ToGoTea

الأرشيف

رسالة جوّال:
“رغم دهان التعب على أسوار المدينة، ورائحة الجوع المنبعثة من الأجساد، لازالت القاهرة قادرة على تقديم قرابين الفرح للعابرين.”
الشاهين.

مدخل:
قد لا تجدُ فيما سأقوله علاقة بالمسج أعلاه، لكن ذلك لا يعني أنه لم يكن محرّضًا جيّدًا على كتابة ما سيرد أدناه.

الحبق:
إنني أشاهد جدتي في كلّ مكانٍ بهذه المدينة يا شاهين. إنها في كلّ وجوه النساء المسنّات. تتشكل ملامحها في المطاعم، في محطات القطار، وفي التفاتات العابرين. على دراجتي متجهٌ إلى منزل الأصدقاء، شاهدت سوقاً مؤقتاً مقاماً في موقف سياراتٍ مفتوح، كسوق الجمعة في الرياض، أو سوق الاثنين في صامطة، كان سوقاً ممتلئاً بالبائعين المسنين الذين –على ما يبدو- يعرف بعضهم الآخر بشكلٍ جيّد، وكأنهم يمارسون التنقل بين المدن سوياً لبيع سلعهم كما كان يفعل الغجر، دخلت بدراجتي متجولاً بين مباسطهم التي تكثر فيها الخردة والاسطوانات القديمة، وتُباع فيها الحكايات أكثر من بيع السلع. هناكَ رأيتها اليوم، تبيع أشجار الكرسميس، بالتحديد على رصيف المواقف قبالة ملعب البيسبول “رينغلي فيلد” حيث تقام مباريات فريق “الكبز”. كانت أشجارها صغيرة ونضرة، كريحاناتها المدللة المصطفّة إلى جانب جرارها الطينية في بيت القرية. فكرتُ أن أشتري منها شجرة، فقط لأتحدث معها، لأذكّرها بي، بعد أن أكل الدهر ذاكرتها.

خلال الصيف الفائت زرت القرية، وقفت على حقيقةِ تضارُبِ أفكارها، واختلاط الشخصيات والأزمنة في ذاكرتها، حيث قضت جدتي ليلةً كاملةً محاوِلةً إعطائي درسًا في الصبر على النساء، وإقناعي بأنني يجب ألاّ أطلّق نسائي الثلاث، إن لم يكن لأجلها فليكن ذلك لأجل أطفالي. لقد جاريتها تلك الليلة حتى أقنعتها بأنني لن أقوم بتطليق نسائي المتخيلات، وقبل أن أقبّل رأسها وأتمنى لها ليلة سعيدة، أشارت عليّ بأنها مستعدةً للبحث عن رابعة إذا ما رغبتُ بذلك.

لم أشترِ شجرة كرسميس من جدتي، اكتفيت بالخروج والوقوف أمام الإشارة الحمراء على درّاجتي، ومشاهدتها وهي ترمم رسغيها بأكمامها، تخبئ يدها عن الشتاء المستجدّ، الشتاء في بدايته، حيث لم يتعلم بعد لغة الثلج، لازال يهمس بجزيئات الندف متلعثماً، ولكنه ينجح في أن يجبرها على لبس قفازاتها. خلال البخار المنبعث مع أنفاسها، رأيتُ وجهها وهي تنظر إلى الفراغ باتجاهي، ذلك الوجه الذي جعدته السنين ومنحته براءة الكبار.

ذلك الوجه الذي كنت أشاهده دائمًا بعد عبور صحراء الربع الخالي جنوبًا في سيارة والدي، وبعد أن يسرد والدي حكاياته الكثيرة خلال النهار، وتحرس والدتي بصمتٍ الطريق الممتدّ كالعمر أمامنا خلال الليل، ساعات الاستماع إلى طلال مدّاح، عبدالله محمد وغازي علي، دقائق الجدل بيني وبين أخوتي، التعليق واللعب بالكلمات والأسئلة الساذجة، ولحظات الفجر حيث التصاق خدّي بزجاج نافذة السيارة أنظر إلى الجِمال العابرة وأترقب لوحات الطرق التي تعبر بسرعة إلى الخلف وتتركني أعدّ تدرّج أرقام المسافة المتبقيّة على جيزان، وبعد أن يطوي والدي جبال العقبة منزلقاً إلى حيث تتحوّل الجبال السوداء إلى مساحات سَبَخٍ رطبة، والصحراء إلى مزارع مترامية على أطراف الطُرق والأودية، والجِمال العابرة إلى أبقار بُنيّة، خراف بيضاء، حمير رمادية، وكلاب بمختلف الألوان ممتلئة بالبهجة والنزق وهي تجري خلف سيارات العابرين، بعد تلك المسافة يفتحُ خالي بوابة بيتها المتواضع، بسوره المصنوع من الزرب والأثل، ويتنهد والدي تعبَ الطريق وهو يلج بالسيارة إلى الداخل، تبرز صورتها، تقف هناك بذلك الوجه الكثير وجوده مؤخرًا، جوار عشّتها، تنظر إلى الفراغ باتجاهنا مبتسمةً، وتصطف خلفها بانتظام ريحاناتها المدللة، والجِرار التي تقبع تحت حراسة خالي وشمس الصباح الباردة.

إنها في كلّ مكانٍ يا شاهين. وكأن الأماكن تتحدث، تنقل أسرار عابريها، وكأن صامطة قد أسرّت خبر جدتي إلى شيكاگو، وكعادة هذه المدينة المفرطة في تعبيرها، فقد عبّرت بكرمٍ عن جدّتي، تماماً ككرمها في التعبير عن الحياة. لقد كانت موجودةً أيضًا الخميس الفائت في عيد الشكر، حيث دُعيت إلى منزل بيانكا، كانت جدتي تجلس على الطاولة الرئيسية التي يشغلها كبار العائلة، تتحدّث بالإنجليزية ولكنتها اليونانية عن الطبق الذي أعدّته عمّة بيانكا، وكنت أنا على الطاولة الأخرى مع بيانكا وأخيها نيثان، وابن خالها ديفيد وابن خالٍ آخرٍ لا أذكر اسمه. بعد وهلة، انسحبت جدّتي من جوّ الأحاديث الرتيبة هناك وجلست معنا، قبالة مكاني. يناديها الجميع ياياه – تعني جدّتي باليونانية-. أخذت تسألني عن عدد إخوتي. أجبتها بأن لديّ أربع أخواتٍ وأربع أخوة، وأنا الثاني في العائلة، ردت بتعليق مرح حول كوني أصلح أن أكون يونانيًا.

– لا تستحِ يا ابني، لتأكل قدر ما تشاء.
– قد أستحي من أي شيء “ياياه”، سوى الرغبة في الأكل.
– جيّد، أعطني صحنك كي أعبئه لك مرة أخرى، هاتِه..

بعد محاولة التملص منها، نجحت جدّتي بالحصول على صحني وتعبئته بقطع من صدر ديك رومي، بازلاّء، سلطة، وشوربة بامية- بالمناسبة البامية باليونانية: بامياس، وبعد التفكير في ذلك اكتشفت أن ثمة الكثير من أسماء الفواكه والخضروات العربية تعود إلى أصول يونانية كـ بطاطس، طماطس، أناناس- عادت وهي تردد كيف أن جيل اليوم لا يأكل ويتبع موضة الرجيم، الرجيم مرض، قالت وهي تضع الطبق أمامي وتطلب من حفيدتها بيانكا أن تسكب لي مشروباً.

في الطريق إلى البيت، طلبت جدّتي من بيانكا إيصالها إلى بيت أختها، كنت في المقعد الخلفي مع نيثان، وكانت بيانكا تقود السيارة، أما جدّتي فكانت تحاوِل إعطاء حفيدتها درسًا في الصبر على نزق خالها، بعد مضايقته لها خلال وجودنا في بيتهم. بعد دقائق أخرجت بيانكا الغليون، واستأذنت من جدّتي بأن تسمح لها بتدخين الماريونا. كانت قد أخبرتني بيانكا من قبل أن جدتها تحب الأعشاب، ولا تمانع الماريونا لأنها خالية من المواد الكيميائية وغير ضارة صحياً، أشارت إليها بالموافقة.

بعد دقائق، كنت أضع خدّي على نافذة السيارة، أنظر إلى لوحات الطرق، البط حول النهر، والسناجب تحت أشجار الصنوبر، أسبح بسيل من الأفكار المتسارعة، في جوّ ضبابي مليء بالانتشاء، أنظر بداخلي إلى وجه جدّتي خمسة أعوامٍ مضت، في مجلس ابن خالتي، حيث للتوّ وصلت إلى القرية قادماً من الرياض، وهي تعاتب ابن خالتي، تتهمه بالبخل، وتأمره بأن يزيد نصيبي من القات، كنت أحاول التملص من إصرارها، ولكنها نجحت بأن أقنعتني بالجلوس والاستمتاع، لأشعر بذات الانتشاء، وصدى حكاياتها ينساب في الفراغ، كما كان ينساب في بداخل تلك السيارة، جوار النافذة حيث أترقب صوراً من ذاكرتي تعبر بسرعة إلى الخلف وتتركني أعدّ الوقتَ المتبقي على كتابة جدتي.

شيكاگو
3 ديسمبر 2009
The painting “Old Woman” by: R.B.Lindsay

Be Sociable, Share!

10 تعليق على الحبق الحافي. (10)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *