارباً من بكاء أخي ومن حزن والدتي، هارباً من صوتِ والدي وأسئلتهِ بعد أن أعطيهِ ما معي، متدثّراً بغطائي القديم، كـ قِدمِ الفقر في العالم، متجاهلاً صورَ اليومِ الحافل، ومشاهدَ غرست سكاكينها في القلب، في لب مشاعري، أدثّر كلّ شيءٍ بي وأهربُ بشوقٍ إلى أحلامي الكثيرة، أحلامي التي لا أدري.. في أيّ مكانٍ ستنتهي..

لم يبق في الأتوبيس سوى أربعة أشخاصٍ والسائق، وأنا. تذكرتُ الآن أنني أجهلُ تاريخَ اليوم، وأجهلُ الساعة بالضبط، كي أوقّع في نهايةِ هذهِ الورقة كما رأيتُ الكُتّاب الكبار يفعلون في بعض أوراقٍ متهالكة قرأتُها على أرصفةٍ مُتفرّقة. لن أفعل مثلهم فلستُ سوى بائسٍ كبير، أركبُ أوتوبيس “خطّ البلدة”، ولا أدري أين سينتهي، ما أعرفهُ جيداً أنني وجدتُ قلماً وورقةً بيضاء، نسيها أحد الركّاب على المقعد، فأخذتُ أزفرُ بؤسي بألمٍ عميق دون أدنى مُعكّر.

تمّت في 19 يونيو 2005

أبدو كاحتمالٍ واردٍ جداً، سأحدثُ في أيّةِ لحظة.

أبي العزيز أينما كنت الآن.. أكتبُ لك للمرّة الأولى، وأخصّكَ بصفحاتي الأخيرة من هذه المدوّنة، أريدُ أن تعرفني تمهيداً للقائنا المرتقب. بالمناسبة، أنا من النوع الذي يرتَبكُ عندما يُعرّف بنفسه، أقع تحت ضغط احتمالاتي النرجسيّة التي أتجاهلها كثيراً.

أنا ابنكَ المرتبطُ بالاحتمالات، أسيرُ جوارها، أنا من يجيدُ لغتها، أنا ابنكَ الذي نتأ على الأرض في الوقتِ الذي قذفوا بك من السماء، من مروحيّةٍ أنتَ وعشرات السجناء على يد القائد جاك ماسو ورفاقه، لتمسي رقماً من مليون ونصف المليون رقم من الشهداء. لقد أخبرني بذلك عمّي الذي هرَّبَنا إلى فرنسا، كنتُ رضيعاً بحِجرِ والدتي، كبرتُ وهو يخبرني عن أسرار حربكم، لم يكن ينسى شيئاً طيلة حياته، أو لأكن أكثرَ مصداقيّةً، لقد فعل ذلك مرّةً واحدة، عندما نسيَ أنّ أغلب سائقي الشاحنات في (كليرمون فيران) لا يكترثون بمن يقطع الطريق دون أن ينظر لكلا الاتجاهين، فمات.

أنا أيضاً، وُلدتُ على هيئةِ احتمالٍ بالموت نسبتهُ 80%، خرجتُ معلقاً بالحبل السرّي، ونظرات والدتي المتشنّجة، ومائة حبلٍ نسبيّ اخترتُ منها ما يخصّ الاحتمال المحرِّض، احتمال البقاء، مخيّباً بفعلي ظنّ ثمانين حبلٍ خاصٍ باحتمال النفاد، وبالطبع سأفعل، لأنني كنتُ قادماً من الفَنَاءِ على أيّ حال. بالمناسبة إن (الفَنَاء) هو الاحتمال رقم (3) من القائمة الخاصّة بمكان إقامتك الحاليّة، فأنا على مدى هذهِ السنين لا زلتُ غير قادرٍ على تحديد الأكيد، سأفعل قريباً، وقد يتم ذلك دونَ تلوين.

حسنٌ، دعني أوضّح جزئيّة التلوين.. أنا يا والدي اكتشفتُ أنّ الحياة ليست سوى مصنعٍ كبيرٍ للاحتمالات، ولا مناص من أن تكونَ بدايتهُ على يدِ أحد احتمالين، ماورائيّ، يقضي بالإيمان المطلق بالغيب، بالله. والآخرُ يفيد بصدفةِ بدءٍ محضة، أي أن الاحتمالات -في نقطةٍ قديمةٍ من الوقت- صنعت بدايتها بالصدفة، وبالنسبةِ لي لا أعتقدُ بالصدف كثيراً. أما نحن، أعني الأحياء، فإننا نخضع لاحتمالين أيضاً، الغياب –أنتَ تعرفهُ جيّداً- وهو احتمالٌ مسيطر، يفرضُ نفسه بالتأكيد، وأسمعُ همسهُ الآن. والثاني هو الحضور، التواجد بالحياة، التواجد كنوعٍ ضروري لتجسيدِ عمالةٍ جيّدةٍ لصنع احتمالاتٍ مختلفة: فكريّة، هوائيّة، ورقية، سائلة، احتمالات تحفظ بعيداً عن متناول الأطفال، معلّبة، شهوانيّة، دمويّة، احتمالات مخصصة للرؤوس التي تُعبّأ من الأمام، وأخرى للمعبّأة باحتمالات قديمة.. إلخ، والبشر أفضل صانعي الاحتمالات، جميعهم يفعل بجدارة؛ المتشردّون، رجال الأمن، الفلكيون، السَّاسة، الفلاسفة، المُحقّقون، الأطباء، الفيزيائيون، الهاربون، حتّى رجال الدين؛ إنهم مجرّد مستنتجي وصانعي احتمالات في واقع الأمر، ونصف عمَلهم قائمٌ على تعزيز ما يصنعون، ليتسنى لهم تطبيق النصف الآخر!

أعتقدُ أنّك ستقول بهلوستي، ولن أكترث بقولك، لأني أعي أتني شخصٌ عادي، شخصٌ فهمَ اللعبة جيداً. أنا أكتبُ قوائمَ بما ستؤول إليه الأشياء التي أهتم بها، وإذا قُضيَ أمرُ قائمة فيما بعد، أُلوّن احتمالاتِها باستثناء الصحيح الذي لا أستطيعُ تلوينهُ، لأنه –تماماً- كدقيقةٍ مضت لا أحد يستطيع عيشها والتصرف بها مجدداً. وهذا يا أبي كثيراً ما يُفقدني القدرة على الشعور بالمفاجآت. مثلما حدث مع بدء الأزمة العراقية –إذا كانت أخبارنا لا تصلكم فيؤسفني إخبارك بأن العراق سقطت، كبقيّة الأشياء التي تسقط- حين كتبتُ كلّ القرارات المحتمل صدورها من قبل الأطراف الكثيرة في القضية، والاحتمالات التابعة لكلّ قرارٍ قد يُتّخذ، وردَّة الفعل التي ستحدث على أرضِ الواقع لكلّ التابعات، النتيجة: إنني لا أتفاجأ الآن بأي حدثٍ جديدٍ في العراق، فجميعها –بالنسبةِ لي- مجرد احتمالات غير ملوّنة! إن ما قلتهُ –من أمورٍ قد تُصوِّر حياتي صارمةً ومملة- لا ينفي أنني أُرفّهُ عن نفسي كثيراً، حتّى عندما أقوم بوضعِ احتمالات، هذا بحدّ ذاته فعلٌ مُسلٍ جداً.

سأخبرك بموقفٍ تذكرتهُ الآن، ولك أن تضحك: ذهبتُ لحضور مباراة ليون وباريس سان جيرمان الأخيرة، جربتُ حينها كتابة احتمالات لنتيجة المباراة، لكني لم أشعر بحماسٍ تجاه هذه التجربة ولم أتابع المباراة جيّداً على أيّ حال، فقد أخذتُ أتسلّى خلال الشوط الثاني بالتفكير في الاحتمالات التي من الممكن أن تُجبر حكم الخطّ -الذي كان وحيداً في جهتهِ- على رفع الراية أو الجري إلى الداخل، في الوقت الذي كانت هجمات ليون متتاليةً في الجهةِ الأخرى من الملعب، كانت احتمالات قليلة جداً، مضحكة وغير متوقعّة، مثل اختناق حارس ليون بغطاء قارورة ماء، أو مطاردتهِ من قبل كلب مسعور فقد قرأتُ قبل فترة أن هذا احتمال ممكنٌ في السعوديّة.

صحيح، لم أخبرك بعد أنني في مكّة، لقد وصلتُ قبل يومين، كان الدافع رغبةً بتلبيةِ حاجتي إلى الموازنة بإضفاء عناصر روحانيّة، حاجتي إلى شعورٍ بتقليصِ الاحتمالات الواقعيّة والمنطقيّة، كنتُ أحتملٌ بأني سألمسُ عن قرب الرابطَ اللاهوتيّ الذي يسمحُ لي بالبكاء دون وضع مبرراتٍ مُقنعة، أو إيجاد الدافع الحقيقي وراء الخوف من الغيب. كنتُ أحتملُ أنني سأمرّ بتجربةٍ جديدةٍ تمكّنني، على الأقل، من تكوينِ احتمالاتٍ صحيحةٍ لمشاعر من يقوم بمعاقبة شرٍّ مجازيٍ بالجمرات، أو تجريب القدرة على القيام بمناجاة حاضرة الطرفين مع الله أمام الكعبة، لكنّني تخلّيتُ عن كلّ الدوافع السابقة اليوم، فقد بدأتُ أسمعُ همسَ احتمالاتِ الموت وبشكلٍ جادّ.

لذلك أكتب لك وأنا احتمالٌ مُلِحّ.

أكتبُ لكَ من حجرةٍ في فندق (لؤلؤة الخير) الموشك على الانهيار، إن بنايةً ضيّقةً، قديمةً، متهالكةً، وبطولِ أربعةِ أدوار؛ لن تتمكن من الصمود وهي تحتضنُ أكثر من مائتي حاجّ. لقد رأيتُ الشقوق تتمدد في سقف الحجرةِ بالأمس، كنتُ أتأمل حركتها قبل أن أنام! استيقظت على صوتُ أذان الفجر وهمسِ احتمالات الموت، وها أكتبُ لكَ بعد أن مضت ستّ ساعاتٍ تقريباً، خرجتُ خلالها خمسَ مراتٍ إلى الشارع، إلاّ أنني أطردُ أفكاري وأعود لألوّنها، وفي طريقي أتساءل عن مدى إمكانية توفير علبةَ ألوان للقاطنين في مكان ما بعد الموت! سرعان ما يقطعُ شرودي صوت احتمالاتي الممكنةِ جدّاً، أنتَ تتذكر ذلك الصوت، وعمّي -الذي لم ينسَ سوى مرّة- يتذكّرهُ أيضاً، أليسَ همساً غريباً يا والدي؟ والأغرب أنهُ لا يُخيفني الآن، اعتدتُ عليه بمضي الدقائق وانتشيت، إنهُ كأشياء نجهلها في طفولتنا، كصوت الآباء الذين يموتون باكراً، وكانعدام الصوت قبل حدوث الكوارث، إنهُ صوتُ الجري نحو السّلم عندما يكونُ احتمال سقوط جدارٍ إسمنتيّ أو بابٍ أو ثلاجةٍ حتّى أو ثمانين حبلٍ.. أسرعُ من الوقت المحتمل للنجاة.

تمّت في 27 أبريل 2006

 __________________________

إيلاف- مكة المكرمة «السعودية» 6 يناير2006: روى ناجون من حادث انهيار فندق (لؤلؤة الخير) هولَ الحادث الذي أسفر عن سقوط 76 قتيلاً على الأقل في موسم الحج. وقال الفرنسي من أصل جزائري طيب ميزاشا – 74 عاماً (كنت قد عدتُ للتو من صلاة الظهر عندما سمعت صوتاً رهيباً، اعتقدتُ أنه زلزال). وأكد ميزاشا أن أخبار 17 فرنسياً آخرين من أصلٍ جزائري انقطعت، وقد جاؤوا في إطار مجموعة من الحجاج من مدينة كليرمون-فيران الفرنسية.

لا أريدُ النوم لكني أطفأتُ نور حجرتي الآن؛ في الساعة الثانية من منتصفِ الوِحدة، حيثُ لا شيء يفصلُ بين الشِّعرِ وشَعرُ حاجبي الأيمن، بين الخيال والحقيقة المطلقة، بين التعبير وعدم القدرة على الحديث، في الثواني الأولى من منتصف الأحداث السابقة حيثُ لا حواجز بين استيقاظي الساعة العاشرة مساءً وبين المحاضرة الأولى اليوم، بين حذائي والصرصار، بين كأسِ الشاي وهاتفي المُغلق، بين الليل، النهار، الصلوات الخمس، أبو جهل، الأصدقاء، الفئة الضّالة، رواية موريسون، لقاء الماغوط، مقاطع، مطر الرياض، الغائبة، سجائر دافيدوف، فيلم The Game ، أعطاب سيارتي، العادة السرّية، المدير، صديقة، اللغة الهيروغليفيّة، رائحة المكيّف، الإنترنت، شحّ الكتابة.. إلخ.. وبيني.

بيني وبين والأيام الشاسعة والممتلئة كعواصم الدولِ النامية، بيني وبين إطفائي للنور قبل قليل وصورة صديقٍ مسجون، بيني وبين الحلم في الساعة الثانية وخمسُ دقائق من منتصفِ الأشياء، حيثُ لا فرق ولا تناقض، أجلسُ أمام الشاشة كموظفِ حجز، ولن أنهض حتّى أقطع جميع التذاكر –قتلتُ ذبابةً كانت تسير على الشاشة الآن- لن أنهض حتّى أنهي هذا الزحام، لابدّ أن يتاح مجالٌ للصدّى حالاً، لابدّ أن يعود الفراغ ولو لساعةٍ واحدةٍ من منتصف جميلٍ وغائب.

لذا سأكتب رغماً عن تداخلِ كلّ شيءِ وامتلاء الوقت ونصفهُ الأول، سأكتبُ والذبابة التي قتلتها سقطت على زرّ F5 ، أزحتها بيدي -لا أعتبر هذا تصرفاً مُقرفاً على أيّة حال- إنني أستخدمُ يدي في أشياء كثيرة، شيءٌ طبيعي بالنسبةِ لابتكارٍ مذهل كاليد، أستخدمها لشربِ الشاي، التدخين، وسرقة حلوى وأشياء بحجم الجيب من دكان في منتصفِ الطفولة، أستخدمها لمسح عيني ولبس العدسات، أستخدمها لتأدية حركات شوارع، وفي مرات نادرة جداً استخدمتها بالتربيت وتمرير ارتعاشات الأصابع على عنبٍ رطب، أستخدمها لتقطيع البرتقال وقياس نبضي ومصافحة الناس، أما الآن فأبسطها على الكيبورد وأكتب.

لا أريدُ أن أكتبَ النصف الأول من الكتابة، كعادة الأشياء التي نكتبها في الأوقات التي يكتبُ فيها الآخرون، بل أريدُ أن أكتبَ الأشياء التي لا نكتبها بمنتصفِ الأوقات التي ينشغلُ فيها الآخرون بكتابةِ النصف القديم. أريدُ أن أكتب كما أشعرُ الآن، وأريدُ أيضاً أن أقف قبالةَ اللغة، أمسكُ بخصرها، أن أرقص معها التانجو مثلاً ولا أُقبّلها، بل أقبضُ أُكرة قاموسها ونحوها وإملائها ودلالات كلماتها، وأُقلّبها بين يدي كخبّازٍ يتفننُ في صنع (تميسٍ) ثم يقذفُ بها في النار.

أريدُ أن أكتبَ عن منتصفِ بلد، عن أنصاف حقوق، عن منتصفِ مواسمِ تحليقِ الطيور، عن غياب الثلج أيضاً، وعن الجناحِ الواحدِ لبلبلٍ في قفص، وعن إمكانيةِ تصفيقِ يدِ واحدةِ لمن يجلس في مسرح كوميديّ، أريدُ أن أصفَ في كتابتي حلماً مثل أحلامي التي لا أتذكرها، كأن أكتبُ:

«رأيتُ أنني أجلسُ على رصيفٍ كعادة المتشردين، لكنني كنتُ متكئاً كشيخٍ في البادية، ورأيتُ النمل يأتيني بالجبايةِ من المتكئين على أسرَّة، جاء النملُ بأشياء كثيرة، قضبان الحديد، سيوف، كتب الدم، صمغ في عبوات “لابيلو” وأحمر شفاه، مشالح، روائح كمبوديّة، خيزران ومايكروفونات، أقفال للرؤوس، دُمى لا تستخدم للعروض الأراغوزيّة، وشبك عنكبوتٍ تلتصق به حشرات انقرضت والعديد من الأفكار، ورأيتُ أنني أضعُ الجباية في فم كلب، ثم تحوّل إلى جمل، كان يمضغها كجملٍ شاهدتهُ قبل عام.»

لكني لا أتذكرُ أحلامي على أيّة حال.

أريدُ أن أكتبَ لله عن شعوري بالوحدة، عن شعوري إنَّ يدي رغمَ اعترافي السابق بتعدد استخداماتها إلاّ إنها لا تتمكن من فكّ أزرار قميصي، أريدُ أن أحكي لهُ كيفَ هي قمصاننا، نلبسها بكلّ الفصول. أريدُ أن أكتبَ لمن يتمكن من التنفيذ بأسرعِ وقت، أكرهُ الانتظار، أريدُ أن أكتبَ لبلدان بعيدة، أخبرهم بأنني أجيدُ قيادة السيارة، والكتابة عن الأفلام، والتحقيقات والتقارير الصحافية الثقافية، أجيدُ لغة ونصف إضافةً للغتي الأم وعلى استعداد لتعلم لغتين أُخريين، أجيد الكاراتيه، تكوين العلاقات، إطفاء الأنوار، قتل الذباب، أجيدُ الزراعة وتشريح الفئران، رسم الكاريكاتير والبورتريهات، أخبرهم أنني أملكُ خبرةً في الأعمال الفندقيّة، وأنني قارئٌ جيّد للأدب الروسي والأوروبي والأمريكي، بالإضافة إلى بعض القراءات في الأدب الياباني، متصالحٌ مع الآخر، أحبّ الموسيقى الهادئة، الشاي وسجائر دافيدوف، ترتيب الأغراض على الرفوف، تربية الأسماك، ولا أحب الجدال والإقناع، أريدُ أن أكتبَ لهم أنني إنسان، إنسانٌ جيّد، وأنني أصلح للعمل في أيّ وظيفة، سائق، بائع تحف، حارس شخصي، موصل طلبات بيتزا، صانع ميداليات وتوابيت، ولن أطلب الكثير مقابل ذلك، يكفي أن أعيش حيثُ تكتملُ الأنصافُ الأخرى من الأشياء.

تمّت في 09 إبريل 2006

إنها جدّتي..

ولقد ماتت..

صفيّة، التي لولا أنّها وجدت نفسها -على سبيل القدر- امرأةً قرويّةً، ترعى الغنم، تطرحُ القصب لبقرتها، وتذهب كلّ صباحٍ للسقايّة، ولولا أنها أيضاً كانت تحصد “الخَضير” وتصدحُ بأهازيج المزارعين، لكانت شيئاً آخر لا يختلفُ كثيراً عنها، مثلاً: سيّدةً إنجليزيّةً نبيلة، من الطبقةِ الأرستقراطيّة طبعاً، تجمع اسطواناتٍ موسيقيّةٍ لـ”باخ”، وتحبُّ لوحات بيكاسو وموديلياني النادرة، تكتب مذكّراتها اليوميّة وتجاربَها القديمة بكلّ جرأة، أو لكانت في بيئةٍ مقاربةٍ لبيئتها، مثلاً: كعجوزٍ استكلنديّة تجلسُ على كُرسيٍّ هزّاز، تستظلُّ بمدخلِ منزلٍ ريفيّ، تغزلُ شالاتٍ صوفيّةٍ وهي تنتظرُ عودة جدّي من المزرعة، الذي بالتأكيد لن يكون مختلفاً عن “سراج” النائم في غيبوبةٍ تامّةٍ منذ وفاتها، مثلاً سيكونُ “وليام” المحارب القديم الذي يروي دائماً حكايةَ قتلهِ لخمسةِ جنودٍ إنجليز، بثلاث رصاصاتٍ فقط!

لكنها -ببساطة ودون الحاجة إلى أيّ تبرير- جدّتي صفيّة التي ماتت. أعني أنها هي كما عاشت حقيقةً، لذا كانت تضحك راضيةً، وعندما تفعل ذلك؛ تَظهرُ أسنانها مكتملةً بيضاء كعقدِ لؤلؤ. أكَّدت لي يوماً أنها ليست نادمةً على شيء، أو بالضبط؛ خلال ثمانين سنة لم ترغب بعيشةٍ أخرى، وكما قلتُ: كانت تضحك، رغم أنّها تحزن عندما تحكي قصّةَ “الأغراب”، أولئكَ الذين قالت عنهم:

“كلامُهم يابس، أتوا من الصحراء، لا فيها مطرٌ يُرطّب أصواتَهم، و لا هُم يحصدون.”

متأكدٌ من أنها كانت تستمتعُ باسترجاع الماضي، عدا تلك الفترة الناتئة على سطح ذاكرتها الصلبة، الفترة التي جاء فيها “مطرف” ورجاله، تتذكّر اسمهُ جيّداً كما يفعل أهل القرى المحيطة جميعهم، وعلى كلٍّ، فإن نسيانها لهذا الاسم يُعدُّ أمراً غير واردٍ على الإطلاق، إنه الشخص الذي أطلق عليها في الحقلِ لقباً رافقها حتّى ماتت.

أذكرُ أنني كنتُ جالساً جوار قدميها حينما تنهّدت:

“قديماً يا إدريس، كنّا ورجال القرية نرعى سويّاً، نزرع ونسقي سُعداء، كما فُطرنا عشنا، لكنّهم جاءوا ومنعونا، قالوا بأنّ ما نفعلهُ من عمل الشيطان، بعض النساء امتثلن لأمرهم، فذهبتُ إلى كبيرهم “مطرف”، رجوته بألاّ يمنعنا ممّا جُبلنا عليه من الحقّ، لكنهُ تجاهلني، واستمرّ يردد الكلام الجديد والوعيد. وذات يوم لحق بي رجال رجموني حتّى تفطّرت قدماي.”

ولأنّ جدّتي أُميّة، فمن المنطقي أنها لم تقرأ ما يكتبهُ “الكوني” عن الصحراء. وتنفي بكلامها -من حيثُ لا تدري- فلسفته. ولكي لا تُتّهم بتبنّي مبادئ مُتطرفّة، يجب أن أقول إذا أتينا للحق، إن جدّتي ماتت وهي لم تسمع مُسبقاً بالصحراء الكبرى ولا “الطوارق” وتظنّ أن “تُركيا” امرأة، وأنّ اليهود من الجِنّ!!

بإحدى المرات، وكمحاولةٍ لممازحتها ومشاكستها، كنتُ أتحدّثُ بما لا تفهمه عن العولمة، أنفلونزا الطيور، والإنترنت، فقاطعتني وكأنها تكملُ حديثاً سابقاً:

“لم أترك الزراعة أبداً، ولم يجبرني جدّكَ على بترِ جذوري الضاربة عُمقاً بالأرض، بل لم يكترث مثلي بما لقبوني به، وكان يمازحني باللّقبِ أحياناً، حتّى أنني أحببته عندما يقوله هو، وذلك عندما “أنغزه” في خاصرته، الأمر الذي يجعلهُ يقفزُ بشكلٍ مُضحك ويحاول أن يستفزّني. إنّ جدك يا إدريس إنسانٌ رائع، لم يتخلَّ عنّي ولا عن مزرعته إلا بعد أن قطعها الإسفلت، كنا نعمل بها غير مبالين بكلام الأغراب، ولا الذين تبعوهم من أهل القرية، أجزمُ بأنهم لم يقتنعوا، لكنّ الحديث الذي انتشر حينها، أرهبهم.”

كنتُ استغلّ شرودها وتأمّلها، أتأكد من كونها ليست منشغلةً بتلاوة ما تحفظه من سوَر، أحرّضها على الحديث، ليسَ لرغبتي وحرصي على حِكَمِ ووصايا الجدّات، بل لأنها تملكُ مشاعرَ دافئة، وحِسّاً كوميدياً بريئاً، يشرحُ صدري ويركنِ كلّ تعبٍ خلّفَهُ الترحال. والآن، لم تعد الجنوبُ “صفيّةً” لأُسافر، ماتت، كشجرةِ زيتونٍ أُجتثّت من مكانها. ماتت وهي تُصلّي، تماماً كما قرَّرت وجهرت في أدعيةٍ مضت.

ثمّة الكثير مما أريدُ قوله كتأبينٍ متأخرٍ لروحها بطريقتي، ولكني لا أريدُ أن أبدو كمن يحاول أن يجعل من جدّتهِ رمزاً لثورةٍ ما. كلّ ما في الأمر، أن ثمة عجوز أسنانها مكتملة بيضاء كعقدِ لؤلؤ، عجوز اسمها صفيّة.. ماتت.

في زيارتي الأخيرة، أذكر أنها قامت لتتوضّأ، اتجهت إلى جدّي الذي بالكاد يسمع، جدّي الذي طرحتهُ الأمراض وغاب وعيهُ بعد وفاتها، عندما مرت جوارهُ أفزعتهُ وهي تنغز خاصرته وتقول: “قم صلّ ياسراج”، نظر إليها وهو يعتدل جالساً، ابتسم، ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ وساخر:

“من؟! حمّالة الحطب!”

ضحكتْ جدتي، فبانت أسنانها مكتملةً بيضاءَ كعقدِ لؤلؤ.

تمّت في 13 نوفمبر 2005

نذكرها جيّداً.

نؤكدُ على فعلِ التذكّرِ بـ: جيّداً. باعتبارِ أنها حدثٌ قديم، ومسألةُ الإتقان في استعادة تلك الفترة قد تبدو غير أكيدة، إذ اختفتْ قبل خمسة عشر عاماً، لكنّني وأقراني لا زلنا نتذكرها جيّداً مع أن وجودها في حارتنا المنكفئة على ذاتها لم يتجاوز الشَّهر.

قدِمت في أجازةٍ صيفيّة. كانت أوّل الأيام: «الحرمة» التي تخرجُ بلبسٍ رياضيّ أخضر أثناء غيابِ «رجِلها»، تلعبُ معنا الكُرة في الممرّ الضيّق. خشينا وجودها بيننا، مع أن لونُ شعرها البُنّي يُعجبنا! ثم غدت في آخر الأيام: صديقتنا «منيرة» التي تعطينا «حلاو أبو بقر»، تدفع معنا «قَطَّه» لشراء كرة، وعندما تَعْلقُ فوقَ مظلّة بابِ بيتهم تتسلّقُ الشجرةَ ثم السور وتحضرها. لقد كنا نحرصُ على تنبيهها إذا ما شاهدنا سيّارةً قادمةً من مدخل الحارة، كي تختبئ خلف الباب إلى أن تعبر، وعندما يأتي زوجها لا تغيبُ طويلاً، فهي تطلُ علينا من النافذة أو تفتحُ الباب، نراهما يشربان الشاي في الحوش، وكثيراً ما يخرجانِ سوياً، وقبل أن تصعد السيارة بحجابٍ على شعرها، تنادينا ثم تضحك وهي تودعنا، لم تكن تبالي بخجلنا من زوجها، هو بذاتهِ كانَ لغزاً محيراً لنا! كيف لا يغضبُ منها!؟

حصلنا في الأسبوع الأوّل من قدومها، على أشياء كثيرة. فإضافةً إلى الحلوى ومشاهدة امرأة بشعرٍ بنّيّ تتسلقُ شجرةً، وتركلُ كرةً في الشارع، فقد حصلنا مثلاً: على حكيٍ وافرٍ نتداولهُ عندما نسهر على «الدَّكة» نلعب «أونو» أو «كيرَم» ونستعيدُ صورَ الحرمة الغريبة التي تسكنُ في البيتِ المجاور، تصرفاتها، جُرأتها، كانت موضوعاً شيّقاً، وجديداً بالنسبةِ لنا، المسألة كانت بمثابةِ صدمةٍ مؤثرة، نقلةٍ بتاريخنا البَصَريِّ في الحارة، حتّى أن أحدنا يغشّ أثناء اللعب ولا نكترث، فالنقاشُ محتدم.

الأسبوع الثاني، كنا نتسللُ خلسةً من بيوتنا كي نجتمع على «الدّكة» قبالةَ بيتها وذلكَ عندما بدأ آباؤنا بمنعنا من اللعبِ في الشارع. لقد صدّقوا الإشاعة التي نشرها «الموسوس» تجاه جيراننا الجدد، عندما قال إن منيرة «قـ×بة»، وزوجها «قوَّاد» يستقبلُ الزبائن في الليل. وحقيقةً، لم يكن يُعرف بالموسوس سوى في نِطاقنا، نحنُ الصِّبية، لقبناه، لأنهُ كانَ يتأخر في المسجد بعد الصلاة يراقب الفرّاش العجوز، ينتظرهُ ليتأكد من أنهُ يُغلق الأبواب ويغادر، فقد اتهمهُ يوماً بأنهُ يسرق المصاحف ويبيعها في «الحراج»!. باختصار لقبناه لأنهُ يشكُّ في كلّ شيء، لدرجةِ أنْ حاولَ مرّةً تحريض الآباء علينا إذ قال أنهُ رآنا نُدخّن، ولولا أن أضافَ فيما بعد أنه يَشتَمّ رائحة «بلوت» تنبعثُ من مكان جلوسنا على الدّكة، لصدّقوه، لكن جهلهُ خذله. استغلينا فرصة براءتنا، وبدأنا التدخين بحقّ خلف البيوت.

ذاتَ ليلة، استيقظت الحارة على صوتِ جهاز اللاسلكي لسيارة شرطة، وضجيجٍ يتردد صداهُ بين بيوت شارعنا الضيّق، خرجتُ خلفَ والدي لأشاهد ما يحدث، في البداية لم يجذب انتباهي صياحُ جارنا الجديد على بابه وهو يمسكُ بأوراقٍ في يده، ولا سيارتَيّ الـ«جمس» والموسوس وهو يقفُ مع الشرطي ومجموعة من الرجال المدنيين، المشهد بعمومهِ لم يكن مُحرضاً لفضولي بقدرِ ما فعل منظر سيارة الشرطة عن قرب. أخذتُ أتأملّ مراتبها من الداخل، استمع إلى نداءات اللاسلكي، الطنين، أراقبُ الأضواء الصفراء والزرقاء التي تنبعثُ منها، تتحركُ وتومضُ على جدران البيوت. ولكن سرعان ما عدتُ إلى الحدث، حين سمعتُها تبكي. كانت تصرخُ في وجوههم. إنهُ أمرٌ مربكٌ أن تبكي امرأةٌ أمام رجالٍ كثيرين، مربكٌ بحقّ أن تشاهد بهذهِ السرعة بكاء شخصٍ لم تمضِ ثلاثة أسابيع على معرفتك به، حتّى والدتي -التي كنتُ قد عرفتها عشرَ أعوام- لم أكن قد رأيتُ دموعها بعد. خطوتُ مقترباً من موقع تجمعهم، لكن للأسف لم أتمكن من المشاهدة، فقد نهرني والدي ودفعني إلى البيت.

لا ندري تماماً ما الذي حدثَ تلك الليلة. كلّ ما أعرفهُ ويعرفهُ أقراني، أنًّها لم تلعب معنا الكرة مجدداً، لم نشاهد بعد تلكَ الحادثةِ امرأةً بشعرٍ بنّي تتسلّق شجرة. لم نعد نحصل على أشياء كثيرة، لا حلوى ولا حكايات جديدة نتحدث بها على الدّكة، مرّت شهور ولم نصدّق حقيقةً أخرى عن منيرة غير التي نتذكرها، قالوا بأنهُ قد حُكم عليها بالرجم، وبعضهم قال أنها انتقلت مع زوجها إلى جدّة، آخرون يقولون أنها مسجونة في سجن النساء بالملزّ، حتّى زوجها لم نشاهدهُ سوى مرّةً واحدةً بعد الحادثة بيومين، رَكَنَ سيارتهُ ودخل البيت، انتظرنا، علّها تكونُ بالداخلِ، علّها تخرجُ معه، لكنها لم تخرج، ومضى الليل ولم يخرج هو أيضاً، ومنذ اليوم التالي لم نرَه ولا سيارتهُ ولا منيرة، للأبد.

تمت في 29 ديسمبر 2005