ToGoTea

الأرشيف

توجهنا إلى مطار أوهير، بعد أن تناولنا العشاء الأخير..

وهناك ودعت أصدقائي بعناق أشكّ أنني سأتمكن من وصفه بالسريع في حالة تذكرهِ مستقبلاً. وجدتُ نفسي أقف في طابور التفتيش، وخلفي تبتلع الأرض تلويح أياديهم وأطوالهم تتناقص منحدرين على السلّم الكهربائي. جاء دوري، وقفت بين لوحين، وأشارت إلي الموظفة بأن أفرد ذراعَيَّ وكأنها تصفُ شيئًا هائل الحجم. لو أن الأشعة الحرارية تعري الأفكار كما تفعل مع الأجساد، لمنعتني تلك السيدة من السفر بحجة الحفاظ على هدوء أعصاب المسافرين.

كانت المسافة بين نقطة التفتيش وبوابة المغادرة طويلة على غير عادتها. مشيت وكأن الخطوات تتكوّر حول ذاتها وتعيد سرد ذاكرتها أمامها، وكأنه ديجاﭬو يتكرر كل خمسة أمتار ويعيدني لنقطة البدء؛ بعيدةٌ جدًا تلك الأمكنة التي لا نريد الوصول إليها. أُعلّق على ظهري حقيبة هايكنيـﮓ طويلة تمتد بارتفاع رأسي لتحدّ الفكرةَ من أن تنساب وينزلق العابر خلفي؛ ما كنتُ أفكر به لزجٌ كهلامِ يعيد تشكيل نفسه لا يمكن مسحهُ ولا الإمساك به. يقول بوذا “المتخلصون من الأفكار المستاءة هم الذين يتمكنون من إيجاد السلام حتمًا”، أما أنا فكنت أتخلص من السلام ويزداد استياء أفكاري كلما ابتعدت أكثر..

مشيت وأنا أقاوم رغبةً في التأخّر لأي سبب. لتوديع الأطفال الواقفين أمام الزجاج مثلاً، يراقبون الطائرات أو يرسمون الحروف الأولى من أسمائهم بسباباتهم وسط أبخرة أنفاسهم.

كل الأصوات في المسافة بين نقطة الفحص بالأشعة الكاشفة وبوابة الرحلة كانت تعنيني. كنتُ أستمع إليهم جميعًا يتحدثون بما أفهم، وبما لا أفهم، جهلي به لم يؤثر على درجة أهمية متابعة تلك الأحاديث، كنتُ مصغيًا وكأنه سيتم اختباري فيها بعد ساعة، سأدعى إلى قاعة جانبية ويطلب مني الدكتور ناكاياما إعادة المحادثة التي تمت بين العجوز اليابانية وزوجها عندما تجاوزا السير المتحرك وأشارا إلى كشك القهوة. كنت أتمنى لو أن أحدًا يوقف أعصابي عن التلاعب وينادي باسمي فقط، سألتفت وأجيبه مباشرة وأنا عائدٌ أدراجي دون أن أعطيه فرصة للاستدراك، سأفتعل نبرة المساومة: حسنًا، إذا كنتَ تصرّ وتعتقد أنْ ليس ثمة خيار، فسوف أؤجل الرحلة للأسبوع القادم، أو الذي بعده، لا يهم الوقت، سأؤجلها وحسب.. شكرًا لإخطاري!

وصلت إلى البوابة ولم ينادني أحد. جلستُ وعلى المقعد جواري حقيبة نسائية تفصل بيني وبين سيدةٍ ألمانية. لم أكترث أبدًا بحركة الحقيبة وصوت بكاء الكلب بداخلها، ففي النهاية، سيركب الطائرة وتُفتح الحقيبة ويجلس في حضن سيدته، وسينزل في فرانكفورت ويغادر المطار، وأبقى أنا على مقعد طائرةٍ أخرى أتخيله يضحك في صالة بيت ألماني بلا أسوار..

أعلن الموظف عن حلول موعد الصعود إلى الطائرة، فوقفت السيدة الألمانية ملتقطةً الحقيبة بحرص وخفّة، وجلستُ أراقب طوابير المسافرين تتناقص حتى خليت الصالة من الركاب عداي، وبكل تثاقلٍ وقفت، وتوجهتُ إليه. كان الخرطوم فارغًا، وبعد المنحنى سار باب الطائرة تجاهي. دلفتُ دون ألفت انتباه المضيفة، جلستُ على مقعدي، وأقلعت الطائرة بعدها بوقتٍ لم أدركه ولا يهم على أيّة حال. في تلك اللحظة، لحظة إقلاع الطائرة، بدأت أشعر بطنين حاد يعبئ تجويف رأسي حتى انطفأت إشارة ربط الحزام للمرة الأخيرة.

ثمانية أشهرٍ مرت منذ أن نزلت من الطائرة وأخذتُ أقنع موظف الجمارك بأن الهارد ديسك لا يحتوي على أفلام إباحية، بل على مواد علمية وبحوث ومشاريع عملت على تنفيذها طوال فترة دراستي. ثمانية أشهر مرت منذ أن استقبلني أخي وأخذ يحكي لي حجم الزحام الذي فاتني ونحن نتوسطه. ثمانية أشهر، تساءلتُ فيها كثيرًا عن الذي يمكن قوله في تدوينة حبقٍ حافي. طالت المدة، وكل الأسئلة تقود إلى ذات الإجابة، لا شيء يمكن قوله، وكل قول لا يكتمل بلا خاتمة.

لو أن للحبق الحافي رسمٌ بياني، لكان الزمن هو الخطّ الأفقي، وأحداث وبيئة هذه السلسلة التدوينية خطًا عموديًا، ويشكّل إقلاع الطائرة نزول المقياس الإحصائي ليقطع الزمن عند نقطة ثلاث سنوات وعشرة أشهر، يستمرّ بالنزول تحت الخطّ، حتى هذه اللحظة، حيث أجلس إلى مكتبي القديم فوق سطح البيت، بنفس الوضعية التي كنتُ أجلسها عندما كتبت معظم نصوص كتاب “احتمال وارد”، أشرب قهوة سوداء هذه المرّة، وأكتب هذا.

بالنسبة لي، ستبقى دائمًا تجربة مشوقة، استمتعتُ بها كثيرًا، أعني كتابة الحبق الحافي وأعني أيضًا الثلاث سنوات والعشرة أشهر، بالتأكيد. وحينما أفكر في محتوى هذه السلسلة، ألاحظ أنه ليس سوى عرض سردي يعجّ بالمكان وضبابية الحدث والانتماء، وحيرة الرؤية الشخصية، وصراع الهوية وسطوة اللغة. كما أن تخبطي فيه كراوٍ يشكل عنصرًا كبيرًا من فكرة العرض، كفأر التجارب الذي أُخرج من قفصه وأُدخل متاهةً ساحرة استمتع باكتشاف وتأمل الطريق فيها نحو الجبنة. وفي لحظة متأخرة من الوحدة داخل قفصه، وجد نفسه حائر فيما يمكن فعله بما يحمله من ذاكرة الطريق وجبنة النهاية.

لذا وكما كانت بداية سلسلة الحبق الحافي عن الكتابة كفكرة مجردة، فسأحرص على ألاّ يخلو محتوى نهايتها عن الكتابة نفسها، عن التدوين، وعن ردود فعلك عزيزي القارئ كمؤثر ومحفّز أول للاستمرار.

“التدوين مجرد محادثة مستمرة” أندرو سلفيان – مدوّن.

عندما بدأتُ بتدوين سلسلة الحبق الحافي، لم تكن المسألة سوى محاولة لبدء حديث مع صديقي الشاهين بعد أن غادرت الرياض ولم نعد نجتمع لنتحدث، كانت محاولة لتهييج جِلد الكتابة، لتهرش ذاتها، واستمرّ الحبق الحافي على شاكلة رسائل مستفزّة لذاكرة أشخاص وأمكنة وروائح وأصوات على الأرصفة وفي المقاهي.

أنا على يقين بأنه لولا ردودكم التي أشارت، بعفوية التعقيب أو بعمق الاستطراد، إلى أبواب جدد لنطرقها سويًا، ولولا حديث القراء والإيميلات التي وصلت ولازالت تصل مستفسرةً عن مستقبل الحبق ومكان حذائه الضائع ومصير الشاي، لولا الحوارات التي بُنيت أسفل كلّ مدونة لتوسّع محتواها وتمتدّ كنصّ واحد يتجاوز فيه القارئ أهمية المدوّن، لما استمرّت السلسلة، ولما وجدتُ نفسي الآن أبالغ في ترتيب نهايتها، وأجعل من جزئها الأخير قضية سردية ذات أهمية كبيرة في حين أنها مجرد قفلة سلسلة تدوينية باللغة نجحت في تسويق ذاتها رغم رتابة الحدث بها.

“المدونة هي نسخة غير مُحررة منك.” لوريل فانفوسن – مدوِنة.

وكما أن السلسلة استطاعت تسويق ذاتها وإقناع ذائقة بعض القراء، فهي في ذات الوقت، كأي نصٍ، جلبت من ينتقد محتوها. هنالك من يقول منتقدًا أن الكاتب في الحبق الحافي لم يقدم سوى تفاصيل أحداث حصلت له وكأنه يصنع أهميةً غير مستحقة لما يشاهده، يفكر به، ويعيشه. وهنا أنا أتفق مع ذلك تمامًا، ليس تقليلاً من شأن النص، ولكن لأن التدوين نشأ لهذا السبب. الحبق الحافي ليس سوى تأملات شخص عادي جدًا يجد في الكتابة أداة تعبيرية جيدة، وحصل أن سافر للدراسة في مكانٍ بعيد يحوي ثقافاتٍ متباينة وبيئة جميلة من وجهة نظره، والمصادفة الأخرى أن لدى هذا الشخص العادي جدًا مدوّنة قابلة لأن تعبأ بالحديث الذي يصف فيه مشاهداته متحررًا من الزمن في المساحة التي تصل بين ذاكرته وواقعه.

أتذكر ما كنتُ أشعر به عندما بدأت بالقراءة، أعني قراءة القصص والروايات، لم أكن أبحث عن العبرة أو الرسالة بقدر بحثي عن الصورة، كانت أحداث تتداخل مع ما أعيشه يوميًا وتلتحم به بطريقة غير مبررة، وتؤثر على نظرتي إليه، أتفاعل مع تلك الصور بدافع أنها جزء لم أشاهده في واقعي ومن السهولة أن أتخيله، السفن والبحار والغابات والمدن والأرصفة البعيدة التي يجلس حول طاولات مقاهيها رجال بربطات عنق، ويمشي على شواطئها نساء بقبعات مزينة بالورد، يتحدثون عن الخيول والحياة والسياسة والرياضة والحروب والفقر والمال، مخطئ من يسميها عوالم غائبة، بل كانت حاضرةً في رأسي وأستطيع تصورها من خلال نصوصها، وأتذكرها وأنا أجلس في حصة التعبير أو أقف أمام قبعة جدتي المصنوعة من الحصير، أتذكرها وكأنني عشتها.

جمال تلك القراءات القديمة كان في غياب المثال خلفها، المثال المتاح ابتكاره، الابتكار الذي سيكون زناد تذكر تلك القراءات. رغم أنني بالعمر ضيّقت متعة القراءة بكثرة الأمثلة الجاهزة والتي لا تحتاج إلى ابتكار، إلا أنني لا أزال أنظر لتلك الكتب القديمة بحنين. الحقيقة هي أنهم شاركوا في تشكيل ذاكرتي، ثقافتي ومخيلتي في وقتٍ اشترك فيه ما أراه وما أتخيله في عالم واحد، وأصبح لزاماً عليّ أن أحققه، ويكفيني أن أصنع ذات المتعة لشخصٍ آخر، أقولها بصدق، قارئ واحد يفي بالغرض.

شكرًا لمتابعتكم الحبق الحافي، ممتن لكم جميعًا، لقد كنتم أصدقاء أوفياء رغم كسلي وبطء حضوري. إلى أن يجمعنا الرصيف في لقاء آخر، وتدوين جديد.

This series is dedicated to N

Be Sociable, Share!

14 تعليق على الحبق الحافي (20) الأخير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *