إنها جدّتي..
ولقد ماتت..
صفيّة، التي لولا أنّها وجدت نفسها -على سبيل القدر- امرأةً قرويّةً، ترعى الغنم، تطرحُ القصب لبقرتها، وتذهب كلّ صباحٍ للسقايّة، ولولا أنها أيضاً كانت تحصد “الخَضير” وتصدحُ بأهازيج المزارعين، لكانت شيئاً آخر لا يختلفُ كثيراً عنها، مثلاً: سيّدةً إنجليزيّةً نبيلة، من الطبقةِ الأرستقراطيّة طبعاً، تجمع اسطواناتٍ موسيقيّةٍ لـ”باخ”، وتحبُّ لوحات بيكاسو وموديلياني النادرة، تكتب مذكّراتها اليوميّة وتجاربَها القديمة بكلّ جرأة، أو لكانت في بيئةٍ مقاربةٍ لبيئتها، مثلاً: كعجوزٍ استكلنديّة تجلسُ على كُرسيٍّ هزّاز، تستظلُّ بمدخلِ منزلٍ ريفيّ، تغزلُ شالاتٍ صوفيّةٍ وهي تنتظرُ عودة جدّي من المزرعة، الذي بالتأكيد لن يكون مختلفاً عن “سراج” النائم في غيبوبةٍ تامّةٍ منذ وفاتها، مثلاً سيكونُ “وليام” المحارب القديم الذي يروي دائماً حكايةَ قتلهِ لخمسةِ جنودٍ إنجليز، بثلاث رصاصاتٍ فقط!
لكنها -ببساطة ودون الحاجة إلى أيّ تبرير- جدّتي صفيّة التي ماتت. أعني أنها هي كما عاشت حقيقةً، لذا كانت تضحك راضيةً، وعندما تفعل ذلك؛ تَظهرُ أسنانها مكتملةً بيضاء كعقدِ لؤلؤ. أكَّدت لي يوماً أنها ليست نادمةً على شيء، أو بالضبط؛ خلال ثمانين سنة لم ترغب بعيشةٍ أخرى، وكما قلتُ: كانت تضحك، رغم أنّها تحزن عندما تحكي قصّةَ “الأغراب”، أولئكَ الذين قالت عنهم:
“كلامُهم يابس، أتوا من الصحراء، لا فيها مطرٌ يُرطّب أصواتَهم، و لا هُم يحصدون.”
متأكدٌ من أنها كانت تستمتعُ باسترجاع الماضي، عدا تلك الفترة الناتئة على سطح ذاكرتها الصلبة، الفترة التي جاء فيها “مطرف” ورجاله، تتذكّر اسمهُ جيّداً كما يفعل أهل القرى المحيطة جميعهم، وعلى كلٍّ، فإن نسيانها لهذا الاسم يُعدُّ أمراً غير واردٍ على الإطلاق، إنه الشخص الذي أطلق عليها في الحقلِ لقباً رافقها حتّى ماتت.
أذكرُ أنني كنتُ جالساً جوار قدميها حينما تنهّدت:
“قديماً يا إدريس، كنّا ورجال القرية نرعى سويّاً، نزرع ونسقي سُعداء، كما فُطرنا عشنا، لكنّهم جاءوا ومنعونا، قالوا بأنّ ما نفعلهُ من عمل الشيطان، بعض النساء امتثلن لأمرهم، فذهبتُ إلى كبيرهم “مطرف”، رجوته بألاّ يمنعنا ممّا جُبلنا عليه من الحقّ، لكنهُ تجاهلني، واستمرّ يردد الكلام الجديد والوعيد. وذات يوم لحق بي رجال رجموني حتّى تفطّرت قدماي.”
ولأنّ جدّتي أُميّة، فمن المنطقي أنها لم تقرأ ما يكتبهُ “الكوني” عن الصحراء. وتنفي بكلامها -من حيثُ لا تدري- فلسفته. ولكي لا تُتّهم بتبنّي مبادئ مُتطرفّة، يجب أن أقول إذا أتينا للحق، إن جدّتي ماتت وهي لم تسمع مُسبقاً بالصحراء الكبرى ولا “الطوارق” وتظنّ أن “تُركيا” امرأة، وأنّ اليهود من الجِنّ!!
بإحدى المرات، وكمحاولةٍ لممازحتها ومشاكستها، كنتُ أتحدّثُ بما لا تفهمه عن العولمة، أنفلونزا الطيور، والإنترنت، فقاطعتني وكأنها تكملُ حديثاً سابقاً:
“لم أترك الزراعة أبداً، ولم يجبرني جدّكَ على بترِ جذوري الضاربة عُمقاً بالأرض، بل لم يكترث مثلي بما لقبوني به، وكان يمازحني باللّقبِ أحياناً، حتّى أنني أحببته عندما يقوله هو، وذلك عندما “أنغزه” في خاصرته، الأمر الذي يجعلهُ يقفزُ بشكلٍ مُضحك ويحاول أن يستفزّني. إنّ جدك يا إدريس إنسانٌ رائع، لم يتخلَّ عنّي ولا عن مزرعته إلا بعد أن قطعها الإسفلت، كنا نعمل بها غير مبالين بكلام الأغراب، ولا الذين تبعوهم من أهل القرية، أجزمُ بأنهم لم يقتنعوا، لكنّ الحديث الذي انتشر حينها، أرهبهم.”
كنتُ استغلّ شرودها وتأمّلها، أتأكد من كونها ليست منشغلةً بتلاوة ما تحفظه من سوَر، أحرّضها على الحديث، ليسَ لرغبتي وحرصي على حِكَمِ ووصايا الجدّات، بل لأنها تملكُ مشاعرَ دافئة، وحِسّاً كوميدياً بريئاً، يشرحُ صدري ويركنِ كلّ تعبٍ خلّفَهُ الترحال. والآن، لم تعد الجنوبُ “صفيّةً” لأُسافر، ماتت، كشجرةِ زيتونٍ أُجتثّت من مكانها. ماتت وهي تُصلّي، تماماً كما قرَّرت وجهرت في أدعيةٍ مضت.
ثمّة الكثير مما أريدُ قوله كتأبينٍ متأخرٍ لروحها بطريقتي، ولكني لا أريدُ أن أبدو كمن يحاول أن يجعل من جدّتهِ رمزاً لثورةٍ ما. كلّ ما في الأمر، أن ثمة عجوز أسنانها مكتملة بيضاء كعقدِ لؤلؤ، عجوز اسمها صفيّة.. ماتت.
في زيارتي الأخيرة، أذكر أنها قامت لتتوضّأ، اتجهت إلى جدّي الذي بالكاد يسمع، جدّي الذي طرحتهُ الأمراض وغاب وعيهُ بعد وفاتها، عندما مرت جوارهُ أفزعتهُ وهي تنغز خاصرته وتقول: “قم صلّ ياسراج”، نظر إليها وهو يعتدل جالساً، ابتسم، ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ وساخر:
“من؟! حمّالة الحطب!”
ضحكتْ جدتي، فبانت أسنانها مكتملةً بيضاءَ كعقدِ لؤلؤ.
تمّت في 13 نوفمبر 2005
Pingback: نادي اقرأ » احتمال وارد
Pingback: .. ومآرب أخرى » احتمال وارد